الإنسان المعولم باحثاً عن المعنى في القرن الحادي والعشرين

بعد سقوط جدار برلين في 1989 تغير كل شيء

الإنسان المعولم باحثاً عن المعنى في القرن الحادي والعشرين
TT

الإنسان المعولم باحثاً عن المعنى في القرن الحادي والعشرين

الإنسان المعولم باحثاً عن المعنى في القرن الحادي والعشرين

لعلّ معظمنا يتفق على أنّ لودفيغ فيتغنشتاين هو أحد أعظم العقول الفلسفية في القرن العشرين؛ بل قد يكون أهمّها، كما يرى برتراند راسل. كان فيتغنشتاين سليل عائلة أوروبية فاحشة الثراء، وبعدما مات أبوه، قطب صناعة الفولاذ الأوروبية، ترك له ولأشقائه ثروة طائلة تعدُّ بمليارات الدولارات بمقاييس زماننا هذا. الغريبُ أنّ فيتغنشتاين آثر أن يتنازل عن كلّ ثروته لإحدى أخواته، ثمّ مضى يعمل في أعمال بسيطة، مثل معلّم في مدرسة قروية قريباً من سفوح الألب، ثمّ عمل بعض الوقت بوّاباً في عمارة سكنية! حتى راسل الذي أعجب بمقدرة فيتغنشتاين الفلسفية رأى في سلوكه فعلاً أخرقَ عصياً على الفهم.
هل كان سلوك فيتغنشتاين فعلاً عبثياً يفتقد إلى المعنى؟ لا أظنّ ذلك. قد يكون فعله مفتقداً للمعنى من وجهة نظرنا نحنُ؛ لكنّه رأى فيه فعلاً منطقياً كاملاً؛ بل رآه واجباً. يصعبُ على المرء أن يعتقد بافتقاد حياة فيتغنشتاين – وهو الفيلسوف اللامع – إلى المعنى.
ثمّة تسجيل فيديوي يتحدّث فيه المخرج العالمي وودي آلن Woody Allen، يقول فيه: «كلّ شيء سبق لك أن حقّقتَه مصيره إلى زوال محتوم. الأرض ستزول، والشمس ستنفجر، والكون سينتهي، وكلّ أعمال شكسبير ومايكل أنغلو وبيتهوفن ستختفي في يوم ما، مهما قدّرناها وأسبغنا عليها من عظمة ورفعة. إنّ من الصعب إقناع الناس بأي شيء إيجابي حول هذا الأمر».
هنا مكمنُ السؤال الوجودي الأكثر أهمية بين كلّ الأسئلة: كيف أمكن للوجود البشري أن يتواصل وسط هذا العماء الوجودي المفتقد إلى معنى وغاية؟
يبدو لي أنّ سؤال «معنى الحياة»، رغم كونه أحد الأسئلة الوجودية الأساسية، يختلف عن سواه من الأسئلة الوجودية الخاصة بأصل كلّ من الوعي والحياة والكون، من حيث الاعتبارات التالية:
أوّلاً: يتداخل معنى الحياة بطريقة عضوية مع كينونتنا ونظرتنا إلى الحياة. الحياة بذاتها تركيب محايد ليس معنياً بأن يكون له معنى. نحن من نخلع المعنى على الحياة، وهذا المعنى يتلوّن بلون أمزجتنا العقلية ودوافعنا الذاتية: الروائي مثلاً يرى في الحياة لعبة تخييلية صالحة دوماً لتكون ساحة لفعالية روائية. والفيزيائي يرى في الحياة تركيباً يعجّ بسحر الصياغات الرياضياتية المبهرة التي تحمل في طياتها كل خزين العالم من معنى وغاية. ويسري الأمر ذاته مع الآخرين، وكلٌّ حسب مزاجه وثقافته وتدريبه المهني، وممارسته الحِرَفية، وتشكّله الفلسفي والذهني.
ثانياً: يبقى «معنى الحياة» موضوعاً لمباحث ذات طبيعة ميتافيزيقية، وليست علمية خالصة، على العكس من الأسئلة التأصيلية الثلاثة الأخرى التي يشكّلُ العلم حجر الزاوية في الجهود البحثية عن طبيعتها. السبب يكمنُ في أنّ العلم غير معني بسؤال «لماذا؟»؛ بل بسؤال «كيف؟» وحده. سؤال المعنى ليس مكانه المباحث العلمية، وإن كانت هذه المباحث يمكن أن تساهم بطريقة غير مباشرة في الكشف عن بعض المناطق المظلمة في بحثنا لاكتشاف المعنى.
ثالثاً: ثمة تصوّر بوجود اقتران شرطي بين معنى الحياة وغايتها ووجود أخلاقيات حاكمة فيها. قد لا يُبدي بعض المنافحين عن وجود معنى وغاية للحياة ولعاً بالتفاصيل الفلسفية والرياضية والفيزيائية؛ بل يكتفون بتلك الحجة الأزلية: كيف يمكن تصوّر العيش في عالم غير ذي غاية ولا معنى؟ وهل ثمة إمكانية لوجود أخلاقيات في مثل هذا العالم؟ هذا الربط الشرطي بين المعنى والأخلاقيات فعلٌ ينطوي على سوء مستطير. الأخلاقيات يجب أن تتعالى على كلّ الأوضاع البشرية حتى نضمن سموّها وعلويتها وقدرتها على الفعل في الحياة البشرية.

