حكايات عن جنون جمع الكتب

التاريخ الأدبي بوصفه ظاهرة حية

حكايات عن جنون جمع الكتب
TT

حكايات عن جنون جمع الكتب

حكايات عن جنون جمع الكتب

الهوس بجمع الكُتب ظاهرة موجودة بشكل أو بآخر، ومهما جادل المهووسون بالكلمة المطبوعة؛ فإنه أمر يكاد يكون عبثاً محضاً؛ إذ إن مراكمة كمية هائلة من المجلدات لمطلق متعة امتلاكها يبدو على الأقل في شكله المتطرف نوعاً من عُصاب الوسواس القهري؛ وإن كانت جمعيات الطب النفسي لم تُدرجه بعد على قوائمها بوصفه مرضاً معترفاً به. وتتعدد الأشكال الذي يأخذها هذا الهوس: جمع الطبعات الأولى، أو الموقعة من المؤلف، أو الأعمال المصورة، أو الكتب الممنوعة، أو النادرة، أو المطبوعة في وقت معين، أو المخطوطات الأصلية للكتب المشهورة... وغيرها من «الأعراض» الممكنة التي يعود أول نص مكتوب في وصفها إلى عام 1809 في كتاب «جنون الكتب» الذي وضعه القس توماس فروجنال.
أحدث الإضافات في تسجيل حكايات الهوس بالكتب جاءت بقلم أستاذة الإنسانيات بجامعة ستانفورد بالولايات المتحدة، دينيس جيجانت، التي وضعت نصاً جاداً كثيفاً ممتعاً عن ظاهرة جنون جمع الكتب في «أميركا القرن التاسع عشر»، انطلقت فيه من لحظة عرض محتويات مكتبة الكاتب الأميركي تشارلز لامب للبيع، لتنقل لنا أجواء أولئك المهووسين على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، وكيف تحولت عند بعضهم إلى «طريقة حياة»، وتأثيرهم العميق - شئنا أم أبينا - على مجمل الحالة الثقافية في الولايات المتحدة في زمن تحولات كبيرة، كما دورهم في إثارة الاهتمام العام بالكتب والمكتبات العامة والجامعية.
أما تشارلز لامب، الذي جعلت الأستاذة جيجانت من بيع محتويات مكتبته خيطاً ذهبياً يجمع حكايات جنون الكتب في قرن، فقد كان كاتباً بريطانياً - أميركياً مشهوراً في وقته (توفي عام 1834) رغم أنه شبه مجهول الآن، وقد كان لهوسه بالكتب القديمة وفلسفته الخاصة في ذلك تأثير الوباء في نشر اهتمام غير مسبوق بجمع المجلدات على جانبي المحيط الأطلسي. «الكتب الحقيقية» بالنسبة له كانت «كتباً ذات ماض». وقد يشمل ذلك نسخاً امتلكها أدباء معروفون وتحمل آثار قراءتهم لها من فتات الخبز والجبن، أو التي تم قطع ملازمها الملتصقة بسكين زبدة «مستعمل»، أو تعشقت بدخان التبغ، أو انسكب على صفحات منها شراب كحولي، أو سقطت عليها قطرات من الشمع، أو قُطعت منها رسوم توضيحية محددة، أو دُبجت على جوانبها ملاحظات من القراء. هواة جمع الكتب التقليديون على البر الأوروبي كانوا يعدّون أشياء مثل تلك عيوباً تنقص من قيمة النسخة، لكن فلسفة لامب التي تربط بين نُسخ الكتب والأشخاص في علاقة عاطفية خاصة، تحولت إلى مزاج واسع بين جمهور القراءة في «أميركا النصف الأول من القرن الثامن عشر»، وتحول الرجل إلى نسق من قديس للكتب يؤمن به الملايين، مما يفسر الضجة الكبيرة في عام 1848 التي رافقت عرض بعض محتويات مكتبته للبيع في مدينة نيويورك؛ إذ تصدرت أخبارها عناوين صحف الولايات المتحدة حينذاك بعد أن تنافس الأثرياء على اقتناء 60 عنواناً امتلكها لامب، وحقق بعضها أرقاماً فلكية بمقاييس أسعار ذلك الزمان.
وفق جيجانت؛ في كتابها الذي عنونته «جنون الكتب: قصة جامعي الكتب في أميركا»، فإن حمى لامب كانت جزءاً من مزاج عام يملأه الحماس لبناء المكتبات وجمع الكتب ساد أميركا الشمالية مع ازدهار ونزوع بين النخب نحو الاهتمام بالثقافة عموماً، وهو مزاج كان مدفوعاً جزئياً بشعور المنافسة مع أوروبا القديمة بعد الاستقلال عن التاج البريطاني، وتوسع الطبقة الوسطى المرتاحة التي كانت تكرس وقت فراغها للقراءة، والبحبوحة الاقتصادية التي شهدتها مرحلة منتصف القرن التاسع عشر وفرت أموالاً طائلة لكثير من رجال الأعمال الذين صاروا يتفننون في طرق إنفاقها. مثلت الكتب وقتها أداة عصرية لادعاء الثقافة والاستعراض، وأصبح بناء مكتبة خاصة، أو المساعدة في إنشاء مكتبة عامة هائلة ليس مدعاة للتفاخر الشخصي فقط؛ بل كان يتوافق مع الطموح لإظهار النضج الثقافي لأميركا الصاعدة.
