المنتصر في الحرب الروسية ـ الأوكرانية سيحدد ملامح النظام العالمي

مراقبون: الصراع الدائر حالياً نسخة بطيئة لصراع عالمي جديد يتطور في أوروبا الشرقية وليس حرباً شاملة

محتجون ضد السفارة الفرنسية في كنشاسا يرفعون صور بوتين خلال زيارة الرئيس الفرنسي للكونغو (أ.ف.ب)
محتجون ضد السفارة الفرنسية في كنشاسا يرفعون صور بوتين خلال زيارة الرئيس الفرنسي للكونغو (أ.ف.ب)
TT

المنتصر في الحرب الروسية ـ الأوكرانية سيحدد ملامح النظام العالمي

محتجون ضد السفارة الفرنسية في كنشاسا يرفعون صور بوتين خلال زيارة الرئيس الفرنسي للكونغو (أ.ف.ب)
محتجون ضد السفارة الفرنسية في كنشاسا يرفعون صور بوتين خلال زيارة الرئيس الفرنسي للكونغو (أ.ف.ب)

خلال سنوات الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين وحتى أوائل القرن الحادي والعشرين تحدثت حكومات ومحللون عسكريون وأكاديميون وروائيون عن نشوب حرب عالمية ثالثة نووية بسبب أزمة بين الروس والأميركيين. وفي تحليل نشرته مجلة «ناشيونال إنترست» الأميركية، قال المحللان الأميركيان لورانس جيه كورب وستيفن سيمبالا، إن أي فشل في استراتيجية الردع المتبادل بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي طوال سنوات الحرب الباردة كان يمكن أن يؤدي إلى دمار غير مسبوق للحضارة الإنسانية، حتى إن أحد الكتاب قال إن الناجين من مثل تلك الحرب كانوا سيحسدون الموتى.
ولكن هذا السيناريو المرعب لم يحدث لأن القادة الأميركيين، من هاري ترومان حتى جو بايدن، حرصوا على تجنبه. ولكن الرئيس بايدن قال مؤخرا إن الرد الروسي على الدعم الغربي بقيادة الولايات المتحدة لأوكرانيا يمكن أن يوسع نطاق الحرب الروسية في أوكرانيا.
ويقول كوربي مساعد وزير الدفاع الأميركي سابقا والباحث في مركز التقدم الأميركي للأبحاث، وسيمبالا أستاذ العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا الأميركية، إن وجود الديمقراطية الليبرالية والنظام العالمي كله على المحك في الحرب الروسية الأوكرانية. فالمنتصر في هذه الحرب هو من سيحدد ما إذا كان القانون الدولي والحكومة التوافقية والكرامة الإنسانية ستزدهر وتنجح في منطقة أصبحت الآن حرة لكنها كانت في وقت من الأوقات جزءا من الاتحاد السوفياتي السابق.
وبحسب المحللين الأميركيين، فإن الصراع الدائر في أوكرانيا حاليا عبارة عن نسخة بطيئة لصراع عالمي جديد يتطور في أوروبا الشرقية، وليس حربا عالمية شاملة. وتكمن أهمية الحرب في أوكرانيا في حقائق الجغرافيا. فهذه الحرب نقلت القتال إلى أوروبا، وعلى بعد مسافة قصيرة من بعض أغنى دول العالم وأكثرها سلمية. وهناك أوجه شبه كثيرة بين تلك الحرب والحروب الأوروبية السابقة وبخاصة حرب الشتاء التي شنها الاتحاد السوفياتي ضد فنلندا في نوفمبر (تشرين الثاني) 1939، وبخاصة في الأسابيع الأولى للحرب الأوكرانية.
وسيحتفل بوتين بالنصر إذا ما سمح له أي اتفاق سلام بالاحتفاظ بأي مساحة من الأراضي الأوكرانية. فالحكام من نوعية بوتين يستطيعون ادعاء تحقيق النصر مهما كانت نتيجة الحرب الحقيقية. في الوقت نفسه فمن غير المحتمل أن يعيد بوتين أي أرض احتلها طواعية، كما فعل صدام حسين عام 1990، عندما كان يركز بالفعل على غزو الكويت. فمغامرة بوتين في أوكرانيا ستحدد مصيره، حسب تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء للكاتب الروسي ليونيد بيرشيدسكي. ويقول بيرشيدسكي إن أي مقارنة تاريخية هي نوع من الامتداد للأحداث لأن التاريخ لا يعيد نفسه، مضيفا أن حرب روسيا ضد أوكرانيا ليست فقط مجرد سلسلة من الاشتباكات العسكرية التكتيكية، وإنما حرب يخوضها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد كل أسس نظام الدول الأوروبي القائم الذي تمت دعوته في وقت من الأوقات للانضمام إليه، وتراث الحضارة الغربية. فبغزوه لأوكرانيا نقل بوتين نفسه من قائمة القادة الأوروبيين إلى قائمة قادة آسيا.