غلاف «أزمة العالم العربي»

رابعاً: موضوعة معنى الحياة، وبخلاف الموضوعات الأخرى، ليست موضوعة سكونية؛ بل تتباين أشكالها مع نموّ الفرد الجسدي والعقلي. يحصل في الغالب أن يقترن معنى الحياة بمشخصات مادية في أطوار النمو الأولى، ثمّ تنزاح القيمة المادية باتجاه أهداف ميتافيزيقية يصعب وضعها في إطار التقييس، كلّما تقدّم المرء في سنوات حياته.
نُشرت كتب كثيرة تتناول معنى الحياة من منظورات متعددة: فلسفية أو فيزيائية أو لاهوتية أو نفسية. ربما يحضرنا في هذا المقام كتاب فيكتور فرنكل «بحث الإنسان عن المعنى» الذي صار في عداد الكلاسيكيات الرفيعة. تبدو كتابات المختصين بعلم النفس الإكلينيكي بشأن معنى الحياة ذات أهمية اعتبارية كبرى؛ لأنهم يكتبون في سياق الصراع الوجودي للإنسان في هذا العالم، ومن واقع خبرتهم الحقيقية.
يفعل الدكتور كارلو سترينغر Carlo Strenger الأمر ذاته عندما يقدّمُ كتابه «الخوف من الأفول: البحث عن المعنى في القرن الحادي والعشرين» Fear of Insignificance Searching for Meaning In the Twenty First Century الذي ترجمه الدكتور حميد يونس إلى العربية عام 2022. مؤلف الكتاب ومترجمه يتوفران على معرفة رصينة بأدوات علم النفس الإكلينيكي، يضاف لها شغف طاغٍ بالمباحث الفلسفية المقترنة بالوجود البشري المكتنف باشتباكات صراعية متعددة الجوانب. الدكتور سترينغر عالم نفس سويسري (مولود عام 1958)، وهو فيلسوف متمرّس بتاريخ الأفكار وفلسفة وتاريخ العلم، ويُعرَفُ عنه في أبحاثه المنشورة التركيز على موضوعة تأثير العولمة على معنى الوجود البشري، وتشكيل الهويات الفردية والجمعية. نشر سترينغر ما يقارب الأحد عشر كتاباً. أما الدكتور حميد يونس فهو ناشط ترجمي، وقد قرأت له من بين ترجماته الكثيرة كتاباً عنوانه (الدماغ الخلاق: علم أعصاب العبقرية) إضافة لكتابه المترجم أعلاه. للدكتور يونس اهتمامات روائية أيضاً، ظهرت خلاصتها في روايته «آخر أمراض الكوكب».
يمكن وضع صيغة إطارية لكتاب سترينغر عنوانها «مكابدات الإنسان المعولم Homo Globalis في عالم معلوماتي وترفيهي تحكمه الأسواق الحرّة». يبدأ المؤلف كتابه بمقدمة ثرية يكشف عنوانها الدرامي «لحظتنا التاريخية» عن ماهية مادتها:
«بعد سقوط جدار برلين في 1989 تصاعد تأثير مؤيدي الأسواق الحرّة الذين تولّوا زمام الاقتصاد إبان حكم رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر، وعاشوا نشوة الانتصار بعد زوال الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي... حتى باتت الأسواق الحرّة هي الدين العالمي الوحيد الذي يتمتّع بالصلاحية العالمية