تتتبع جيجانت بصبر عجيب مصائر كثير من كتب لامب تلك، وتقودنا في خضم تعقيدات هائلة بسبب عدد الشخصيات المعنية وتعدد الكتب وأشكال الهوس بها؛ بداية من الناشرين، إلى علماء الآثار، مروراً بالأثرياء والتجار الصغار والصحافيين، والمحررين، وكتاب المراجع، وأمناء المكتبات، والممثلين المشهورين، والسياسيين، والشعراء، ورجال الدين، والمحسنين... هناك مثلاً جورج ليفرمور، الذي كان تاجر صوف في بوسطن وتخصص في جمع طبعات الكتاب المقدس، فكان يمتلك المئات منها ويتفاخر بمعرفته تاريخ كل منها بتفاصيله. أيضاً توماس داوز، الذي حقق ثروة صغيرة من صناعة الدباغة وجمع مكتبة من المجلدات الفاخرة بلغ تعدادها نحو 5 آلاف، وقضي سنوات تقاعده محتاراً فيمن يجب أن يرثها عنه.
ونتعرف كذلك على جيمس لينوكس؛ الذي أصبحت مجموعة كتبه الضخمة جزءاً من مكتبة نيويورك العامة، وتصفه جيجانت بأنه كان مهووساً خجولاً كرس جل وقته لتجميع الكتب، و«كانت له عين الصقر في صيد النادر منها، وقد ملأ قصره في قلب نيويورك بالمجلدات لدرجة أنه تخلى عن وضعها على الرفوف، وشرع في تكديس بعضها فوق بعض على الأرض، وكلما امتلأت غرفة بها حتى السقف أغلق عليها الباب وانتقل للتكديس في غرفة أخرى، حتى احتلت الكتب كل أرجاء القصر الكبير. وقد كان كثيراً ما يعجز عن تحديد مكان مُؤلف معين يحتاج إليه، مما قد يبرر وجود نسخ عدة من كثير من العناوين ضمن مجموعته. لكن درة قلبه كانت نسخة تامة ومثالية من (إنجيل غوتنبرغ) الشهير؛ أول كتاب مطبوع في العالم الغربي كله، تمكن هنري ستيفز وكيله من شرائها بعد بحث مضن استمر لسنوات، ليتفوق بذلك حتى على ليفرمور المختص في طبعات الكتاب المقدس والذي امتلك نسخة غير مكتملة من الطبعة النادرة ذاتها».
هناك أيضاً جورج سترونغ؛ وهو محام ثري كان معروفاً في أجواء نخبة نيويورك، وكان تعهد لرفاقه عندما كان مراهقاً بتجميع مكتبة من 12 ألف كتاب مطبوع وألف مخطوطة. ورغم أن انشغاله لاحقاً بعمله، وزواجه، منعاه من تحقيق حلمه كاملاً، فإنه امتلك مجموعة ضخمة من «الكتب ذات الماضي» على صيغة لامب، بما فيها 6 من كتب من مجموعة لامب الخاصة.
وتشير جيجانت إلى أن الهوس بجمع الكتب في «أميركا القرن التاسع عشر» لم يقتصر على هواة التجميع الشخصي؛ بل كان هناك آخرون مثل جوزيف كوجسويل؛ البطل الحقيقي وراء مجموعة «مكتبة أستور» الشهيرة المنسوبة إلى جون جاكوب أستور؛ تاجر الفراء الثري للغاية وقطب العقارات في نيويورك. لم يكن الأخير برجل ثقافة وكتب، لكنه امتلك طموحاً لترك شيء لا يُنسى باسمه، وقد جمعته الأقدار مع كوجسويل الذي كان مثقفاً محبطاً؛ لكنه خبير بالكتب والمعارف، وتوافقا على تأسيس مكتبة عامة، أنفق أستور عليها ماله، وكوجسويل سنواته رغم الراتب الضئيل. ويبدو أن العجوز الثري توقف لاحقاً عن إنفاق الأموال، وتوفي في 1848، لكن كوجسويل استمر بعدها لسنوات مهووساً بمطاردة الكتب، وكان يقضي أيامه في رصد كتالوغاتها وزيارة متاجرها، ومتابعة مزاداتها، ويقضي لياليه بين أكداس منها تصل إلى السقف. لكن إنجازه بعد 20 عاماً كان يثير الإعجاب: لقد أنشأ أفضل وأكبر مكتبة في الولايات المتحدة في زمنها؛ احتوت ما يزيد على مائة ألف مجلد توزعت على نحو 3 كيلومترات من الأرفف. وتقول جيجانت إن من بين مقتنيات «مكتبة أستور» 6 كتب من مجموعة لامب العتيدة.
تعدّ جيجانت أن نصها ليس حول الهوس المرضي بالكتب، بقدر ما هو «تجربة سردية في التاريخ الأدبي الجمعوي الذي ينظر إلى الأدب بعيون محبي الكتب»؛ أي «كظاهرة حية»، توسعت في وقت محدد في أميركا انعكاساً لتطور الحياة الفكرية والثقافة لمجتمع كان يتأهب ليصبح دولة العالم العظمى، وجانباً مهماً من المناخ الذي هيأ لذلك الصعود. لقد كان هؤلاء المهووسون وصيادو الكتب بشكل ما رواداً ضحوا بوقتهم وأموالهم؛ وأحياناً بحياتهم الاجتماعية، لكن جهودهم عادت بالفائدة على أجيال متتابعة.

