عندما وصل لإنجلترا للمرة الأولى لكي يُكمل الدراسات المتعلقة بعمله في مجال التدريب، وصف المدير الفني التشيلي مانويل بيليغريني كرة القدم الإنجليزية قائلاً: «لقد كانت مليئة بالتدخلات العنيفة، والملاعب موحلة، ورؤوس اللاعبين تصطدم ببعضها بعضاً. هذه هي كرة القدم التي يحبها المشجعون».
وفي 2013 وبعد 15 عاماً، عاد المدير الفني التشيلي مرة أخرى إلى البلد الذي بدأ فيه خطواته التدريبية الأولى، وبعد أن عمل خلال تلك السنوات في تسع مدن عبر خمس دول وثلاث قارات مختلفة منذ رحيله عن تشيلي. جاء بيليغريني ليقود مانشستر سيتي ولكي يواجه الرجل الذي علمه خلال فترة تدريبه - السير أليكس فيرغسون - المدير الفني الأسطوري لفريق مانشستر يونايتد، ونجح في قيادته لانتزاع الدوري الإنجليزي الممتاز.
وما بين يومه الأول طالباً التعليم ويومه الأخير مدرباً في إنجلترا مرت خمسة وثلاثون عاماً، وتغير الكثير والكثير من الأمور، ظهر بيليغريني الخميس الماضي مع فريق بيتيس الإسباني خلال زيارته لملعب «أولد ترافورد» معقل مانشستر يونايتد، حيث تلقى هزيمة ثقيلة 1 - 4 في ذهاب ثمن نهائي «يوروبا ليغ»، لكن لا يجب أن تراهن أبداً على أن هذه ستكون المرة الأخيرة التي يعود فيها بيليغريني إلى الملاعب الإنجليزية.
بيليغريني عندما قاد سيتي للفوز بالدوري الممتاز موسم 2013 - 2014 (غيتي)
ورغم أن خسارة ريال بيتيس برباعية فإن الفريق طامح أن يرد بقوة إياباً في ملعبه، وذلك عطفاً على المستويات الجيدة التي يقدمها هذا الموسم في الدوري الإسباني الممتاز، فقبل مواجهة يونايتد تعادل مع ريال مدريد، كما لا تفصله سوى ثلاث نقاط فقط عن المراكز المؤهلة للمشاركة في دوري أبطال أوروبا الموسم المقبل. وعلاوة على ذلك، حصل ريال بيتيس على لقب كأس ملك إسبانيا، وهي أول بطولة يحصل عليها النادي منذ 17 عاماً. ورغم أن بيليغريني قد حصل على لقب الدوري الإنجليزي الممتاز مع مانشستر سيتي في موسم شهد الكثير من الإثارة والمتعة حتى اللحظات الأخيرة، فإن بطولة كأس ملك إسبانيا التي حصل عليها مع ريال بيتيس ربما تكون أغلى وأعظم إنجازاته على الإطلاق.
شباك بيتيس اهتزت 4 مرات أمام يونايتد ذهاباً لتصبح مهمته في الاستمرار بالدوري الأوروبي صعبة (أ.ب)
لقد جاء بيليغريني إلى إنجلترا في وقت مختلف، كان يشهد كرة قدم مختلفة أيضاً. ويمكن تلخيص تلك الفترة في صورة رائعة لبيليغريني مع بوبي روبسون بالقرب من نزل ريفي يعود إلى القرن التاسع عشر. تعود تلك الصورة إلى عام 1988. حين كان روبسون يتولى القيادة الفنية للمنتخب الإنجليزي، وكان بيليغريني قد اعتزل كلاعب للتو، ولم يكن معروفاً إلى حدٍ كبير في إنجلترا، ولم يكن حتى يعرف هل سيدخل مجال التدريب أم سيعمل في مجال الهندسة. جاء بيليغريني للالتحاق بدورات تدريبية ينظمها الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم، وحضر دورات يحاضر فيها المدير الفني الأسطوري لمانشستر يونايتد السير أليكس فيرغسون.
بيليغريني وأنشيلوتي مدرب الريال (رويترز)
مرت سبعة عشر عاماً قبل أن يلتقي بيليغريني وفيرغسون مرة أخرى، عندما كان المدرب التشيلي يقود فياريال أمام مانشستر يونايتد في دوري أبطال أوروبا. والتقيا بعد ذلك أربع مرات ولم يتلقَ خلالها بيليغريني أي خسارة، وانتهت المباريات الأربع بالتعادل السلبي. وعندما عاد المدير الفني التشيلي إلى إنجلترا لقيادة مانشستر سيتي قبل عقد من الزمن، كان فيرغسون قد رحل عن «مسرح الأحلام» وتغيرت الأمور، لكن المدير الفني الأسكوتلندي المخضرم كان حاضراً في مدرجات ملعب «أولد ترافورد» مساء الخميس يشاهد مانشستر يونايتد بقيادة المدير الفني الهولندي إريك تن هاغ يفوز على بيتيس برباعية، أنهت تفوق بيليغريني على 4 مدربين في حقبة ما بعد فيرغسون حيث فاز التشيلي عليهم جميعاً!
