لم يحصل الهولندي فرانك هوغيربيتس على أي «دراسة متخصصة» في علم الزلازل، و«لا توجد دراسة علمية وحيدة تحمل اسمه»، وفق بحث قامت به «الشرق الأوسط» على بوابة الأبحاث «ريسيرش جيت»، بل إن الرجل لا يعرّف نفسه بأنه عالم زلازل، ويستخدم على حسابه بموقع «تويتر» تعريف «باحث ومبرمج»، ومع ذلك يتم الاحتفاء «عربياً» بتغريداته، التي يذكر فيها ما يزعم أنها «تنبؤات» بموعد الزلازل.
واحتفى هوغيربيتس أمس (الثلاثاء) على حسابه بموقع «تويتر» بحدوث ما قال إنها «تنبؤات صحيحة» بزلزال سيحدث في تركيا، وهو ما «حدث بالفعل»، على حد زعمه، حيث أعاد نشر تغريدة سابقة له قال فيها إنه «قد يحدث نشاط زلزالي أقوى في الفترة من 20 إلى 22 فبراير (شباط) تقريباً، ومن المحتمل أن يبلغ ذروته في يوم 22»، ثم تابع قائلاً في تغريدة جديدة: «لا تنتظروا مني أن أقدم تنبؤات خاصة ببلد أو مدينة... كما قلت من قبل أنا لست نبياً».
هذه التغريدة الثانية، التي كتبها هوغيربيتس بنفسه، هي التي تُخرج ما يكتبه من نطاق «التنبؤ» إلى «التوقع»، وعند الحديث عن «التوقعات»، فلا جديد قد أتى به الرجل، وفق ما ذهبت إليه مراكز الأبحاث العالمية وخبراء استطلعت «الشرق الأوسط» آراءهم.
3 عناصر تحكم التنبؤ
وتقول هيئة المسح الجيولوجي الأميركي في إجابة عن سؤال تلقّته بشأن ما يتردد عن تصريحات الهولندي هوغيربيتس، وغيره ممن ادّعوا أن تنبؤاتهم بشأن الزلازل «وافقت الواقع»، إنه يجب أن يحدد التنبؤ بالزلازل ثلاثة عناصر: «التاريخ والوقت»، ثم «الموقع»، وأخيراً «المقدار».
وتوضح الهيئة الأميركية، دون أن تشير إلى اسم بعينه، أنه «من الممكن أن يقول شخص ما إن هناك زلزالاً بقوة أربع درجات سيقع في مكان ما في الولايات المتحدة في الأيام الثلاثين القادمة، وإذا حدث زلزال، فإنه يزعم النجاح رغم أن ما قاله يفتقر إلى عنصر أو أكثر من عناصر التنبؤ».
وإذا كانت الهيئة الأميركية لم تذكر في تعليقها اسماً بعينه، فقد طلبت «الشرق الأوسط» من هارولد توبين، عالم الزلازل الأميركي بجامعة واشنطن، ورئيس شبكة شمال غربي المحيط الهادئ لرصد الزلازل، التعليق بشكل محدد على تغريدات هوغيربيتس، التي تحظي باهتمام إعلامي كبير. فجاء رد توبين بأن «هوغيربيتس لم يتنبأ بتاريخ ولا مكان، وكل ما قاله إنه عاجلاً أم آجلاً سيكون هناك زلزال بقوة 7.5 درجة في المنطقة، وهو بذلك لم يأتِ بجديد، فالجميع يعلم أن تركيا نشطة زلزالياً».
وأعاد العالم الأميركي تعريف التنبؤ الذي يمكن أن يكون مفيداً في علم الزلازل، وهو الذي يحدد «الوقت والمكان والحجم»، مشيراً إلى أن «كل هذه الأمور يجب أن تكون محددة إلى حد ما قبل وقوع زلزال بوقت كافٍ لتكون جديرة بالاهتمام».