«جنون الكتب: قصة جامعي الكتب في أميركا» Book Madness
المؤلفة: دينيس جيجانت
Denise Gigante


مقالات ذات صلة

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

كتب غلاف كتاب «العراق دراسات في المتغيرات السكانية»

دراسات في متغيرات العراق السكانية... والهجرات القسرية

شهد المجتمع العراقي تحولات عميقة في بنيته الديموغرافية، ارتباطاً بما شهده البلد من تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وحروب.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب شللي

رومانتيكية فائضة في عالم سريع التغيّر

لم تعُدْ مفردة «الرومانتيكية» تُذكَرُ إلّا قليلاً، وحتى عندما تذكّرُ فغالباً ما تكون في سياق استذكار تاريخ التيارات الأدبية التي سادت في بدايات القرن التاسع عشر

لطفية الدليمي
كتب «سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

«سكك حديد مصر»... قاطرة للنهضة والتحديث

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «مصر والطرق الحديدية» للكاتب محمد أمين حسونة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق مجموعة من الكتب القديمة (أرشيفية - رويترز)

خبراء الكيمياء يحذّرون: الكتب العتيقة تحتوي على صبغات سامة

أطلقت الجمعية الكيميائية الأميركية تحذيراً بشأن المخاطر الصحية المحتملة التي قد تنطوي عليها الكتب القديمة، خصوصاً تلك التي تعود إلى العصر الفيكتوري.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

مختارات شعريّة لحسين درويش للكردية

صدر حديثاً عن «منشورات رامينا» بلندن ديوان شعريّ باللغة الكردية يحمل عنوان «Toza Rojên Berê» للشاعر السوريّ حسين درويش، وهو من ترجمة الشاعر والمترجم ياسين حسين.

