طفرات الحضارة المعاصرة... بين العلم والتكنولوجيا والفكر

روبوت للتوزيع يسير في أحد شوارع طوكيو 13 يناير الماضي (أ.ف.ب)
روبوت للتوزيع يسير في أحد شوارع طوكيو 13 يناير الماضي (أ.ف.ب)
TT

طفرات الحضارة المعاصرة... بين العلم والتكنولوجيا والفكر

روبوت للتوزيع يسير في أحد شوارع طوكيو 13 يناير الماضي (أ.ف.ب)
روبوت للتوزيع يسير في أحد شوارع طوكيو 13 يناير الماضي (أ.ف.ب)

كيف ينشأ العالم التكنولوجي، بتقنياته المبهرة، من أساسيات العلم النظرية؟ كيف يؤدي التطور التقني بدوره إلى طفرات معرفية تدفع العلم الأساسي قدماً؟ وكيف يؤثر ذلك في فكر وتصورات الإنسان؟ اتصال حلقات تلك السلسلة، بعناصرها المؤسسة للعالم المعاصر، ليس دائماً واضحاً في عالمنا العربي، مما يؤزم محاولات التواصل مع الحضارة المعاصرة.
العالم الحديث نشأ من ثورة علمية اندلعت نتيجة تكهنات واكتشافات فلكية، لخصها نيوتن في قوانين عامة ربطت تجوال الكواكب في السماء بحركة الأجسام حولنا (مثل سقوط التفاحة الأسطورية من الشجرة). هذا الربط بين طبيعة الكون كليّاً وبين حياتنا اليومية كان مذهلاً، ليس لكونه غريباً عن فكر الإنسان عامة، فالميثولوجيا التقليدية طالما عرضت أطروحات مماثلة عبر العصور، لكن نظراً لدقة المنهج الجديد، الملخص في معادلات رياضية يمكن اختبار تكهناتها وتنبؤاتها. عندما تكهنت نظرية نيوتن مثلاً بضرورة وجود كوكب مجهول في المجموعة الشمسية، نظراً لتأثيره المرصود على حركة الكواكب المعروفة، بحث لو فيريه عن هذا الكوكب (نبتون) ووجده في المكان نفسه بالضبط، الذي حددته النظرية. في الوقت نفسه، استخدم آخرون النظرية نفسها لحساب كيفية تصويب قذائف المدفعية بدقة نحو العدو.
هذا الربط الدقيق بين الكوني واليومي، كانت له تداعيات فكرية وثقافية واسعة النطاق أسست للعالم الحديث (كما شرحت في مقال 20 - 06 - 2022 على هذه الصفحة). لكن ما الذي جعل من حركة الكواكب بالذات أساساً للثورة العلمية؟ بالإضافة لكونه ساكناً لسماوات مجهولة، فإن نمط تجوال الكواكب فيه شيء جذب انتباه العقل المتأمل منذ الأزل؛ لأنه يجسد ظاهرة التكرار الدوري التي تجعل من السهل نسبياً التنبؤ بالمستقبل. فالعلم الحديث عبارة عن محاولة لتنظيم الكون بتلخيص أنماطه في قوانين رياضية تشرح تتبع الأحداث، والتكرار البسيط المجسد في توالي الليل والنهار ومواسم الصيف والشتاء يشكل بداية سهلة، يمكن من خلالها بدء خوض مشوار التنبؤ الرياضي بواسطة أرقام متكررة دورياً. فبساطة التكرار الدوري التي تتسم بها حركة الكواكب، الذي يجعلها مثل بندول الساعة، تجعل من السهل مثلاً التنبؤ بأن يوم 21 من يونيو (حزيران) سيكون أطول يوم في السنة في النصف الشمالي من الأرض، وتجعل من السهل كذلك التنبؤ بتاريخ وساعة رؤية الكسوف الشمسي أو القمري لمدة قرون طويلة في المستقبل.