في مانشستر سيتي، شهد بيليغريني منافسة من نوع خاص - رغم أنها لم تكن بنفس شراسة المنافسة بين بوكا جونيورز وريفر بليت في الأرجنتين، أو ريال بيتيس وإشبيلية في إسبانيا، كما يعترف بيليغريني نفسه. وإذا كان بيليغريني قد ترك بصمة واضحة في تاريخ سيتي، فمن المؤكد أن مدينة مانشستر قد تركت أثراً كبيراً فيه أيضاً، تماماً كما فعلت معه كل الأماكن التي عمل بها، مثل سان لورينزو، وبوينس آيرس، وفياريال، ومدريد، وملقة، ولندن وإشبيلية.
بيليغريني أكبر مدربي الفرق الأوروبية عمراً ما زال يطمح بالمزيد (إ.ب.أ)
يقول بيليغريني: «الدورات التدريبية التي حصلت عليها في الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم في بداية مسيرتي التدريبية ساعدتني كثيراً عندما توليت قيادة مانشستر سيتي في وقت لاحق، حيث ساعدني ذلك على رؤية الأمور من منظور إنجليزي. لقد كنت محظوظاً بالعيش في مدينة مانشستر، لكي أرى كيف يعيش مشجعو يونايتد وسيتي كرة القدم ويتنفسونها. النجاح الذي حققه مانشستر سيتي في السنوات الأخيرة جعل مانشستر يونايتد مطالباً بتحقيق المزيد. لقد كان يونايتد هو الأكبر تاريخياً، لكن الأمور بدأت تتغير، والأطفال يميلون إلى تشجيع الأندية التي تحقق الفوز... كرة القدم الإنجليزية تغيرت، لكنها ما زالت تحترم التقاليد. عندما جئت في عام 1988 كان الأمر يتعلق بتمرير الكرة إلى داخل منطقة الجزاء بسرعة، ولا يزال هناك جزء من هذا حتى الآن، فالفريق الذي يتقدم في النتيجة بهدف دون رد تكون لديه الرغبة في إحراز الهدف الثاني والثالث ولا يتوقف عن المحاولة».
وفي الآونة الأخيرة، أظهرت الإحصائيات أوجه الاختلاف بين كرة القدم الإنجليزية والإسبانية: الدوري الإسباني شهد هذا الموسم 98 بطاقة حمراء، في حين شهد الدوري الإنجليزي الممتاز 20 بطاقة حمراء فقط! يقول بيليغريني: «الطريقة التي تلعب بها كرة القدم في إنجلترا هي الأفضل، حيث لا يدعي اللاعبون السقوط كثيراً، كما أن الحكام يتركون المباريات تسير بسلاسة، وهذا أمر مهم للغاية. ويمكن لأندية سيتي ويونايتد وآرسنال وليفربول وتشيلسي وتوتنهام، والآن نيوكاسل، أن تنافس جميعاً على لقب الدوري. توزيع الأموال على الأندية في إنجلترا أفضل، لكن الفجوة كبيرة بين الأندية في إسبانيا».
ويضيف: «لقد دربت أكبر ناد في تشيلي والإكوادور والأرجنتين وإسبانيا، وربما في إنجلترا أيضاً. هناك نوع معين فقط من المدربين الذين يمكنهم تولي القيادة الفنية للأندية الكبرى لأنهم يستطيعون تحقيق الفوز، لكنني لم أحرم نفسي من التحدي، وأشعر بالرضا لتولي القيادة الفنية لأندية مختلفة. أفضل دوري هو الدوري الإنجليزي الممتاز دون أدنى شك، لكن أفضل كرة قدم تُلعب في إسبانيا... انظر إلى دوري أبطال أوروبا، وستجد أن ريال مدريد أو برشلونة هما الأكثر فوزاً. وفي الدوري الأوروبي، يفوز فياريال وإشبيلية».
لكن ماذا عن ريال بيتيس؟ رغم أن هذا الفريق جيد، ويمتلك الكثير من المواهب الرائعة، لكن بيليغريني يعترف بصعوبة المهمة في البطولات الأوروبية. وعندما سُئل عما إذا كان فوز ريال بيتيس بلقب الدوري الأوروبي يعادل فوز مانشستر يونايتد بدوري أبطال أوروبا، رد قائلاً: «أكبر بكثير. مانشستر يونايتد سبق وأن فاز بلقب دوري أبطال أوروبا، ولديه تاريخ عريق. ريال بيتيس لديه هذه الرغبة، لكن لا يمكن مقارنته بنادٍ مثل يونايتد، فمجرد الحصول على فرصة لمواجهة هذا الفريق الإنجليزي العريق يعد شيئاً رائعاً».