المطلقة. تغيّرت بعد ذلك قيم كلّ شيء بدءاً من الشركات إلى الأديان، ومن التسجيلات الموسيقية إلى الأفكار. لم يعُد ثمة شيء محدّد إلا أنظمة التصنيف، مثل أسواق البورصة والمال، وقوائم أفضل الكتب مبيعاً... كانت مسألة وقت قبل أن تطول أنظمة التصنيف البشر، وتتحوّل إلى مرحلة تسليعه. ومما لا شكّ فيه أنّ النظام المعلوماتي والترفيهي عجّل من هذا التسليع... وهكذا اختُزِلت الحياة الهانئة في أنموذجين: الثراء (بوصفه التقييم الكمي لما لديك)، والشهرة (بوصفها التقييم الكمي لمدى معرفة الناس بك)».
هذا هو حجر الزاوية في كامل الخريطة المفاهيمية للكتاب، وليست الفصول اللاحقة سوى هوامش تفصيلية دقيقة ومثيرة لهذا المتن الذي يختزل صراع الإنسان في عالمنا المعاصر، تلك الحالة الصراعية الناجمة عن تسليع متعاظم ما فتئ يتسبب في خلخلة احترام الذات، وتشكك متزايد في عيش حياة تستحق عبء عيشها؛ فكانت النتيجة المتوقعة قلقاً وجودياً مستداماً، نجهد لعلاجه باستخدام الأدوية النفسية والنصائح الروحانية السطحية من قبل نجوم التنمية البشرية الذين صاروا أبطالاً علينا اقتفاء خطواتهم المبشرة بالنجاح. هذا في أقلّ تقدير ما تبشرنا به الوسائل الإعلامية ذات السطوة الضاربة.
يضمّ الكتاب ثلاثة أجزاء، لكلّ جزء منها ثلاثة فصول. يتناول الجزء الأول وعنوانه «هزيمة العقل» تشخيص محنة الإنسان المعولم؛ أما الجزء الثاني وعنوانه «من سوق الأنا إلى دراما الفردانية» فيحاول فيه المؤلف تقديم بديل وجودي لمفهوم الذات التي روّجت لها الثقافة الشعبية السائدة، والمتجوهرة بعبارة «افعلها وحسب. أنت تستطيع فعل كل شيء وأي شيء». أما الجزء الثالث وعنوانه «المطالبة بعقولنا»، فيدعو فيه المؤلف لإعادة تأسيس ثقافة المنطق بوصفها ترياقاً للعبثية التي يقدمها نموذج ثقافة النسبوية Relativism، وخصوصاً في حقل الثقافة والأخلاقيات.
أستطيع القول، بعيداً عن النبرة الأكاديمية، إنّ الخلاصة الفلسفية لمعنى الحياة قد تكون متجوهرة في العبارات القليلة التالية:
يكمن معنى الحياة وغائيتها في عقولنا وأرواحنا فحسب. قل كلمتك وافعل الخير، وابذل أقصى جهودك في فعل ما تحبّ وتهيم به شغفاً، ولا تنتظر مكافأة فورية أو مؤجّلة لكل فعل طيب تفعله، ولا تدنّس ضميرك الحي بصغائر الأفعال، واحرص على ربط بواعث سعادتك بمسببات ميتافيزيقية رفيعة عوضاً عن مُشخّصات مادية سريعة التبدّل والعطب. هذا هو ما يخلع معنى على الحياة، وليس كل ما سواه إلا سفسطات مترسبة في دواخلنا بفعل سطوة القناعات الزائفة أو الراحة الموهومة الناجمة عن الارتكان لأمثولات سائدة لم نختبر قيمتها الحقيقية في حياتنا.


