حكايات عن جنون جمع الكتب

التاريخ الأدبي بوصفه ظاهرة حية

حكايات عن جنون جمع الكتب
TT

حكايات عن جنون جمع الكتب

حكايات عن جنون جمع الكتب

الهوس بجمع الكُتب ظاهرة موجودة بشكل أو بآخر، ومهما جادل المهووسون بالكلمة المطبوعة؛ فإنه أمر يكاد يكون عبثاً محضاً؛ إذ إن مراكمة كمية هائلة من المجلدات لمطلق متعة امتلاكها يبدو على الأقل في شكله المتطرف نوعاً من عُصاب الوسواس القهري؛ وإن كانت جمعيات الطب النفسي لم تُدرجه بعد على قوائمها بوصفه مرضاً معترفاً به. وتتعدد الأشكال الذي يأخذها هذا الهوس: جمع الطبعات الأولى، أو الموقعة من المؤلف، أو الأعمال المصورة، أو الكتب الممنوعة، أو النادرة، أو المطبوعة في وقت معين، أو المخطوطات الأصلية للكتب المشهورة... وغيرها من «الأعراض» الممكنة التي يعود أول نص مكتوب في وصفها إلى عام 1809 في كتاب «جنون الكتب» الذي وضعه القس توماس فروجنال.
أحدث الإضافات في تسجيل حكايات الهوس بالكتب جاءت بقلم أستاذة الإنسانيات بجامعة ستانفورد بالولايات المتحدة، دينيس جيجانت، التي وضعت نصاً جاداً كثيفاً ممتعاً عن ظاهرة جنون جمع الكتب في «أميركا القرن التاسع عشر»، انطلقت فيه من لحظة عرض محتويات مكتبة الكاتب الأميركي تشارلز لامب للبيع، لتنقل لنا أجواء أولئك المهووسين على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، وكيف تحولت عند بعضهم إلى «طريقة حياة»، وتأثيرهم العميق - شئنا أم أبينا - على مجمل الحالة الثقافية في الولايات المتحدة في زمن تحولات كبيرة، كما دورهم في إثارة الاهتمام العام بالكتب والمكتبات العامة والجامعية.
أما تشارلز لامب، الذي جعلت الأستاذة جيجانت من بيع محتويات مكتبته خيطاً ذهبياً يجمع حكايات جنون الكتب في قرن، فقد كان كاتباً بريطانياً - أميركياً مشهوراً في وقته (توفي عام 1834) رغم أنه شبه مجهول الآن، وقد كان لهوسه بالكتب القديمة وفلسفته الخاصة في ذلك تأثير الوباء في نشر اهتمام غير مسبوق بجمع المجلدات على جانبي المحيط الأطلسي. «الكتب الحقيقية» بالنسبة له كانت «كتباً ذات ماض». وقد يشمل ذلك نسخاً امتلكها أدباء معروفون وتحمل آثار قراءتهم لها من فتات الخبز والجبن، أو التي تم قطع ملازمها الملتصقة بسكين زبدة «مستعمل»، أو تعشقت بدخان التبغ، أو انسكب على صفحات منها شراب كحولي، أو سقطت عليها قطرات من الشمع، أو قُطعت منها رسوم توضيحية محددة، أو دُبجت على جوانبها ملاحظات من القراء. هواة جمع الكتب التقليديون على البر الأوروبي كانوا يعدّون أشياء مثل تلك عيوباً تنقص من قيمة النسخة، لكن فلسفة لامب التي تربط بين نُسخ الكتب والأشخاص في علاقة عاطفية خاصة، تحولت إلى مزاج واسع بين جمهور القراءة في «أميركا النصف الأول من القرن الثامن عشر»، وتحول الرجل إلى نسق من قديس للكتب يؤمن به الملايين، مما يفسر الضجة الكبيرة في عام 1848 التي رافقت عرض بعض محتويات مكتبته للبيع في مدينة نيويورك؛ إذ تصدرت أخبارها عناوين صحف الولايات المتحدة حينذاك بعد أن تنافس الأثرياء على اقتناء 60 عنواناً امتلكها لامب، وحقق بعضها أرقاماً فلكية بمقاييس أسعار ذلك الزمان.
وفق جيجانت؛ في كتابها الذي عنونته «جنون الكتب: قصة جامعي الكتب في أميركا»، فإن حمى لامب كانت جزءاً من مزاج عام يملأه الحماس لبناء المكتبات وجمع الكتب ساد أميركا الشمالية مع ازدهار ونزوع بين النخب نحو الاهتمام بالثقافة عموماً، وهو مزاج كان مدفوعاً جزئياً بشعور المنافسة مع أوروبا القديمة بعد الاستقلال عن التاج البريطاني، وتوسع الطبقة الوسطى المرتاحة التي كانت تكرس وقت فراغها للقراءة، والبحبوحة الاقتصادية التي شهدتها مرحلة منتصف القرن التاسع عشر وفرت أموالاً طائلة لكثير من رجال الأعمال الذين صاروا يتفننون في طرق إنفاقها. مثلت الكتب وقتها أداة عصرية لادعاء الثقافة والاستعراض، وأصبح بناء مكتبة خاصة، أو المساعدة في إنشاء مكتبة عامة هائلة ليس مدعاة للتفاخر الشخصي فقط؛ بل كان يتوافق مع الطموح لإظهار النضج الثقافي لأميركا الصاعدة.