وعن الحدود التي وصل إليها العلم في إمكانية التنبؤ بالزلازل، أوضح توبين أن ذلك يقتضي في البداية معرفة كيف تحدث الزلازل، لنعرف على وجه دقة، كيف أنها عملية معقدة يصعب التنبؤ بها.
وتحدث الزلازل لأن الحركات البطيئة والثابتة للصفائح التكتونية (صخور شديدة الصلابة) تتسبب في تراكم الضغوط على طول الصدوع في قشرة الأرض، وتمتد هذه الصدوع لأميال في الأرض، ويؤدي الاحتكاك الناجم عن الضغط الهائل من وزن كل الصخور الموجودة فوقها إلى تثبيت هذه الصفائح معاً.
ويبدأ الزلزال في بقعة صغيرة على الصدع حيث يتغلب الضغط على الاحتكاك، وينزلق الجانبان أحدهما عن الآخر، ومع انتشار التمزق بسرعة ميل أو اثنين في الثانية، فإن طحن الجانبين كل منهما ضد الآخر على مستوى الصدع يرسل موجات من حركة الصخور في كل اتجاه، ومثل التموجات في البركة بعد سقوط الحجر، فإن تلك الموجات هي التي تجعل الأرض تهتز.
ويضرب معظم الزلازل دون سابق إنذار لأن الصدوع مقفلة وثابتة، على الرغم من إجهاد الألواح المتحركة من حولها، وبالتالي فهي صامتة حتى يبدأ التمزق. ولم يعثر علماء الزلازل حتى الآن على أي إشارة موثوقة للقياس قبل هذا الكسر الأولي.
ويقول توبين إن «كل ما يستطيع علماء الزلازل القيام به هو قياس حركة الصفائح بدقة بمقياس ملليمتر باستخدام تقنية (جي بي إس)، واكتشاف الأماكن التي يتزايد فيها الضغط، كما تكون لديهم معلومات عن التاريخ المسجل للزلازل الماضية، ويمكنهم حتى الاستدلال على ما هو أبعد من ذلك الوقت، باستخدام طرق علم الحفريات القديمة، وهي الأدلة المحفوظة جيولوجياً للزلازل الماضية، ويتيح تجميع كل هذه المعلومات معاً التعرف على المناطق التي تكون فيها الظروف مهيأة لكسر الصدع، ويتم التعبير عن هذه التوقعات بأنها احتمال حدوث زلزال بحجم معين أو أكبر في منطقة على مدى عقود في المستقبل».
ووفقاً للحدود التي توصل إليها العلم في التنبؤ بالزلازل، يوضح توبين أن «احتمالات الزلازل على المدى الطويل في مناطق معينة (بما في ذلك على طول صدع شرق الأناضول)، أصبحت علماً راسخاً الآن، لكن التنبؤ على المدى القريب بحدوث زلازل كبيرة الحجم هو ببساطة غير ممكن اليوم».
وعن المنهج الذي يعتمده هوغيربيتس في الحديث عن العلاقة بين حركة الأجرام السماوية والزلازل الأرضية، يقول توبين إنه «لا يوجد أساس علمي لأي تأثير للشمس والقمر على الزلازل، وقد تمت دراسة ذلك من خلال عمل بحثي جيد البناء (وخضع لمراجعة الأقران)، ولم يتم العثور على أي ارتباط يتجاوز الفرصة العشوائية بين وقوع زلازل كبيرة ووجود ميزات معينة بالنظام الشمسي، ولا يبدو أن عمل هوغيربيتس يخضع بالفعل للتدقيق العلمي المطلوب، وسيحتاج إلى ذلك إذا كان يريد أن يؤخذ كلامه على محمل الجد».