مقالات ذات صلة

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

ثقافة وفنون «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق إقبال واسع على كتب الفانتازيا العربية في معرض جدة للكتاب (الشرق الأوسط)

كاتبان عربيان يُعيدان تعريف الفانتازيا من جدة إلى السويد

ما بين جدة واستوكهولم، تتشكّل ملامح فانتازيا عربية جديدة، لا تهرب من الواقع، بل تعود إليه مُحمّلة بالأسئلة...

أسماء الغابري (جدة)
كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)
كتب هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
كتب «الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

ينصب التمرد غالباً على سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها.

رشا أحمد (القاهرة)

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟
TT

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي. كانت الأولى مدفوعة بحماس نهاية العالم الذي رافق الصحوة الكبرى الثانية، فيما استُمدّت الرؤية الثانية من التفاؤل الجامح للمؤسسين أمثال توماس جيفرسون. وَعَدَت الأولى بأن الصالحين سيرتقون، فيما أقسمت الثانية بأن بإمكان الجميع فعل ذلك.

لكن اليوم، تبدو أسس الصعود غير ذات صلة. كل شيء أصبح أغلى ثمناً -رعاية الأطفال، والإيجار، والرهون العقارية، والتأمين الصحي، وفواتير الخدمات، والبقالة، والمطاعم، والأدوات المنزلية، وخدمات البث، وتذاكر الحفلات الموسيقية، وتذاكر الطيران، ومواقف السيارات، ناهيك بهدايا الأعياد... الرواتب ثابتة، وقوة العمال متحجرة، ومعركة مكافحة التضخم مستمرة للعام الخامس.

كيف ومتى أصبح الارتقاء الاجتماعي بعيد المنال كما يبدو؟ تتناول الكتب المعروضة هنا، هذا السؤال مباشرةً؛ إذ يتعمق بعض المؤلفين في كيفية تشكل الثغرات في طريق الحياة الأفضل؛ بينما يحدد آخرون مواطن الضغط الحالية. وتُظهر هذه الكتب مجتمعةً أن الأميركيين كافحوا لإصلاح اقتصادهم منذ تأسيس الولايات المتحدة، وأن جهود جيلٍ ما غالباً ما تؤتي ثمارها في الجيل الذي يليه.

كتاب «ثمن الديمقراطية» لفانيسا ويليامسون

من الضرائب المفروضة خلال حفلة شاي في بوسطن إلى التعريفات الجمركية في العصر الذهبي، قلّما نجد ما يُحدد التاريخ الأميركي مثل الضرائب. في هذا السرد التحليلي الدقيق للضرائب في الولايات المتحدة، تُجادل ويليامسون، الباحثة في معهد بروكينغز، بأن السياسة الضريبية تتجاوز مجرد تمويل الحكومة، فهي آلية لتوزيع السلطة والحفاظ عليها، فلطالما دعمت الضرائب أثرياء البلاد على حساب بقية الشعب. وتكتب ويليامسون أنه بعد الثورة، كانت أبيجيل آدامز من بين النخب التي اشترت سندات الحرب الحكومية متراجعة القيمة بأبخس الأثمان، ثم شاهدت قيمتها ترتفع مع رفع ماساتشوستس الضرائب لسدادها، على حساب المزارعين البسطاء في الغالب.

وعلى الرغم من هذه التفاوتات، فإن أطروحة ويليامسون المفاجئة هي أن الضرائب، عند تطبيقها بشكل صحيح، تُفيد الديمقراطية. فقد أسهم فرض ضريبة الدخل في ستينات القرن التاسع عشر في دعم المجهود الحربي للاتحاد، مما ضمن عدم تحميل الفقراء وحدهم عبء التكاليف.

وبعد الحرب، فرضت حكومة إعادة الإعمار في كارولاينا الجنوبية ضرائب على الأراضي، مما زاد عدد الأطفال الذين يمكنهم الحصول على التعليم العام بأكثر من أربعة أضعاف، حتى في ظل تفشي التهرب الضريبي.

وتجادل ويليامسون بأن معارضة الضرائب لطالما تستّرت وراء دعوات العدالة، لكن الخطر الحقيقي يكمن في غياب الشعور بالانتماء. وتكتب أنه في نهاية المطاف، عندما يسهم الناس في تمويل حكومة فعّالة، يصبحون أكثر ميلاً للمطالبة بحقهم في إبداء رأيهم فيما تفعله، ويتوقعون منها الاستجابة.

«حرية رجل واحد» لنيكولاس بوكولا

بين مقاطعة حافلات مونتغمري في خمسينات القرن الماضي وانتخابات عام 1964، طرح زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ والمرشح الرئاسي الجمهوري باري غولد ووتر، أفكاراً مؤثرة حول معنى «الحرية» في أميركا. في هذه الصورة المزدوجة المُلهمة، يُعيد بوكولا بناء كيفية تصادم حركتيهما، إذ قدّم كلا الرجلين مفهوماً مختلفاً للحرية، مُرسّخاً فهماً مُغايراً للنظام الاقتصادي الأمثل: اقتصر مفهوم كينغ عن الحرية على المساواة في الوصول إلى السلع والخدمات العامة، فيما استندت رؤية غولد ووتر للحرية إلى حقوق الملكية الشخصية.

يتتبع بوكولا، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة «كليرمونت ماكينا»، كيف أصبحت رؤاهما المتنافستان، اللتان عَبّرا عنهما في خطاباتهما ومواعظهما ومناقشات مجلس الشيوخ، المنطق الأخلاقي المزدوج لأميركا الحديثة: أحدهما يُقدّس السوق، والآخر يُطالب بإصلاحها. حذّر غولد ووتر من أن «الحكومة الكبيرة» -بضرائبها وشبكات الأمان الاجتماعي- و«العمالة الكبيرة» -بضغطها التصاعدي على الأجور- تُهدّدان «نمط الحياة الاقتصادي الأميركي». وردّ كينغ بأن الحقوق السياسية دون فرص اقتصادية هي حقوق جوفاء. ويرى بوكولا أن تحالف الحقوق المدنية الذي قاده كينغ أسهم في إفشال حملة غولد ووتر، لكن أفكار غولد ووتر انتشرت في أوساط السياسة الأميركية، مُشكّلةً ثورة ريغان وعولمة السوق الحرة في عهد كلينتون.