ويقوم مفهوم بوتين للأوراسية على أساس إقامة قيم نظام روسي مستبد يستند إلى نسخة عصرية من الإمبراطورية الروسية السابقة لكي يحل محل أي نظام أوروبي حالي يستند إلى الديمقراطية السياسية واقتصادات السوق. وعلى عكس الصين، التي أقامت مؤسساتها الاقتصادية لكي تستطيع التكامل مع الاقتصاد الغربي، لم يطور الزعيم الروسي الأدوات التي تسمح له بتكامل اقتصادي أوسع مع باقي أوروبا. وبدلا من ذلك عزل بوتين الاقتصاد الروسي في هيكل مالي يسيطر عليه لكنه راكد. هذا الأمر ينطوي على صراع قوي وحرب حول القيم. فبوتين ينظر للغرب الديمقراطي ليس فقط باعتباره عقبة أمام استعادة روسيا لعظمتها السابقة، وإنما أيضا بأنه يقدم للعالم مجموعة
متدهورة من القيم والإرشادات السياسية والأخلاقية.
وإلى جانب الصين، تحظى الحرب الروسية ضد أوكرانيا بدعم إيران وكوريا الشمالية. ويجمع بين الدول الأربع العداء للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين والآسيويين، انطلاقا ليس فقط من حسابات استراتيجية وإنما أيضا من القيم المعادية للديمقراطية الشعبية. ويعلن قادة هذه الدول أنفسهم ودون خجل طموحهم إلى الحكم الاستبدادي والتوسع العسكري ورفض حقوق الإنسان والهروب من أي محاسبة على إساءة استعمال السلطة. ومثل كل أنظمة الحكم المستبدة، فعندما يواجهون قوى مناوئة داخل مجتمعاتهم، يلقون باللوم في فشلهم على النفوذ الأجنبي.
ومع ذلك فحرب الأفكار الحالية لا تقتصر فقط على ممارسات الدول الأجنبية ولا الجماعات والتنظيمات غير الرسمية المعادية للمصالح الأميركية والقيم الغربية، وإنما تدور داخل الديمقراطيات الغربية نفسها. فمؤيدو الأفكار
غير الديمقراطية، يجدون جمهورا مؤيدا لهم داخل الولايات المتحدة وغيرها من الدول بسبب وسائل الاتصال العالمية التي وفرتها التكنولوجيا الحديثة. فبعض التطبيقات تقدم محتوى سياسيا مغريا، ورسائل يمكن أن تؤدي إلى انقسام الشعوب حول الآيديولوجيات والهوية الوطنية والعرقية وغيرها من السمات. وهناك طوفان الفلسفات المثيرة للانقسام يتدفق من أقبية تجار الكراهية إلى الروافد العليا لوزارات الخارجية.
ويمكن أن تؤدي القدرة على حشد الغوغاء اعتمادا على روايات خطأ أو مثيرة للأحداث إلى نشوب صراع أهلي يمكن أن يعرض النظم السياسية للخطر. كما لم يعد الإرهابيون يفجرون فقط المباني، وإنما يمكنهم أيضا تفجير الإجماع الوطني حول القيم الأكثر أهمية التي تميز بين القادة الديمقراطيين الشرعيين والحكام البربريين المستبدين.
ويختتم الكاتبان الأميركيان كوربي وسيمبالا تحليلهما بالقول إن حرب بوتين ضد الحضارة الغربية تحت لافتة الأوراسية الجديدة، هي عودة إلى عالم أسوأ سواء من الناحية النظرية أو العملية. الصراع الحالي يدور داخل وعبر حدود الدول بما في ذلك الصدام بين أفضل الأفكار بشأن المجتمع المدني ودروس أسوأ تشويه للتاريخ. من المهم تذكر أن الأفكار السيئة تستطيع التدمير تماما كما تفعل القنابل الموجهة؛ وهو ما يحتم على إدارة الرئيس بايدن إبقاء الاتصالات مع روسيا مفتوحة، مع استمرار برنامج تحديث الترسانة النووية الأميركية.