«الشرق الأوسط» (لندن)

في البدء كان الزمان

غريمي فوربس
غريمي فوربس
TT

في البدء كان الزمان

غريمي فوربس
غريمي فوربس

لم أزل أذكر الضجة الكبرى التي رافقت نشر كتاب «موجز تاريخ الزمان» للفيزيائي الراحل ستيفن هوكنغ عام 1987. مثّل هذا الكتاب حينها انعطافة محسوسة وعملية في تاريخ النشر العلمي على النطاق الشعبي الواسع؛ إذ فضلاً عن شخصية كاتبه ذي العقل الحر والجسد المقيّد بعجلات أربع فإنّ طبيعة المادة المعروضة فيه كانت مثالاً متوازناً للمقدرة على المواءمة العملية بين متطلبات الكتابة الفيزيائية الصارمة وشروط المقروئية الواسعة. كانت «دار المأمون» العراقية المختصة بالترجمة أوّل دار نشر عربية سارعت في ترجمة هذا العمل بعد قرابة السنتين من نشره؛ فقد صدر أوائل عام 1990 أو ربما أواخر عام 1989، ولم يكن مترجمه (باسل محمد الحديثي) فيزيائياً بل كان مختصاً بالهندسة الكهربائية وهندسة الحاسوب والسيطرة والنظم الهندسية. الدهشة الفلسفية والمساءلة الفكرية للأسئلة الكبرى في الكون ليست حصرية على فئة دون أخرى من المهنيين أو العامة.

غلاف «فلسفة الزمان»

قرأتُ الكتاب حينها بشغف، وكان كتاباً رائعاً بكلّ الاعتبارات، لكنّ ما يلفت النظر أنّ هوكنغ بدا وكأنّه آلة احتسابية لا تستطيبُ أيّ ميل فلسفي، هذا إذا لم نَقُل إنّه يرى الفلسفة اشتغالاً غير منتج. قد يستطيع فيزيائي أن يتملّص أو يناور على المداخلات الفلسفية الضرورية عندما يتناول مادة تقنية خالصة، لكن كيف له ذلك وهو يتناولُ مفهوماً غارقاً في لجج التفكّر الفلسفي العميق: الزمن Time الذي يحسبه فيزيائيو عالمنا المعاصر أسبقية على كلّ ما سواه من مكان أو مادة أو حركة. كلّ مفهوم أو فكرة أو موجود مادي إنما هو مقترن اقتراناً شرطياً بالزمان ودالة له. نحن في النهاية مخلوقات الزمان وغارقون فيه. لم أستطِب هذه النكهة العدائية لهوكنغ تجاه الفلسفة، ثم أفصح الرجل لاحقاً عن موقفه الكاره للفلسفة باعتبارها غير كفؤة في تناول الموضوعات مثلما يفعل العلم. هذا رأي هوكنغ بالتأكيد، وثمة كثيرون من أعاظم الفيزيائيين يخالفونه الرأي، مثلما أنّ هناك قلّة يعاضدونه، ومنهم ريتشارد فاينمان، الذي كتب، في كتابه السيري المترجم إلى العربية «أنت تمزح بالتأكيد سيد فاينمان»، أنّ أسوأ يوم في حياته هو ذلك اليوم الذي صارحه فيه ابنه برغبته في دراسة الفلسفة.

الزمان في سياق الفلسفة العلمية

لم يكن كتاب «موجز تاريخ الزمان» أوّل عهدٍ لي بالفلسفة العلمية أو فلسفة الفيزياء (وفلسفة الزمان والمكان على وجه التخصيص). سبق لي في سبعينات القرن العشرين أن قرأتُ كتاب «نشأة الفلسفة العلمية» لفيلسوف العلم الألماني هانز رايشنباخ، الذي ترجمه الفيلسوف الراحل فؤاد زكريا. لطالما أعجبتُ كثيراً بترجمات وأعمال الدكتور زكريا وجهوده الفلسفية التنويرية وانتخابه لأعمال معروفة بثرائها الفكري والفلسفي. أمضيتُ أياماً رائعة مع كتاب رايشنباخ الذي نقرأ فيه موضوعات على شاكلة: قوانين الطبيعة، هل توجد ذرات؟، التطوّر، المعرفة التنبؤية، هاملت يناجي نفسه، طبيعة علم الأخلاق، مقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة. كتاب رايشنباخ - كما أرى - أكثر إمتاعاً بكثير من كتاب هوكنغ، فضلاً عن النكهة الأدبية والفلسفية الرائقة السائدة فيه. ثمة فصل في الكتاب عنوانه: ما الزمان؟ ومن هنا كانت نقطة الشروع لي في التدقيق بمفهوم الزمان على المستوى الفلسفي. علمتُ في سنوات لاحقة أنّ رايشنباخ ألّف كتاباً كاملاً عنوانه «The Philosophy of Space and Time»، لكنّه لم يترجم إلى العربية للأسف، ولم نكن في القرن الماضي بقادرين على اقتناء كلّ ما نرغب بقراءته من كتب لأسباب عملية معروفة.