شرح أسلوب المتنبئين
وبمزيد من التفاصيل، تحدثت سوزان هوغ، العالمة في برنامج مخاطر الزلازل بهيئة المسح الجيولوجي الأميركية، عن الأسلوب الذي يعتمده هوغيربيتس وغيره من المتنبئين، وأشارت في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى «ورقة بحثية صدرت في عام 2002 تحدثت عن احتمال وقوع زلزال في جنوب هايتي، قبل 8 سنوات من الزلزال المدمر عام 2010، لكن لم يخرج الباحثون عندنا للقول إنهم تنبؤوا بحدوث زلزال، لم يحدث ذلك، والآن يتحدث العلماء عن احتمال حدوث زلزال كبير على صدع سان أندرياس الجنوبي أو صدع هايوارد في كاليفورنيا، وقد يكون على بُعد يوم واحد أو 75 عاماً، فعلى المقاييس الزمنية البشرية، لا توجد طريقة لعمل تنبؤات موثوقة على المدى القصير».
وتعجبت من الاهتمام بتغريدة هوغيربيتس قبل الزلزال الأول، والتي قال فيها: «عاجلاً أم آجلاً سيكون هناك زلزال بقوة 7.5 ميكرون في هذه المنطقة (جنوب وسط تركيا والأردن وسوريا ولبنان)». وأوضحت أنها «اعتادت، مع زملائها، الإدلاء بتصريحات تتعلق بالفوالق النشطة في كاليفورنيا، لكنّ هذا لا يعني أنها تتوقع حدوث زلزال غداً».
وتضيف أن «المتنبئين الهواة يلعبون نفس اللعبة، فهم يقومون بالكثير من التنبؤات الغامضة، ولا يعترفون بأخطائهم، ويدّعون النجاح عندما تحدث الزلازل».
وتواصل هوغ شرح أساليب المتنبئين قائلةً: «عادةً، إذا وقع زلزال متوسط، فهناك احتمال واحد من كل 20 لحدوث زلزال أكبر في غضون الأيام الثلاثة المقبلة، لذلك، إذا قام أحد المتنبئين الهواة بعمل تنبؤات على وسائل التواصل الاجتماعي في كل مرة يحدث فيها زلزال متوسط، فسيكون على حق في النهاية».
وفيما يتعلق بالتغريدة الأخيرة حول زلزال (هاتاي)، تقول هوغ إنه «لم يأتِ بجديد، حيث تشير الحسابات الإحصائية إلى احتمال 1 من 10 لهزات ارتدادية أخرى أكبر من 7 خلال الشهر الذي يبدأ في 10 فبراير، وربما فرصة 1 من 100 لهزات ارتدادية أكبر من 7.8، ومن المحتمل أن تحدث توابع (5.6)، وبالفعل كان هناك حدث واحد من هذا القبيل مؤخراً، ويحتاج الناس في المنطقة إلى أن يدركوا أنه من المتوقع حدوث المزيد من الزلازل».
وحول منهج الربط بين حركة الأجرام السماوية والزلازل، الذي يدّعي هوغيربيتس استخدامه في بناء توقعاته، توضح هوغ أن «بعض الدراسات الدقيقة أظهرت أنه في بعض الظروف، تؤثر قوى المد والجزر المرتبطة بالقمر بشكل طفيف على حدوث الزلازل الصغيرة، لكن محاولات إيجاد علاقات متبادلة بين قوى المد والجزر والزلازل الكبيرة باءت بالفشل».
أساس علمي
واتفق مارك ألين، رئيس قسم علوم الأرض بجامعة «دورهام» البريطانية مع ما ذهبت إليه هوغ. ويقول لـ«الشرق الأوسط»، إنه «كعالم متخصص في الزلازل، لا يعرف أي طريقة لعمل تنبؤات دقيقة بتواريخ الزلازل المستقبلية، وتغريدة 3 فبراير لـ(هوغيربيتس)، التي حظيت باهتمام كبير، لا تتضمن نطاقاً زمنياً محدداً، لذا فإن هذا ليس تنبؤاً ذا مغزى. فبالنسبة إلى الجيولوجي، فإن كلمة (عاجلاً أم آجلاً) قد تعني ملايين السنين، ومن المعروف أن الزلازل الكبرى تتبعها توابع الزلزال، فأي تصريح عن حدوث زلازل في الأيام التي تلي الصدمة الرئيسية ليس لافتاً للنظر».
