بيدرو مارتينيز مونتابيث... غيّر الصورة النمطية عن العرب في الغرب

رحيل «المستعرب» الإسباني عاشق اللغة العربية

بيدرو مارتينيز مونتابيث
بيدرو مارتينيز مونتابيث
TT

بيدرو مارتينيز مونتابيث... غيّر الصورة النمطية عن العرب في الغرب

بيدرو مارتينيز مونتابيث
بيدرو مارتينيز مونتابيث

ودّع المستعرب الإسباني بيدرو مارتينيز مونتابيث، عاشق اللغة العربية، الذي شغف بالعرب ولغتهم وتاريخهم منذ صباه، في صبيحة يوم 14 فبراير الحالي، عالمنا عن عمر 89 عاماً.
اختفى ذلك الصوت الذي كان يدافع بحماس عن إبراز «أهمية الأندلس ورمزه» بوصفه كياناً فريداً من نوعه في الفضاء العربي والإسلامي، كما يقول، واكتشف آفاقاً أخرى كانت خافية على العرب أنفسهم: فردوس الأندلس.
حفر بعيداً في دراساته الاستشراقية، من دون أن يقع في القوالب النمطية السائدة، بل على العكس من ذلك قدَّم نموذجاً لفهم العالم العربي والإسلامي، وأزال الغشاوة عن عيون الغرب في رؤية تراثنا من خلال اكتشافه الثروة الهائلة الكامنة في الحب لكل ما هو أسباني وعربي مشترك، وكان يفضّل الحديث باللغة العربية التي تعلّمها في تطوان والقاهرة وبغداد؛ لأنه «عشق سحر كلماتها ونكهة حروفها». ترك المستعرب الراحل وراءه إرثاً كبيراً ليس من الكتب والمراجع، بل من البصمة الإنسانية التي غلفت حروفه، وجِدّيته في فهم العرب ومعارفهم.
ولكل هذا، كان لرحيله صدى كبير، وخصوصاً في الأوساط الجامعية التي احتفت ببحوثه وأعماله، فقد جاء النعي الأول من جامعة مدريد المستقلّة التي عمل فيها لسنوات، وكذلك من جامعة جيان الإسبانية التي قلّدته الدكتوراه الفخرية في 2003، بناء على اقتراح من قسم اللغات والثقافات المتوسطية؛ تقديراً لعمله الأكاديمي.
تتراوح جهوده بين ترجمة الشعر العربي ودراسته والتعريف به على نطاق البلدان الناطقة باللغة الإسبانية، والتعمّق في دراسة علاقة العرب بالبحر الأبيض المتوسط، ومعاني الأندلس ورموزها، وشعر المقاومة الفلسطينية، كما عرَّف بكبار الكُتّاب والشعراء العرب، ونقل آثارهم إلى اللغة الإسبانية؛ من أمثال نجيب محفوظ، ونزار قباني، ومحمود درويش، وفدوى طوقان، وسعدي يوسف، وصلاح عبد الصبور، وجبران، والسيّاب، والبياتي، وأدونيس، وغيرهم، وشارك في عدد من اللجان العلمية والثقافية العربية وجمعية الصداقة العربية الإسبانية، وحلقات الحوار بين الثقافتين. وبإيجاز، قدَّم خريطة الأدب العربي في اللغة الإسبانية.
في مقابل ذلك انهالت عليه التكريمات والجوائز الأدبية من الجامعات والأكاديميات من أنحاء العالم، نذكر منها جامعة المعتمد بن عباد في أصيلة، وجامعة جيان، وجامعة مدريد المستقلة، ومن الجوائز: جائزة القدس، وجائزة الشيخ زايد شخصية العام الثقافية، والميدالية الذهبية للأندلس، وغيرها الكثير.
التقيتُ المستعربَ الإسباني الراحل مونتابيث مرتين؛ أولاهما في أصيلة في 1985 أو 1986 ضمن مهرجانها، وفي أبوظبي في 2009 أثناء منحه جائزة الشيخ زايد لشخصية العام.