الفلسفة وأبعاد الزمن

لو سلّمنا بمقولة الفيلسوف كانْت، عن استحالة تعريف أبعاد الزمان الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، فإننا سنغرق في بحار المقولات الفلسفية ونتبدد ونبدد الزمان في تساؤلاتنا. وضَعَ كانْت أمامنا شرط المستحيل؛ فالماضي هو الذي تبدّد وما عاد موجوداً، والمستقبل هو ما لم يَحِن أوانه بعدُ؛ فلا يتبقى من ممكن خاطف كالبرق الخُلَّب إلا الحاضرُ، وهو ليس الوقت كله، لكنه الزمان الذي تدركه الحواس ويعيه العقل وتعبره أجسادنا الحية في حركتها أو سباتها.

يكتب القديس أوغسطين: الزمان هو أكثر من شيء واحد، فهو بُعْدُ الوعي الذي يتوجه انطلاقاً من الحاضر نحو المستقبل في الانتظار، ونحو الماضي في التذكر، ونحو الحاضر في الانتباه؛ وعلى هذا فالحاضر هو برهة انتباهنا لوجودنا في المكان والزمان، أو كما يقول برغسون: «لا وجود للماضي ولا للمستقبل. ليس الوقت إلا هذا الشعور بالتعاقب لهذه اللحظات الآنية، وإنّ ذكاءنا هو الذي يفهم الوقت انطلاقاً من اللحظة الآنية، يربطه بالمكان لأنّ الآنية ليست من طبيعة الزمان، وإنما من طبيعة المكان. في مقابل هذا الزمان الفيزيائي هناك الزمن النفسي (الديمومة). الديمومة ليست آنية، هي متصلة لأن الشعور في حاضره غير منفصل عن ماضيه وهو مقبل في الوقت نفسه على المستقبل، كما أنها (الديمومة) ليست قابلة للقياس ومتجانسة. هذا هو الزمان قبل أن يتصرف فيه ذكاؤنا ويفككه إلى لحظات متمايزة».

الزمن عند هايدغر هو ما يحقق لنا الوجود؛ فهو يرى أن الزمان يقذف الإنسان باستمرار، وهو ما جعله الوحيد الذي يوصف بأنه موجود. الوجود لا يعني الخضوع للزمان، وإنما أن يقذفك الزمان دوماً نحو المستقبل، ونحو الممكن، ويكون عليك الاختيار وتبريرُ الاختيار. هذا هو القلق الوجودي الملازم للكائن البشري.

لكن ثمة اقتران يبدو حتمياً في حدود خبرتنا البشرية بين الزمان والمكان. استطاع آينشتاين في نظريته النسبية العامة، وبضربة تنمّ عن أستاذية لامعة، ربط الزمان والمكان في مفهوم واحد هو الزمكان Space-time، لكن يبدو أنّ الزمان يتقدّمُ على المكان. هذه العلاقة الشرطية بين الزمان والمكان هي الأساس الفلسفي الذي تنبثق منه كلّ تساؤلاتنا العميقة بشأن وجودنا البشري. نحن في النهاية كينونات مادية توجد في محيط متصل من الزمكان، ومحكومون بشروطه، وليست كل مفاهيمنا عن الكينونة والهوية والعلاقات البشرية سوى تجسيدات لوجودنا في هذا الزمكان.