تتتبع جيجانت بصبر عجيب مصائر كثير من كتب لامب تلك، وتقودنا في خضم تعقيدات هائلة بسبب عدد الشخصيات المعنية وتعدد الكتب وأشكال الهوس بها؛ بداية من الناشرين، إلى علماء الآثار، مروراً بالأثرياء والتجار الصغار والصحافيين، والمحررين، وكتاب المراجع، وأمناء المكتبات، والممثلين المشهورين، والسياسيين، والشعراء، ورجال الدين، والمحسنين... هناك مثلاً جورج ليفرمور، الذي كان تاجر صوف في بوسطن وتخصص في جمع طبعات الكتاب المقدس، فكان يمتلك المئات منها ويتفاخر بمعرفته تاريخ كل منها بتفاصيله. أيضاً توماس داوز، الذي حقق ثروة صغيرة من صناعة الدباغة وجمع مكتبة من المجلدات الفاخرة بلغ تعدادها نحو 5 آلاف، وقضي سنوات تقاعده محتاراً فيمن يجب أن يرثها عنه.
ونتعرف كذلك على جيمس لينوكس؛ الذي أصبحت مجموعة كتبه الضخمة جزءاً من مكتبة نيويورك العامة، وتصفه جيجانت بأنه كان مهووساً خجولاً كرس جل وقته لتجميع الكتب، و«كانت له عين الصقر في صيد النادر منها، وقد ملأ قصره في قلب نيويورك بالمجلدات لدرجة أنه تخلى عن وضعها على الرفوف، وشرع في تكديس بعضها فوق بعض على الأرض، وكلما امتلأت غرفة بها حتى السقف أغلق عليها الباب وانتقل للتكديس في غرفة أخرى، حتى احتلت الكتب كل أرجاء القصر الكبير. وقد كان كثيراً ما يعجز عن تحديد مكان مُؤلف معين يحتاج إليه، مما قد يبرر وجود نسخ عدة من كثير من العناوين ضمن مجموعته. لكن درة قلبه كانت نسخة تامة ومثالية من (إنجيل غوتنبرغ) الشهير؛ أول كتاب مطبوع في العالم الغربي كله، تمكن هنري ستيفز وكيله من شرائها بعد بحث مضن استمر لسنوات، ليتفوق بذلك حتى على ليفرمور المختص في طبعات الكتاب المقدس والذي امتلك نسخة غير مكتملة من الطبعة النادرة ذاتها».
هناك أيضاً جورج سترونغ؛ وهو محام ثري كان معروفاً في أجواء نخبة نيويورك، وكان تعهد لرفاقه عندما كان مراهقاً بتجميع مكتبة من 12 ألف كتاب مطبوع وألف مخطوطة. ورغم أن انشغاله لاحقاً بعمله، وزواجه، منعاه من تحقيق حلمه كاملاً، فإنه امتلك مجموعة ضخمة من «الكتب ذات الماضي» على صيغة لامب، بما فيها 6 من كتب من مجموعة لامب الخاصة.
وتشير جيجانت إلى أن الهوس بجمع الكتب في «أميركا القرن التاسع عشر» لم يقتصر على هواة التجميع الشخصي؛ بل كان هناك آخرون مثل جوزيف كوجسويل؛ البطل الحقيقي وراء مجموعة «مكتبة أستور» الشهيرة المنسوبة إلى جون جاكوب أستور؛ تاجر الفراء الثري للغاية وقطب العقارات في نيويورك. لم يكن الأخير برجل ثقافة وكتب، لكنه امتلك طموحاً لترك شيء لا يُنسى باسمه، وقد جمعته الأقدار مع كوجسويل الذي كان مثقفاً محبطاً؛ لكنه خبير بالكتب والمعارف، وتوافقا على تأسيس مكتبة عامة، أنفق أستور عليها ماله، وكوجسويل سنواته رغم الراتب الضئيل. ويبدو أن العجوز الثري توقف لاحقاً عن إنفاق الأموال، وتوفي في 1848، لكن كوجسويل استمر بعدها لسنوات مهووساً بمطاردة الكتب، وكان يقضي أيامه في رصد كتالوغاتها وزيارة متاجرها، ومتابعة مزاداتها، ويقضي لياليه بين أكداس منها تصل إلى السقف. لكن إنجازه بعد 20 عاماً كان يثير الإعجاب: لقد أنشأ أفضل وأكبر مكتبة في الولايات المتحدة في زمنها؛ احتوت ما يزيد على مائة ألف مجلد توزعت على نحو 3 كيلومترات من الأرفف. وتقول جيجانت إن من بين مقتنيات «مكتبة أستور» 6 كتب من مجموعة لامب العتيدة.
تعدّ جيجانت أن نصها ليس حول الهوس المرضي بالكتب، بقدر ما هو «تجربة سردية في التاريخ الأدبي الجمعوي الذي ينظر إلى الأدب بعيون محبي الكتب»؛ أي «كظاهرة حية»، توسعت في وقت محدد في أميركا انعكاساً لتطور الحياة الفكرية والثقافة لمجتمع كان يتأهب ليصبح دولة العالم العظمى، وجانباً مهماً من المناخ الذي هيأ لذلك الصعود. لقد كان هؤلاء المهووسون وصيادو الكتب بشكل ما رواداً ضحوا بوقتهم وأموالهم؛ وأحياناً بحياتهم الاجتماعية، لكن جهودهم عادت بالفائدة على أجيال متتابعة.