ليست كل الظواهر الطبيعية بهذه البساطة. تغير الطقس مثلاً لا يخضع للنمط الدوري نفسه؛ لذلك يمكن التنبؤ فقط بأن درجة الحرارة يوم 21 من يونيو غالباً ما ستكون أعلى من مثيلتها يوم 21 ديسمبر (كانون الأول)، لكن لا يمكن بصفة عامة التنبؤ بدرجات الحرارة نفسها بدقة إلا لمدة بضعة أيام. ذلك رغم أن حالة الجو تخضع، كما تخضع حركة الكواكب، لقوانين رياضية صارمة، محددة وحتمية من حيث المبدأ. لكن طبيعة حلول المعادلات، لاستخراج أرقام منها تشير إلى حالة الطقس، تحتاج إلى تعريف حالته الحالية بدقة متناهية (أي معرفة دقيقة بكميات مثل درجة الحرارة والضغط الجوي وسرعات الرياح وكثافة الهواء في كل مكان على الأرض، في اللحظة الحالية)، وهذا ليس متاحاً بالطبع.
عملياً، تختفي قدرتنا على التنبؤ بمستقبل الجو بعد بضعة أيام؛ لأن تغيراته تأتي باستمرار بمستجدات نعجز عن مواكبتها بمعرفتنا المحدودة، على عكس حركة بندول الساعة التي تكرر نفسها ولا تأتي بجديد. أما حالة الكواكب فهي تشبه البندول لأزمان طويلة جداً، فزمن فقدان المعرفة عنها يقدر بملايين السنين، مما يمكننا من التنبؤ بسهولة ودقة بتعاقب الليل والنهار وحركة الأرض حول الشمس على مدى طويل. أما في حالة الطقس فيمكن التنبؤ بهذا المستقبل فقط إحصائياً - مثل التنبؤ بمعدلات درجات الحرارة في شهر معين في بلد معين - وحتى ذلك يكون صعباً في ظل وجود تغيرات مناخية مثل التي تشهدها الأرض مؤخراً.
وجود الفوضى والعشوائية في نظام طبيعي مثل المناخ، هو الذي يمكننا فقط من التنبؤ بالاحتمالات. تماماً كما، في سياق أبسط، يمكننا التنبؤ فقط بأن قرعة العملة المعدنية ستسفر عن «ملك أو كتابة»، باحتمالية نصف لكل منهما، لكن لا يمكن معرفة إذا كنا سنحصل على نتيجة ملك أو كتابة في تجربة معينة. هذا الجانب الفوضوي العشوائي للعالم الطبيعي هو الذي في أساس ما يسمى القانون الثاني للديناميكا الحرارية، والذي يقر بأن (في غياب المؤثرات الخارجية) الحرارة تنتقل من جسم ساخن إلى آخر بارد، رغم أن قوانين نيوتن (والنسبية وميكانيكا الكم كذلك) تقبل دائماً أن يحدث العكس؛ فإذا تابعت فيلماً لحركة بندول الساعة، لن تتمكن من معرفة إذا كان الفيلم معروضاً في الزمن الطبيعي أو كان معكوساً إلى الوراء، فالحركة في الاتجاهين مقبولة. لكن العشوائية الفعلية التي تجعل الكثير من الأنظمة لا تعمل كالساعة، تعني أن احتمالية تفاعل جزيئات المادة بطريقة تجعل الحرارة تذهب من الأسقع للأسخن غير مرجحة بشكل يجعل رصدها شبه مستحيل عملياً.
علم الديناميكا الحرارية لم يبدأ من تكهنات عن مكاننا في الكون، بل نشأ في إطار عملي بحت، تعلق بعمل محركات البخار التي ظهرت مع الثورة الصناعية في أعقاب الثورة العلمية. لكن سريعاً ما اتضح أن قوانين عمل موتورات القطارات لها تداعيات واسعة النطاق، تتطرق لمفاهيم أساسية لدى الإنسان مثل إحساسه بالزمن. فالقانون الثاني للديناميكا الحرارية هو الوحيد الذي نعرفه عن العالم الطبيعي الذي يصاحبه «سهم زمني»، يشير إلى أن الزمن يتحرك فقط نحو المستقبل كما يؤكد إحساسنا الداخلي.
هذا القانون النابع عن تطورات تكنولوجية، له تداعيات فلسفية؛ ليس فقط على تصورنا لمكاننا في الكون، إنما على تصوراتنا عن مصير الكون نفسه. هكذا اعتقد علماء عظام من بدايات القرن العشرين، مثل السيرين آرثر إدينجتون وجيمس جينز، أن هذا القانون معناه أن الكون «يموت» مثل موتور البخار (أو الإنسان) الذي يستنفد وقوده. وتكهن كذلك إدينجتون بأن هذه الحقيقة هي التي تربط قوانين الفيزياء بإحساس الإنسان الداخلي بالزمن، الممثل مثلاً في مفهوم الـ«مدة» لدى الفيلسوف هنري يرجسون، الذي اعتقد أن طبيعة الدهر مختلفة جذرياً عن طبيعة المكان. فلاحظ إدينجتون أن قوانين الفيزياء ليس فيها ما يحدد اتجاه التغير في المكان، لتناظر القيود التي يفرضها «السهم» النابع من القانون الثاني على الزمن.