«أمراء التمويل» للياقت أحمد

في كتابه التاريخي الحائز جائزة «بوليتزر» عام 2009، يتتبع أحمد مسيرة أربعة رجال سيطروا على البنوك المركزية الكبرى في العالم في السنوات التي سبقت الكساد الكبير، وهم: مونتاجو نورمان (بنك إنجلترا)، وبنيامين سترونغ (بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك)، وإميل مورو (بنك فرنسا)، وهيالمار شاخت (بنك الرايخ).

يتناول هذا الكتاب التاريخ العالمي، ولكنه يُعدّ جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الأميركي، إذ لطالما امتدت آثار الاقتصاد الأميركي عبر الحدود الوطنية. وبينما كانت الاقتصادات الأوروبية تعاني من الركود بعد الحرب العالمية الأولى تحت وطأة التعويضات والديون، استخدم سترونغ خطوط الائتمان الأميركية للمساعدة في إنعاش البنوك الأوروبية.

«الصندوق الراديكالي» لجون فابيان ويت

لم يعتمد الأميركيون دائماً على الحكومة لتحسين أوضاعهم المعيشية. فقد شهدت عشرينات القرن الماضي ازدهاراً في الأسواق وتفاقماً في عدم المساواة. وكان رأس المال الخاص في كثير من الأحيان شريان الحياة الوحيد لمن يكافحون الفقر والفصل العنصري المتجذر والاعتداء واسع النطاق على الحريات المدنية.

في عام 1922، رفض تشارلز غارلاند، وريث وول ستريت، المصرفي البالغ من العمر 23 عاماً من ولاية ماساتشوستس، التربح من نظام رآه ظالماً، وتبرع بكامل ميراثه البالغ مليون دولار؛ لتأسيس الصندوق الأميركي للخدمة العامة. وكما يُبين ويت في كتابه التاريخي الشيق عن الصندوق الفيدرالي، فقد أصبح هذا التنازل محركاً مالياً دعم الأفراد والمؤسسات التي ستُشكل لاحقاً برنامج الصفقة الجديدة، وحركة الحقوق المدنية.

تحت قيادة روجر بالدوين، من الاتحاد الأميركي للحريات المدنية، دعم الصندوق مشاريع عالم الاجتماع الأسود دبليو إي بي دو بويز. دو بويز، ونورمان توماس، حامل لواء الحزب الاشتراكي، وماري وايت أوفينغتون، المؤسِّسة المشاركة للجمعية الوطنية للنهوض بالملوَّنين. وأشعلت نضالاتهم شرارة تحالفات عمالية واسعة النطاق، مثل مؤتمر المنظمات الصناعية، والحملات القانونية التي بلغت ذروتها في قضية براون ضد مجلس التعليم.

«بابيت» لسنكلير لويس

يسأل جورج ف. بابيت، رجل العقارات المولع بالأجهزة، وسائق سيارة بويك، والمنتمي إلى نادٍ ريفي، والذي يُمثّل محور رواية لويس الساخرة التي صدرت عام 1922، عن الرضا الذاتي للطبقة الوسطى: «بصراحة، هل تعتقدين أن الناس سيظنونني ليبرالياً أكثر من اللازم لو قلتُ إن المضربين كانوا محترمين؟». تدور أحداث هذه الرواية وسط احتجاجات عاملات بدالة الهاتف في مدينة زينيث الخيالية في الغرب الأوسط الأميركي.

تجيبه زوجته: «لا تقلق يا عزيزي، أعرف أنك لا تعني كلمة مما تقول». ومع ذلك، فإن مساعدة المضربين هي أول ما سيفعله ذلك الشاب الجامعي -الذي كان يحلم بالدفاع عن الفقراء. يعترف لابنه لاحقاً قائلاً: «لم أفعل في حياتي شيئاً أردته حقاً!». ثم يمر بأزمة منتصف العمر قصيرة الأمد. ينخرط في الأوساط البوهيمية، ويقيم علاقة غرامية مع أرملة، ويثير ضجة في ناديه الرياضي. لكن عندما يُقابل بتجاهل مجتمعه، ومرض زوجته، ينهار بابيت.