«جنون الكتب: قصة جامعي الكتب في أميركا» Book Madness
المؤلفة: دينيس جيجانت
Denise Gigante


مقالات ذات صلة

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

كتب غلاف كتاب «العراق دراسات في المتغيرات السكانية»

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

شهد المجتمع العراقي تحولات عميقة في بنيته الديموغرافية، ارتباطاً بما شهده البلد من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وحروب.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب شللي

رومانتيكية فائضة في عالم سريع التغيّر

لم تعُدْ مفردة «الرومانتيكية» تُذكَرُ إلّا قليلاً، وحتى عندما تذكّرُ فغالباً ما تكون في سياق استذكار تاريخ التيارات الأدبية التي سادت في بدايات القرن التاسع عشر

لطفية الدليمي
كتب «سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «مصر والطرق الحديدية» للكاتب محمد أمين حسونة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق مجموعة من الكتب القديمة (أرشيفية - رويترز)

خبراء الكيمياء يحذّرون: الكتب العتيقة تحتوي على صبغات سامة

أطلقت الجمعية الكيميائية الأميركية تحذيراً بشأن المخاطر الصحية المحتملة التي قد تنطوي عليها الكتب القديمة، خصوصاً تلك التي تعود إلى العصر الفيكتوري.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

صدر حديثاً عن «منشورات رامينا» بلندن ديوان شعريّ باللغة الكردية يحمل عنوان «Toza Rojên Berê» للشاعر السوريّ حسين درويش، وهو من ترجمة الشاعر والمترجم ياسين حسين.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث
TT

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «مصر والطرق الحديدية» للكاتب محمد أمين حسونة، الذي يتناول دور هذا المرفق باعتباره مرآة لفهم مشروع التحديث والنهضة في مصر. وفي تقديمه للكتاب، يشير الباحث والمؤرخ د. خالد عزب إلى أن الطبعة الأولى منه صدرت في ثلاثينات القرن الماضي، وأن العمل يرصد بدقة تثير الإعجاب جذور وتطور هذا المرفق الفارق حضارياً رغم أن مؤلفه هو أديب وشاعر بالأساس، كما تقلد مناصب قيادية في هذا المجال.

ويشير المؤلف إلى أن السكة الحديد لم تكن نتاجاً منفصلاً لعملية تحديث مصر، بل جاءت في سياق أشمل إذ أدخلت إلى البلاد العديد من الصناعات بصورة جديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر «مسبك الحديد» في بولاق الذي شُيد على أحدث نظم عصره وتكلف آنذاك مليوناً ونصف المليون فرنك وصممه مستشار محمد علي باشا وهو مهندس الميكانيكا الإنجليزي توماس جالوي، فكان على غرار مسبك لندن وكان يعاونه 5 من الإنجليز و3 من مالطا كرؤساء للعمال والتحق به 40 مصرياً وزعوا على أقسامه المختلفة.