في اللقاء الأول رافقته إلى زيارة طنجة، التي اعتبرها المنفى الذهبي لعدد من الكتّاب والفنانين، إذ تحدَّثنا عن بول باولز وزوجته جين، وهنري ماتيس، ويوجين ديلاكروا، وبوريس جيسان، ورولان بارت، وجان جينيه، وتينسي وليامز، ومحمد شكري، ومحمد مرابط، الذين تركوا بصماتهم على هذه المدينة وتاريخها. جلسنا في فندق «المنزة» المطل على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، وتذكّر بحنين الماضي العربي الغابر في قرطبة وغرناطة وأشبيليه... أيْ روح الأندلس، إذ ظلت عبارته عالقة في ذهني: «إنني أفضِّل أندلس الحوار على أندلس الحنين»ـ فقد وُلد المستعرب الراحل بالأندلس في قرية صغيرة اسمها شودر، وهو يدرك جيداً أن «كل إنسان يولَد في الأندلس يحمل في أعماقه بذور الحضارة العربية...».
تكمن أهمية ما قام به في التعريف بالأدب العربي وترجمته؛ ليس من الناحية التسجيلية فحسب، بل الجمالية باعتبارها تجربة شخصية وجماعية.
من المعروف أن الأدب العربي المعاصر في الخمسينيات والستينيات كان مجهولاً لدى الغرب، من كان يكتب عن الأدب العربي أو العالم العربي آنذاك قلة قليلة. وفاجأني بقوله: «تصوَّرْ أن القراء الإسبان عندما قرأوا رواية الياطر لحنا مينا، دهشوا لوجود بحر في العالم العربي؛ لأن العرب في أذهانهم هم سكان الصحراء وأصحاب الجِمال». وأضاف: «لماذا؟ لأن الإنسان الغربي يجمع بين كلمة العرب والصحراء بكل سهولة. لو سألت، على سبيل المثال، طالباً جامعياً في إسبانيا عن ذكر أسماء المدن التي تطل على البحر المتوسط، فإنه لا يذكر أبداً اسم أية مدينة عربية؛ لأنهم يذكرون مدن الشمال وليس الجنوب».
المستعرب الراحل، من خلال ترجماته الجادة، غيّر هذه الصورة النمطية وغيرها من الصور التي اعتادها الغرب، لكن هذا التغيير جاء بطيئاً. والأسباب معروفة؛ «لأن ما يمثل العرب في أذهانهم هو البترول والإرهاب؛ وذلك بسبب وسائل الإعلام الغربية التي تعمل على تشويه هذه الصورة».
لكن المستعرب الراحل تساءل عن الجوهري في هذا الأمر؛ وهو: «كيف يكافح العرب هذا النفوذ الإعلامي الخاطئ... ولا يوجد حل سحري آخر سوى ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية، كردّ حاسم على ذلك. ما ينقله الغرب أحياناً هو ما ينقله العالم العربي؛ ذلك لأن معظم الصور العالقة في الذهن الغربي شكلية ولا تمثل حقيقة الحياة اليومية، ولا الروح النابضة في أعماق هذه الشعوب. لهذا قلت في نفسي إنه من واجبي أن أقوم بتعريف العالم العربي للقراء الغربيين، لذا تركت الدراسات التاريخية والعصور الوسطى، ودخلت الحاضر؛ أي ترجمة الأدب العربي المعاصر».
سألته عن أبرز شاعر عربي عرفه وأحبَّ ترجمته إلى الإسبانية، أجابني: «أجيبك، بلا تردد: بدر شاكر السيّاب أعظم شاعر ترجمته إلى الإسبانية، رغم صعوبة شعره؛ لأنه يتميز بالتكثيف. أما ترجمة الشعراء الآخرين: عبد الوهاب البياتي، ومحمود درويش، ونزار قباني، وغيرهم، فلا تصعب ترجمتهم. هنا لا أتكلم عن القيمة الشعرية لأولئك الشعراء، بل عن ترجمة نصوصهم وما يواجهني فيها من صعوبات».
أتذكّر كتابه القيم «الأدب العراقي المعاصر»، الذي صدر في مدريد وطُبع مرتين، وهو كتاب ضخم، في ستمائة صفحة، يتضمن إنتاج الأدباء العراقيين منذ مطلع القرن العشرين حتى الآن، لكنني اندهشت، وفرحت، في آن واحد، حين عثرت على اسم الكاتب علي الوردي الذي صنّفه مونتابيث بوصفه واحداً من أهم الأدباء العراقيين.
عاش المستعرب الراحل مونتابيث ليس مع اللغة، بل مع الواقع العربي منذ الخمسينيات والستينيات إلى آخِر لحظات حياته. عاش في تطوان لعامين، والقاهرة لست سنوات في المركز الثقافي الإسباني ودرس العربية وكتب أطروحته «عن العصر المملوكي». وهكذا توالت كتبه المهمة؛ مثل كتابه «الموضوعات الأندلسية في الأدب العربي المعاصر»؛ أي لجوء الشعراء العرب إلى المدن الأندلسية وتناول آثارها واستخدام رموزها.