ولفت إلى أن «القمر وقوى المد والجزر لا تتسبب في صدوع وزلازل كبيرة على الأرض، وإلا لكان العالم على موعد مع زلزال بشكل يومي، كما أن التأثيرات الفلكية الأوسع التي تستند إلى حركة كواكب أخرى، لا تستند إلى أي علم واضح».
وعاد راجيش روباخيتي، الأستاذ المتخصص في هندسة الزلازل بجامعة آيسلندا، إلى تعريف التنبؤ الدقيق، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إذا افترضنا القدرة على تحديد موعد، فلكي يكون التنبؤ مفيداً يجب توقُّع الوقت المحدد والحجم والموقع بدقة واتساق، ولا يوجد دليل علمي على أن هذا يتم بنجاح حتى الآن».
ولفت روباخيتي إلى أنه على استعداد لقبول أي نظرية تتحدث عن وجود علاقة بين حركة الشمس والقمر، وما يحدث في باطن الأرض، بشرط أن يكون لها أساس مقبول علمياً.
ويقول إنه «كعالم منفتح على كل الأفكار والادعاءات المختلفة، ومع ذلك لا يمكن إثبات مثل هذه الادعاءات على أنها صحيحة علمياً إلا عندما يتم تقديمها بطريقة علمية، ومراجعتها من الأقران، ونشرها بحثياً، ومن المهم أيضاً أن تكون الطريقة المستخدمة شفافة وقابلة للاختبار من جهات مستقلة وسليمة علمياً، وهذا للأسف لم يتحقق فيما ذهب إليه هوغيربيتس».
صدفة وحظ لا أكثر
ويركز أنيس أحمد بنجش، من قسم علوم الأرض بجامعة القائد الأعظم في باكستان، هو الآخر، على الدليل العلمي، ويقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «إذا كان شخص ما يتنبأ بدقة، فهذا يعني إما أنه طوّر طريقة لم ينشرها بعد، وإما أنه يعرف أشياء لا يعرفها العلماء عن الطاقة التي تؤدي إلى زلزال». ويؤكد بنجش أنه «لا يعرف» هوغيربيتس وتوقعاته، لكنه يعتقد أن «أحد تنبؤاته، ربما صادفت الواقع، ولكنّ ذلك لا يعدو كونه حظاً».
وأعاد الباحث الباكستاني ما ذكره الآخرون من أن حدود العلم توقفت حتى الآن عند تحديد احتمالات الزلازل على المدى الطويل في مناطق معينة.
ما أشار إليه بنجش حول الصدفة التي ربما صادفت الواقع، لا يراها زكريا هميمي، نائب رئيس الاتحاد الدولي لأخلاقيات علوم الأرض، التابع للاتحاد الدولي للعلوم الجيولوجية، تنطبق على تغريدات هوغيربيتس، لأن «الصدفة تعني أن حظه قاده إلى إعلان شيء غير معروف، وهذا لم يحدث».
ويقول هميمي لـ«الشرق الأوسط» بلهجة حاسمة، بعد أن طلب منحه بعض الوقت لقراءة تغريدات هوغيربيتس، إن «الهولندي لم يقل جديداً في تغريداته الأخيرة التي توقع فيها زلزالاً خلال الفترة من 20 إلى 22 فبراير». ويضيف أن «حدوث هزه ارتدادية أو زلزال جديد، بعد زلزال ضخم كالذي شهدته تركيا، أمر يعلمه الجميع، فهو لم يأتِ بجديد».
وتكرر هذا المشهد في تاريخ تركيا منذ فترة ليست ببعيدة، فبعد زلزال أغسطس (آب) 1999، الذي كانت قوته (7.6 درجة)، استمرت الهزات الارتدادية التي أعقبت الزلزال، ثلاثة أشهر، وفي الشهر الرابع حدث زلزال كبير مقارب للزلزال الأول (7.4 درجة)، كما يوضح هميمي.