حققت الرواية مبيعات هائلة، ودخل عنوانها إلى اللغة الدارجة: أصبح «بابيت» اختصاراً للشخص المتوافق مع التيار السائد، العالق في عالم ضيق الأفق. لقد أدرك لويس، أول أميركي يفوز بجائزة نوبل في الأدب، ما يغيب غالباً عن الاقتصاديين: الحلم الذي انتقده ليس طموحاً، بل هو إجباري. الانسحاب يعني النفي، لذا يبقى معظم الناس في الداخل، مبتسمين في الفراغ.

* تكتب أليكسس كو عموداً عن التاريخ الأميركي في ملحق الكتب بصحيفة «التايمز». وهي زميلة بارزة في مؤسسة «نيو أميركا»، ومؤلفة كتاب «لن تنسى أبداً بدايتك: سيرة جورج واشنطن».

خدمة «نيويورك تايمز».


هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية
TT

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، الصادر عن «دار بيسان للنشر والتوزيع» (الطبعة الأولى، نوفمبر «تشرين الثاني» 2025)، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان، لتقدِّم عملاً أدبياً يستند إلى الذاكرة الشخصية والجماعية، ويعيد صياغة تجربة الحرب الأهلية بلغة وجدانية وتأملية بعيدة عن المباشرة والتقرير.

الكتاب ليس سرداً زمنياً للحرب، ولا توثيقاً صحافياً بالمعنى التقليدي؛ بل هو مجموعة نصوص مفتوحة تتداخل فيها السيرة الذاتية مع المشهد العام، ويتحوَّل فيها المكان إلى كائن حي، والمدينة إلى وتر مشدود على الألم والفقد والصمود.

تستعيد هدى سويد نصوصاً كُتبت في قلب الحدث أو على مقربة منه، وتعيد جمعها بعد سنوات طويلة، في محاولة لمواجهة الذاكرة؛ لا للهروب منها، ولتحويل ما تبقَّى من الرماد إلى كتابة. تتنقَّل نصوص الكتاب بين الوجداني والسردي، بين اليومي والرمزي، حاملة آثار القصف، والرحيل، والخوف، وأسماء الأمكنة التي تغيَّرت أو اختفت، وأصوات البشر الذين مرُّوا في الحياة ثم غابوا. وفي خلفية هذه النصوص، تبرز تجربة الكاتبة الصحافية التي عملت في الصحافة الاستقصائية والتحقيقات الميدانية والمقابلات الثقافية والسياسية، ما يضفي على اللغة حسّاً واقعياً لا يلغي بُعدها الشعري.

في مقدمة الكتاب، تكشف هدى سويد عن الصعوبة التقنية والنفسية التي رافقت جمع هذه النصوص، بدءاً من استعادتها من أرشيف صحافي قديم، وصولاً إلى الغوص مجدداً في زمن الحرب. تعترف بأن العودة إلى تلك المرحلة أعادتها إلى ليالي القصف ونهارات الخوف، إلى صور الموت والتهجير وسيارات الإسعاف، وأنها كثيراً ما توقفت أمام النصوص باكية، مثقلة بثقل الذاكرة. من هنا، يأتي الكتاب بوصفه فعل مواجهة، لا حنيناً، ومحاولة لفهم الماضي لا لتجميله.

تضم المجموعة عناوين تشكِّل معاً لوحة فسيفسائية لمدينة مجروحة، مثل: «حين يصغر المكان»، و«أضغاث وقت»، و«طريق الصحراء»، و«لكَ المدينة»، و«عزف رحيل على أوتار مدينة». وهي نصوص لا تَعِد القارئ بالفرح، ولكنها تفتح له باب التأمل فيما جرى، وفي أثره المستمر على الحاضر؛ خصوصاً لجيل لم يعش الحرب؛ لكنه يرث ظلالها.

شهادات نقدية

في مقدمة الكتاب، يرى الناقد والشاعر محمد فرحات أن هدى سويد تلتقط من الحرب «قبساً؛ لا المحرقة كاملة»، وتحوِّل التجربة إلى لغة تصف الواقع وتعيد نحته في آن. ويشير إلى أن الكتابة هنا ليست تحقيقاً صحافياً؛ بل هي أدب يعيد رسم الأمكنة والبشر في زمن الزلزال؛ حيث تتخذ اللغة شكلاً مفتوحاً، مرناً، قادراً على احتواء الفوضى الإنسانية للحرب الأهلية. أما الكاتب والصحافي أحمد أصفهاني، فيتوقف عند فعل «الانتقاء» الذي قامت به الكاتبة لنصوصها القديمة، معتبراً أن هذا الفعل يشبه نفض غبار العمر عن لحظات ولادة قاسية. ويؤكد أن سويد لم تفصل ذاتها عن الحدث؛ بل أخذت القارئ معها في رحلة إلى أمكنة وأزمنة ما زالت محفورة في الذاكرة؛ حيث تتقاطع المهنية الصحافية مع الحس الإنساني العميق.