فلسفة الزمان في كتاب حديث

لم تعد فلسفة الزمان مبحثاً فرعياً في سياق دراسة فلسفة العلم. تأسست مراكز بحثية مستقلة لدراسة فلسفة الزمان في كبريات الجامعات العالمية الرصينة، وصارت كتب كثيرة تنشَرُ بحثاً واستقصاء للتطورات الحثيثة في مفهوم فلسفة الزمان وتأثيراتها المؤكدة في إعادة تشكيل رؤيتنا العلمية للعالم، وربما فلسفة الزمان تتماثل في أهميتها مع فلسفة العقل ونظرية المعرفة في علاقة كل منهما مع التطورات الحاصلة في علم الحاسوب والذكاء الاصطناعي.

من الكتب الحديثة المنشورة في فلسفة الزمان كتابٌ ألّفه البروفيسور غريمي فوربس Graeme A. Forbes ونشرته حديثاً دار نشر «راوتليدج» العالمية، ضمن سلسلتها المعروفة الأساسيات The Basics. الأستاذ فوربس مختص بفلسفة الزمان، عمل لأكثر من عقد في قسم الفلسفة بجامعة كنت البريطانية قبل أن يتقاعد عن التدريس فيها عام 2022.

الكتاب طبق فلسفي بتوابل لذيذة ستثير شهية كلّ من تمرّس بالقراءات الفلسفية الخاصة بالموضوعات التأصيلية الأساسية: أصل الزمان والمكان، أصل الوعي، أصل الكون، أصل الحياة. ولما كان الزمان سابقاً لكلّ هذه الموضوعات وشرطاً لوجودها فسيكون من الضرورة اللازمة إيلاؤه قدراً غير يسير من الاهتمام والمساءلة.

بعد مقدمة تمهيدية يبدأ الكتاب بموضوعة جوهرية لكلّ كتاب يتناول فلسفة الزمان، أقصد بذلك مفهوم التغيّر Change. التغيّر هو حجر الأساس في بناء كلّ فلسفة منتجة للزمان، ومنها يمكن الانطلاق لإثراء الموضوع، وهذا هو ما فعله المؤلف تماماً في فصول لاحقة تناول فيها: اختبار التغيّر، واختبار الذات، ثمّ يتناولُ موضوعات النسبية والآنية، وسهم الزمان، والسفر عبر الزمان، الانحياز الزماني، إعادة كتابة التاريخ، العيش في الحاضر.

عقب مقتبس من مقطع شعري لإليوت، يكتب المؤلف في مقدمته:

«لم أحاولْ أبداً إخفاء شخصيتي أو آرائي عن القارئ. تتبدى آرائي في عدد من الكيفيات، منها: اختيارُ الموضوعات. العديد من المقدمات المكتوبة عن فلسفة الزمان تركّز بؤرتها البحثية على الميتافيزيقا أو فلسفة الفيزياء فحسب. فعلتُ هذا مثلما فعلوا، لكنني لم أكتفِ به، بل اجتهدتُ لتضمين موضوعات أخرى مثل فلسفة التاريخ؛ لأنني أرى أنّ موضوعات التاريخ يجب أن تكون مبعث إثارة وتفكّر لدى كلّ من يشتغلُ في نطاق فلسفة الزمان...».

يبدو الكتاب مُعدّاً عن منهاج دراسي جامعي لأنّ الصبغة البيداغوجية (التعليمية) واضحة فيه. أرى في هذه الخصيصة مصدر قوة للكتاب لأنّه سيفي بمتطلبات التعلّم الذاتي التي صارت سمة شائعة في معظم الكتب المنشورة حديثاً. يبدو أنّ المؤلفين المعاصرين باتوا يتلمّسون روح العصر الحديث حيث التعلّم الذاتي Self-Study سيكون النمط الشائع للتعلّم فيه عمّا قريب، وبخاصة مع انفتاح الفضاء الرقمي على فضاءات لا محدودة من البيانات الكبيرة ومصادر المعلومات.

فلسفة الزمان: الأساسيات

Philosophy of Time: The Basics

المؤلف: غريمي فوربس

Graeme A. Forbes

الناشر: Routledge, Taylor & Francis Group

السلسلة: The Basics

عدد الصفحات: 224

السنة: 2024