بيليغريني ومعاوناه خلال العودة لملعب أولد ترافورد مع فريق منافس جديد (إ.ب.أ)
وقبل انطلاق مباراة ريال بيتيس أمام ريال مدريد في الدوري الإسباني الممتاز، كان ليفربول قد سجل الهدف السابع في مرمى مانشستر يونايتد في المباراة التي فاز فيها الريدز بسباعية نظيفة، لكن مانشستر يونايتد لم يخسر سوى مرة واحدة فقط في 20 مباراة لعبها منذ رحيل مهاجمه البرتغالي كريستيانو رونالدو. يقول بيليغريني: «وجود رونالدو لا يمثل مشكلة أبداً، لأنه لاعب ملتزم ويعمل بدرجة هائلة من الاحترافية، ويمتلك قدرات وفنيات هائلة، ويتفانى في عمله تماماً، بالإضافة إلى الخبرات الكبيرة التي يمتلكها والتي بإمكانه أن ينقلها لباقي زملائه في الفريق. لكن الأمر برمته يتعلق بمجيء مدير فني جديد وضخ استثمارات كبيرة وحدوث تغييرات جديدة، وهذا ليس بالأمر السهل. إنها عملية متكاملة وواسعة النطاق، ولا تتعلق بلاعب بعينه. تن هاغ قاد النادي للحصول على بطولة الآن (كأس الرابطة)، ويلعب بأسلوب جيد، ونأمل أن تسير الأمور على ما يرام في النادي بعد ذلك».
وعن وجود اهتمام قطري بالاستحواذ على مانشستر يونايتد، وهو الأمر الذي قد يجعل النادي أكثر قوة في حال ضخ الكثير من الأموال والتعاقد مع لاعبين جيدين. يدرك بيليغريني جيداً أن القوة المالية أصبحت تلعب دوراً كبيراً في عالم كرة القدم، لكنه يرفض تماماً فكرة أن الأموال وحدها هي التي صنعت النجاح في مانشستر سيتي (المملوك للإمارات)، كما يعترض على فكرة فرض عقوبات بأثر رجعي على النادي بسبب مزاعم انتهاكه لقواعد اللعب المالي النظيف.
ويقول: «الانتقادات الموجهة لمانشستر سيتي غير عادلة. لو كان النادي متقدماً بفارق فلكي عن باقي الأندية من حيث الإنفاق، فربما كان من المنطقي فرض عقوبات عليه، لكن أندية تشيلسي ومانشستر يونايتد وليفربول وآرسنال تنفق أيضاً الكثير من الأموال. عندما جئت إلى سيتي، لم يكن تكسيكي بيغيريستين، وفيران سوريانو (مديرا الرياضة في سيتي) هناك منذ فترة طويلة. لقد قام مانشستر سيتي بعمل رائع للغاية، ولا يتعلق الأمر بالمال فقط. فعلى سبيل المثال، أقال النادي المدرب الإيطالي روبرتو مانشيني، وتعاقد معي لأسباب تتعلق بكرة القدم. وعندما رحلت أنا، أخبروني أنه إذا لم يأتِ جوسيب غوارديولا، فسأعود لقيادة الفريق. لقد عملت لثلاث سنوات، ثم جاء غوارديولا، وكانت هناك استمرارية. هناك أندية كبيرة تضخ الكثير من الأموال والاستثمارات، لكنها لم تستطع القيام بذلك. لقد رأينا أندية تصعد للدوري الإنجليزي الممتاز وتنفق 100 مليون جنيه إسترليني ثم تهبط مرة أخرى، مع العلم بأن 18 نادياً في إسبانيا لا يمكنها إنفاق مبلغ مثل هذا على الإطلاق!».
ويضيف: «لا يمكن أن يُحرم مانشستر سيتي من لقب الدوري، لأنه عاش إحساس الفوز بالبطولة وسط جماهيره التي كانت تحتفل في الملعب. كما حصل الفريق على بطولة كأس إنجلترا على ملعب ويمبلي ورفعها اللاعبون وسط الجماهير. وبالتالي، لا يمكن حرمان اللاعبين من تلك البطولات. تخيل أنهم قرروا سحب هذه البطولات، فهل سيشعر الوصيف الآن أنه هو البطل؟ كرة القدم تتعلق باللحظة التي يتحقق فيها الإنجاز، وبالشعور الذي ينتاب اللاعبين عندما يفوزون على أرض الملعب».