يقول المستعرب الراحل: «أخبرني الطاهر بن جلون، ذات مرة، أنه كتب عن غرناطة، وتحدَّث عن الصراعات الداخلية التي وقعت في الأندلس، وقارن بين ما وقع في فترة ملوك الطوائف، وما يقع حالياً في العالم العربي! وكأن الصورة نفسها تتكرر».
لم ينقطع المستعرب الراحل عن دراسة العالم العربي وأدبه، وهو القائل: «في الغرب، لا تزال فكرة التفوق الأخلاقي على العالم العربي هي السائدة». وظلّ إلى آخِر ساعاته يكافح ضد هذه الفكرة وتداعياتها من خلال حسه النقدي الملتزم بالموضوعية، كما لم يتوقف عن إقامة الحلقات والدراسات، مؤسساً «دائرة الثقافات العربية الإسبانية» في 2016 التي يَعتبر فيها نفسه عضواً فحرياً.
إنه آخِر المستعربين الإسبان العظام ممن يمتلك سلطة نقدية وأدبية لا جدال فيها بين المتخصصين، تميَّز بمسيرته العلمية، وبريادته في ترجمة الشعر العربي الحديث، إذ فتح عيون الغرب على الواقع المعاصر لعالم عربي معقد وحيوي، وقدم تحليلاته العميقة، لا كمستشرق، بل كمستعرب، كما كان يحلو له أن يطلق على نفسه؛ لأنه أراد أن يعيش الحاضر.
اختار دراسة اللغة العربية تحت تأثير معلمه الأول اللامع دون إميليو غارسيا غوميز، إذ اكتشف أنه ليس على دراية بهذا العالم عندما كان في السابعة عشرة من عمره، وانجذب إلى عشق هذه اللغة؛ لأنها «غنية بالمفردات والتعبيرات، في جمالياتها المتعددة».
ثم بدأ منذ ذلك الوقت ينكبّ على الدراسات العربية، فدرس الأدب الكلاسيكي وتاريخ الأندلس «لوضعها في قلب العالم المعاصر». وكان الجوهري في ذلك هو فتح عالم الدراسات على مصراعيه في الجامعات الإسبانية.
يعتقد مونتابيث أن الترجمة بين اللغتين العربية والإسبانية غائبة رغم اتساعها إلى بلدان أميركا اللاتينية، وفي نظره كان الشعر الأندلسي مرفوضاً لسنوات طويلة، والآن نجد شعراء مثل ابن زيدون والمعتمد بن عباد، أو الشعر الشعبي الأندلسي أو ما يسمى الزجل والموشحات مثلاً، قد أعيد له الاعتبار مؤخراً. وكل ذلك بفضل الترجمة.
لم ينس مونتابيث شعراء المهجر الشمالي؛ لأن أول كتاب نُشر له في عام 1956 كان عن جبران خليل جبران، وإيليا «أبو ماضي»، وميخائيل نعيمة، وغيرهم، كما حاول أن يرصد «الإنتاج الأدبي والفكري لدى الكتّاب العرب في المهجر الجنوبي» في بلدان أميركا اللاتينية كالمكسيك والأرجنتين وكوبا. وفي عام 1968 أصدر كتاباً عن شعراء المقاومة الفلسطينية، وهو أول كتاب يصدر باللغات الأوروبية، ولا يمكن إهمال كتابه المتميز «خمسة عشر قرنًا من الشعر العربي» الذي يتضمن ترجمة للمختارات الشعرية يتعرف فيه قارئ اللغة الإسبانية على بانوراما للشعر العربي في شموليته، كما ترجم قصص نجيب محفوظ، والشاروني، ويوسف إدريس، وتوفيق الحكيم من أجل وضع الشعر مقابل النثر.
في عام 2009 التقينا ثانية عندما فاز بجائزة الشيخ زايد، وتُوّج بلقب «شخصية العام الثقافية»؛ «تكريماً لدوره الرائد في بناء جسور التواصل بين الثقافتين العربية والإسبانية».
لقد منح المستعرب الراحل الاستعراب الإسباني الأهمية نفسها التي يتمتع بها الاستعراب الفرنسي أو الإنجليزي أو غيرهما.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».