وكان يصّب في هذا المسبك يومياً 50 قنطاراً من الحديد المعد لصناعة الآلات والمراكب فصُنعت به آلات كبس القطن والآلات البخارية وآلات لعصر وتكرير السكر. وكان جالوي أقنع محمد علي، حاكم مصر، باستخدام الآلات البخارية في مضارب الأرز توفيراً للنفقات، فاقتنع الباشا وشُيدت حينئذ ثلاثة مضارب تعمل بالبخار بدأ أولها في مدينة رشيد. وتحول المسبك إلى أحد الركائز التي اعتُمد عليها في مشروع سكك حديد مصر، إذ أمدها بالعديد من مستلزمات المشروع، وهو ما أعطى العاملين به خبرات إضافية جعلت العديد منهم يتنقل لصيانة القاطرات والعربات، بل وتصنيع العربات لاحقاً.

وأدت السكك الحديدية لتوظيف مئات المصريين ممن عملوا في هذا المرفق نتيجة سياسات التعليم في عصر محمد علي وخلفائه، ومن المدارس التي التحق خريجوها بها «مدرسة الإدارة الملكية» 1834 و«مدرسة المعادن» 1834 و«الهندسة» 1835 و«الألسن» 1835 و«المحاسبة» و«الصنائع» 1839، وهكذا تكاملت الأدوات اللازمة لإدارة السكك الحديدية. تواكب مع هذا نمو حركة البريد البريطاني عبر مصر للهند ومستعمرات بريطانيا في شرق أفريقيا والخليج العربي واليمن، فضلاً عن نمو التجارة الداخلية وحركة التصدير من مصر.

وكان أول خط سكك حديدية أنشئ في مصر هو الخط بين القباري في الإسكندرية ومدينة كفر الزيات، وكان خطاً مفرداً تم الانتهاء منه في سنتين فافتتح في 1854، وفي السنة التالية افتتح الخط من كفر الزيات إلى طنطا بواسطة استعمال معدية على النيل بدلاً من الكوبري المعدني الذي شُيد لاحقاً. وفي سنة 1856 افتتح الخط بين طنطا وقليوب والقاهرة، أما ثاني الخطوط فكان خط طنطا المتفرع على مدن سمنود وطلخا ودمياط وافتتح القسم الأول منه 1857. كما بدأ خط الوجه القبلي (الصعيد) من بولاق الدكرور للأقصر وأسوان، حيث تم افتتاح القسم الأول منه 1867 والقسم الثاني من 1896.

وكان من نتاج هذا الصعود المستمر في دور السكة الحديد مصرياً ودولياً أن شرعت بريطانيا في دراسة مد خطوط السكة الحديد من الإسكندرية إلى كيب تاون في جنوب أفريقيا بطول 5 آلاف ميل، منها ألفا ميل في مصر والسودان، كما أدت الحرب العالمية الأولى إلى اعتماد بريطانيا وحلفائها على خطوط السكة الحديد المصرية بصورة كبيرة. وتحولت السكة الحديد في الثلاثينات من القرن العشرين إلى «مصلحة حكومية» قائمة بذاتها على النمط التجاري، وقدر رأسمالها آنذاك بنحو 33 مليون جنيه، وهو رقم مذهل في ذلك التوقيت، ودفع المرفق في عام 1931 لخزانة الدولة المصرية أكثر من مليوني جنيه أرباحاً للحكومة، أي حوالي 6 في المائة من رأسمالها.

وتحولت السكة الحديد في مصر إلى قاطرة للاقتصاد والتنمية في هذه الفترة التاريخية، ومن اللافت للانتباه أنها كانت تساير التقدم في مجالها على الصعيد الدولي أولاً بأول حتى كان يشار إليها بالبنان في التقارير الدولية. ومن ذلك تغيير القضبان من الحديد إلى الصلب بدءاً من عام 1889 لصلابته. وامتلكت مصلحة السكة الحديد ورشاً ومصانع تم إنشاؤها بين عامي 1894 و1910 منها مصنعان في بولاق والثالث في القباري، حيث كانت تتم صيانة القاطرات والعربات، بل تصنيع عربات الركاب ونقل البضائع، وأول عربة قطار صنعت في مصر كانت في عام 1889.