من جهته، يرى الشاعر والناقد أنطوان أبو زيد أن «عزف على أوتار مدينة» يندرج ضمن أدب الذكرى والتأمل في الزمن المُر، ويشير إلى أن القارئ يواجه نوعين من النصوص: وجدانيات مشبعة بالخوف والفقد والوحشة، ونصوص تخييلية جميلة تنفتح على التحليل والتأمل. ويعتبر أن قوة الكتاب تكمن في قدرته على تحويل الألم إلى مادة أدبية، لا لتثبيته؛ بل لإعادة التفكير فيه.


«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة
TT

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

ينصب التمرد غالباً على سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها.

في كتابه «الخروج من الظل - قراءة في القصة النسائية القصيرة في مصر» الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يركز الناقد الراحل دكتور محمد سيد إسماعيل على نموذج الأنثى المتمردة، كما رسمت ملامحها عدد من الكاتبات اللواتي يمثلن تجارب ومنطلقات مختلفة مثل رضوى عاشور وهالة البدري وسلوى بكر، مشيراً إلى أن هذا التمرد غالباً ما يتجه إلى سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها تحت مبررات واهية.

عشق يصدم المجتمع

في قصة «رأيت النخل» لرضوى عاشور، تبدو الشخصية الرئيسية في مواجهة مجموعة من «التقاليد» المجتمعية الراسخة التي تقرر للمرأة بعض الأعمال وتستهجن قيامها بأعمال أخرى. لكن (فوزية) لا تقر هذا ولا تلتزم به وتؤكد «تمردها» الدائم عليه. هي مغرمة بالنبات، غراماً يجعلها تراه في أحلامها وتستحضر دائماً ما كان يرويه أبوها عن النخل الذي يشبه الإنسان في استقامة القد والجمال، وخلقه من ذكر وأنثى وكيف أن «جُماره» في رأسه كعقل الإنسان في رأسه إن أصابها سوء هلك؛ ولهذا فقد كانت تركض خلف نواه وتخبئه في جيبها العميق، وعندما ترجع إلى البيت تضعه في قطنة مبللة حتى يلين وينتفخ ثم تدفنه في الطين وتغمره بالماء.

تقول فوزية: «في عملي لا يفهمونني، وفي الحي أيضاً. سمعتهم بأذني يقولون فوزية المجنونة التي تلقي بنفسها على نوى تمر كأنه جنيهات الذهب». إن الاعتراض على هذا العمل يرجع في الأساس إلى النظر إليه بوصفه من أعمال الرجل؛ وأن الأنثى التي تمارسه إنما تخرج بذلك عن طبيعتها؛ وهي نظرة لا ترى في المرأة إلا كائناً ضعيفاً أو ينبغي أن يتصف بالرقة والجمال الحسي إلى آخر هذه المواصفات التقليدية الشائعة.

يظهر ذلك بوضوح في اعتراض إحدى زميلات (فوزية) على سلوكها: «في العمل أيضاً يتهامسون وراء ظهري. في مرة قالت لي زميلتي:

- انظري يا فوزية إلى يديك.

ففهمت أنها تشير إلى الخطوط السوداء تحت الأظافر فقلت

- هذه ليست وساخة، إنه طين متخلف من الزرع الذي أزرعه.

قالت وهي تربت على كتفي: «لا يليق لا يليق أبداً وأنت موظفة!».

تضفي المؤلفة بعض الصفات الضرورية على شخصية «فوزية» ومنها صفة «الإصرار» التي تظهر في أول مشاهد القصة حين تخرج بحثاً عن بعض أنواع «البراعم» في الشتاء القارس: «طال الشتاء فلم أعد قادرة على الانتظار، لبست معطفي القديم وربطت رأسي بمنديلي الصوفي ونزلت إلى الشوارع أقطعها وأتوقف عند الشجر، أنظر وأتحقق. وعندما تفشل عيناي في رؤية شيء على الفروع الجافة أمد يدي أحس وأتحسس».