أما حقيقة أن يرجسون كان قد أثَّر كثيراً كذلك في الثقافة العامة، بما في ذلك على مارسيل بروست في بحثه الملحمي عن «الزمن المفقود»، فتشير إلى اكتمال السلسلة التي تربط بين نتائج العلم الأساسي وتداعياته التكنولوجية، وتأثير الأخيرة بدورها على تقدم العلم الأساسي وتصوراته، وما ينبثق عن كل ذلك من تداعيات على فكر حضارة الإنسان في العالم المعاصر.
هذه هي السلسلة التي أعتقد أننا نفتقد الكثير من حلقاتها الواصلة. كمثال، كم من بين قراء هذا المقال يربط بين عمل جهاز الحاسب أو الهاتف أو التابلت، الذي قد يقرأ عليه النص وبين التداعيات الفكرية والحضارية الواسعة النطاق النابعة عن ميكانيكا الكم، التي في أساس هذه الأجهزة؟ أو يدرك أن ميكانيكا الكم، بتداعياتها التصورية الثورية، أتت أصلاً نتيجة تطورات عملية جداً في تكنولوجيا تحليل الضوء إلى ترددات وألوان، مثلما يحدث في ظاهرة قوس قزح، في سبيل إدراج بصمات للعناصر الكيميائية؟
في هذا السياق يمكن التساؤل: من أين سيأتي الاكتشاف العلمي الكبير القادم، الذي سيقلب نظرتنا للعالم الطبيعي، ومن ثم تصوراتنا وأنماط حياتنا، رأساً على عقب؟ أعتقد أنه من المرجح أن يأتي من اتجاه لن يتصوره من لا يدرك أهمية تواصل حلقات السلسلة المذكورة؛ لأني أعتقد أنه سيأتي «فلكياً»، كما حدث في بدايات الثورة العلمية ذاتها.
لدينا حالياً نموذج ناجح لتطور الكون ونشأة الأشياء خلاله؛ لكن الأغلبية الساحقة من المادة والطاقة فيه ما زالت في صورة غير معلومة، وتصاحب ذلك معضلات في تفاصيل خواص المجرات. الوضع يشبه حال «إراتوستينس»، مدير مكتبة الإسكندرية القديمة، حين نجح في حساب مدار الأرض، بمقارنة أطوال ظلال الأعمدة في الإسكندرية وأسوان، رغم أنه لم يعرف شيئاً عن أميركا وأستراليا أو المحيطات الشاسعة التي تحيطهما. في سياق العلم المعاصر لدينا كذلك «أعمدة كونية»، نرصدها ونقدر أطوالها بواسطة أجهزة مثل تلسكوب جيمس ويب، الذي أطلقته وكالة «ناسا» الصيف الماضي، وآخر ملقب بـ«يوكليد» (تذكيراً بعبقري آخر عمل في الإسكندرية قديماً، وهو إقليدس)، الذي من المقرر أن تطلقه وكالة الفضاء الأوروبية نحو نهاية هذا العام، لينضم لأسطول هائل من المراصد الكونية العاملة والمزمعة.
أي شرح ملائم لأهمية ما ستأتي به النتائج المرتقبة خلال العقد القادم يحتاج لعدة مقالات. الخلاصة أنها ستسد فجوات مهمة في فهمنا لما ظل مفقوداً في الكون رغم البحث الدؤوب. ومن ثم ربما تشير إلى أننا لم نجده حتى الآن لأن طبيعته أغرب بكثير مما تصورنا. وهكذا ربما تأتي بقوانين ومفاهيم جديدة، ذات تداعيات عميقة قد تقلب عالمنا الفكري، ومن ثم واقعنا الفعلي، رأساً على عقب. كما حدث من قبل.

* مدير مركز الفيزياء النظرية بالجامعة البريطانية في مصر



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!