في ملعب «بينيتو فيلامارين، يتزين المدخل بأربع بطولات، هي إجمالي الإنجازات التي حصل عليها ريال بيتيس عبر تاريخه الطويل. وقاد بيليغريني النادي للحصول على إحدى هذه البطولات الأربع. يقول المدير الفني التشيلي عن ذلك: «الفوز بالكأس بعد 17 عاماً من آخر بطولة يحصل عليها بيتيس يعد شيئاً استثنائياً. إنه جيل كامل وأطفال لم يكونوا على قيد الحياة عندما فاز النادي بآخر بطولة. كانت المرة الوحيدة التي حصل فيها ريال بيتيس على لقب الدوري في عام 1935. إنه أمر استثنائي أن تجعل جمهور ريال بيتيس يشعر بهذه السعادة، خاصة أنه يدعم النادي بشكل غير طبيعي وغير مشروط».
ويضيف: «عندما تفوز ببطولة مع الأندية الكبيرة المعتادة على الفوز بالبطولات والألقاب، يكون الجميع سعداء، لكن عندما تصل إلى نهائي الكأس مع ريال بيتيس، وتصل إلى الدور نصف النهائي لدوري أبطال أوروبا مع فياريال، والدور ربع النهائي مع ملقه، وينتظرك الآلاف في المطار، فإن هذه المشاعر لا توصف. لقد فزت بـ12 لقباً خلال مسيرتي التدريبية، لكن هذه التجربة لا تقدر بثمن».
ظل بيليغريني يتحدث خلال هذا اللقاء لمدة ساعة، وقد حان وقت الرحيل تقريباً بسبب وصول لاعبيه لبدء التدريب، لكنه قبل ذلك طرح هذا السؤال: كم عدد المديرين الفنيين الأكبر سناً مني؟ توقف بيليغريني لبعض الوقت ثم قال: «أنشيلوتي؟ إنه أصغر مني بخمس سنوات! أعتقد أن هناك مديراً فنياً أو اثنين أكبر مني».
يقول المدير الفني التشيلي المخضرم، الذي يقضي وقت فراغه في ممارسة الغولف والتنس والجري وركوب الدراجة يومياً: «هناك عُمران: العمر الزمني، والعمر الذي يتعلق بمتطلباتك ونشاطك وحماسك. لقد كان والدي يقول دائماً شيئاً لا يزال عالقاً في ذهني: افعل نفس الشيء الذي فعلته بالأمس، ولن تكبر يوماً! متى ستكبر؟ ستكبر عندما تتوقف عن القيام بالأشياء التي تحبها، وعندما تتوقف أحلامك وتكتفي بما حققته. سوف تنتهي عندما لا تغضب للخسارة. يمكنني أن أقول إنني حققت الكثير من الإنجازات خلال مسيرتي التدريبية، ويمكنني ألا أشعر بالغضب بعد الخسارة، لكنني في الحقيقة أغضب كثيراً بعد الهزيمة ولا أغادر المنزل، وهذه هي شخصيتي ولا يمكنني أن أغيرها الآن. فطالما أنني ما زلت أعمل بنفس الحماس قبل المباريات وكأنني في بداية مسيرتي التدريبية، فأنا إذن على قيد الحياة. الأمر لا يتعلق بالتقدم في العمر، فأنا أبدأ كل مباراة من الصفر! أنا لم أحقق كل شيء، ولا يزال هناك بعض الأشياء التي يتعين علي القيام بها».
ويضيف: «لقد دربت أكبر نادٍ في تشيلي والإكوادور والأرجنتين وإسبانيا، وربما في إنجلترا أيضاً. هناك نوع معين فقط من المدربين الذين يمكنهم تولي القيادة الفنية للأندية الكبرى لأنهم يستطيعون تحقيق الفوز، لكنني لم أحرم نفسي من التحدي، وأشعر بالرضا لتولي القيادة الفنية لأندية مختلفة. أفضل دوري هو الدوري الإنجليزي الممتاز دون أدنى شك، لكن أفضل كرة قدم تُلعب في إسبانيا».
لكن على بيليغريني الذي حصل على شهادة في الهندسة المدنية عام 1979 وكان يحلم باحتراف الغناء أو لعب الموسيقى، أن يجد حلولاً للمعضلة الحسابية عندما يستعد بيتيس لاستقبال يونايتد في ملعبه الخميس المقبل، وهو مطالب بتسجيل ثلاثة أهداف نظيفة على الأقل لتفادي الخروج من الدوري الأوروبي، وقبل ذلك تذكر كيفية التغلب على لعنة الإخفاق أمام الفرق الإنجليزية.