مقالات ذات صلة

مسؤول كبير: أوكرانيا ليست مستعدة لإجراء محادثات مع روسيا

أوروبا القوات الأوكرانية تقصف مواقع روسية على خط المواجهة في منطقة خاركيف (أ.ب)

مسؤول كبير: أوكرانيا ليست مستعدة لإجراء محادثات مع روسيا

كشف أندريه يرماك رئيس مكتب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في مقابلة أذيعت في وقت متأخر من مساء أمس (الخميس) إن كييف ليست مستعدة بعد لبدء محادثات مع روسيا.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا عسكري أوكراني يحتمي أمام مبنى محترق تعرَّض لغارة جوية روسية في أفدييفكا (أ.ب)

قتال عنيف... القوات الروسية تقترب من مدينة رئيسية شرق أوكرانيا

أعلنت القيادة العسكرية في أوكرانيا أن هناك قتالاً «عنيفاً للغاية» يجري في محيط مدينة باكروفسك شرق أوكرانيا، التي تُعدّ نقطة استراتيجية.

«الشرق الأوسط» (كييف)
الولايات المتحدة​ تشمل المعدات المعلن عنها خصوصاً ذخيرة لأنظمة قاذفات صواريخ هيمارس وقذائف مدفعية (رويترز)

مساعدات عسكرية أميركية إضافية لأوكرانيا بقيمة 500 مليون دولار

أعلنت الولايات المتحدة أنها ستقدم معدات عسكرية تقدر قيمتها بنحو 500 مليون دولار لدعم أوكرانيا، قبل نحو شهر من تنصيب الرئيس المنتخب دونالد ترمب.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا من جنازة جندي أوكراني توفي خلال الحرب مع روسيا (أ.ف.ب)

«الناتو»: مليون قتيل وجريح في أوكرانيا منذ بدء الحرب

أعرب حلف شمال الأطلسي (الناتو) عن اعتقاده بأن أكثر من مليون شخص سقطوا بين قتيل وجريح في أوكرانيا منذ شنّت روسيا غزوها الشامل في فبراير (شباط) 2022.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا أظهرت الأقمار الاصطناعية أضراراً بمطار عسكري روسي في شبه جزيرة القرم جراء استهداف أوكراني يوم 16 مايو 2024 (أرشيفية - رويترز)

روسيا تتهم أوكرانيا بقصف مطار عسكري بصواريخ أميركية... وتتوعد بالرد

اتهمت روسيا أوكرانيا باستخدام صواريخ بعيدة المدى أميركية الصنع لقصف مطار عسكري، اليوم (الأربعاء)، متوعدة كييف بأنها ستردّ على ذلك عبر «إجراءات مناسبة».

«الشرق الأوسط» (موسكو)

روته: يجب على «الناتو» تبني «عقلية الحرب» في ضوء الغزو الروسي لأوكرانيا

TT

روته: يجب على «الناتو» تبني «عقلية الحرب» في ضوء الغزو الروسي لأوكرانيا

صورة التُقطت 4 ديسمبر 2024 في بروكسل ببلجيكا تظهر الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته خلال مؤتمر صحافي (د.ب.أ)
صورة التُقطت 4 ديسمبر 2024 في بروكسل ببلجيكا تظهر الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته خلال مؤتمر صحافي (د.ب.أ)

وجّه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) مارك روته، الخميس، تحذيراً قوياً بشأن ضرورة «زيادة» الإنفاق الدفاعي، قائلاً إن الدول الأوروبية في حاجة إلى بذل مزيد من الجهود «لمنع الحرب الكبرى التالية» مع تنامي التهديد الروسي، وقال إن الحلف يحتاج إلى التحول إلى «عقلية الحرب» في مواجهة العدوان المتزايد من روسيا والتهديدات الجديدة من الصين.

وقال روته في كلمة ألقاها في بروكسل: «نحن لسنا مستعدين لما ينتظرنا خلال أربع أو خمس سنوات»، مضيفاً: «الخطر يتجه نحونا بسرعة كبيرة»، وفق «وكالة الصحافة الفرنسية».

وتحدّث روته في فعالية نظمها مركز بحثي في بروكسل تهدف إلى إطلاق نقاش حول الاستثمار العسكري.

جنود أميركيون من حلف «الناتو» في منطقة قريبة من أورزيسز في بولندا 13 أبريل 2017 (رويترز)

ويتعين على حلفاء «الناتو» استثمار ما لا يقل عن 2 في المائة من إجمالي ناتجهم المحلي في مجال الدفاع، لكن الأعضاء الأوروبيين وكندا لم يصلوا غالباً في الماضي إلى هذه النسبة.

وقد انتقدت الولايات المتحدة مراراً الحلفاء الذين لم يستثمروا بما يكفي، وهي قضية تم طرحها بشكل خاص خلال الإدارة الأولى للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب.

وأضاف روته أن الاقتصاد الروسي في «حالة حرب»، مشيراً إلى أنه في عام 2025، سيبلغ إجمالي الإنفاق العسكري 7 - 8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد - وهو أعلى مستوى له منذ الحرب الباردة.

وبينما أشار روته إلى أن الإنفاق الدفاعي ارتفع عما كان عليه قبل 10 سنوات، عندما تحرك «الناتو» لأول مرة لزيادة الاستثمار بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم من طرف واحد، غير أنه قال إن الحلفاء ما زالوا ينفقون أقل مما كانوا ينفقونه خلال الحرب الباردة، رغم أن المخاطر التي يواجهها حلف شمال الأطلسي هي «بالقدر نفسه من الضخامة إن لم تكن أكبر» (من مرحلة الحرب الباردة). واعتبر أن النسبة الحالية من الإنفاق الدفاعي من الناتج المحلي الإجمالي والتي تبلغ 2 في المائة ليست كافية على الإطلاق.

خلال تحليق لمقاتلات تابعة للـ«ناتو» فوق رومانيا 11 يونيو 2024 (رويترز)

وذكر روته أنه خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، أنفق الأوروبيون أكثر من 3 في المائة من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع، غير أنه رفض اقتراح هذا الرقم هدفاً جديداً.

وسلَّط روته الضوء على الإنفاق الحكومي الأوروبي الحالي على معاشات التقاعد وأنظمة الرعاية الصحية وخدمات الرعاية الاجتماعية مصدراً محتملاً للتمويل.

واستطرد: «نحن في حاجة إلى جزء صغير من هذه الأموال لجعل دفاعاتنا أقوى بكثير، وللحفاظ على أسلوب حياتنا».