ويبدو أن تمرد هذه الشخصية وإصرارها استطاعا «خلخلة» هذه التقاليد المجتمعية المضادة على نحو ما يظهر في نهاية القصة، حين تقول (فوزية): «اليوم جاءتني امرأة تسكن في نفس الشارع وقالت رأيت أصص الزرع في الشرفة، قالت إنها جميلة وسألتني على استحياء أن أعلمها فأريتها كيف، أهديتها عود نعناع كنت قد زرعته ثم جلسنا وتحدثنا».

صرخة زوجة

وإذا كانت رضوى عاشور قدمت نموذج الشخصية المتمردة على التقاليد المجتمعية المستقرة، فإن هالة البدري في قصة «مرآة» تتمرد من خلال شخصية الساردة على وضعية «أسرية» خاطئة، لأنها تقوم على العطاء من جانب أو طرف واحد، وهو الزوجة التي ترعى زوجها وأبناءها دون مقابل معنوي، الأمر الذي جعلها تطرح تساؤلاً مريراً: «هل هناك ما يستحق أن أقتلع سنوات عمري لأصفّها أحجاراً لأساس أعلم أن نزوة ريح قادمة لا ريب لكي تدحرج كل منها في اتجاه».

ومن ثنايا هذا السؤال الاستنكاري يبدأ تمردها الذي ظل يتصاعد من مستوى إلى آخر، يبدأ المستوى الأول بكشف زيف الزوج: «الآن أستطيع أن أبتسم له وأنا في قمة يأسي من عدم فهمه لأي شيء» أو قولها تصويراً لسلبيته وأنانيته: «الآن عرفت أنك لا تسمع شيئاً، أنت تتلقى فحسب، كيف غاب عني هذا لسنوات، من المسئول؟ أنا بأوهامي عن أعبائك أم أنت».

وتصور عزوفه عن الحياة بأنه ليس زهداً «بل تركيب مرآه تعكس فحسب، ولا تشع».

يتصاعد هذا التمرد متحققاً على مستوى الأداء «الأسلوبي» فيتحول من أسلوب «التصوير» الفني القائم على عنصري «الاستعارة» و«التشبيه» إلى الأسلوب المباشر المتسم بالحدة والوضوح على نحو ما يظهر من وصفها الباتر لهذا الزوج: «أنت مخلوق هلامي لا يشعر، لا يتأوه».

ويصل التمرد إلى ذروته حين تكشف الزوجة عن تناقض رؤيتها للحياة مع رؤية زوجها قائلة: «أنت زاهد فيها وأنا أريدها بكل ما فيها من ألم ويأس وسعادة ونجاح، قمة التحقق أن تدمينا وتبكينا وتأخذ منا وتهبنا ونختطف منها ما نشاء، أن ننتشي بالحب والموت والميلاد، وأن نطمح للقمم والروابي، أن نطير فنمسك بالسحب، أن نسقط معها مطراً، أن تتمزق أجسادنا أشلاء فوق صخورها، وأن ندفن فننمو زهوراً يانعة من جديد».

تساؤلات طفلة

تبدو فكرة «الرجولة» أو مفهومها الحقيقي أحد الدلالات الأساسية في قصة «ابتسامة السكر» لسلوى بكر، واللافت حقاً أن طرح هذا «المفهوم» يتم من منظور طفلة تتخذ موقع الراوي الداخلي المشارك في الأحداث. تقوم الأم بتلقينها وصايا ومفاهيم حول الرجولة، كما أن المؤلفة لم تفرض على الطفلة وعياً يعلو على طبيعة إدراكها في مثل هذه السن المبكرة، كما لم تفرض عليها لغة لا تتناسب مع المفردات المتداولة في مثل تلك المرحلة.

ومن خلال تأمل الراوية الطفلة لأوصاف أبيها الراحل التي ترد على لسان الأم، تطرح مفهومها الخاص للرجولة والذي يتمرد على المفهوم السائد، فهي ترفض بداية أن يكون «طويلاً عريضاً يسد الأبواب» وكأننا أمام ترميز خفي يقوم على رفض الرجولة التي تقف حائلاً أمام رغبات الآخرين كما يبدو من سؤال الطفلة البريء: «لو كان هناك أي شخص يرغب في المرور، هل من الأدب أن يسد أبي الباب ويمنعه من ذلك؟».

وهكذا، تجد أنفسنا أمام تفكيك لمفهوم الرجولة ينزع عنها فكرة الاحتكام إلى «الهيئة» أو «المظهر»، فحين تقارن هذه الطفلة بين شقيقها الذي ينهرها دائماً وأختها (أسماء)، تقول: «أسماء أكبر منه وأطيب منه، تساعد أمي في الطبخ وغسل الصحون، ولا تجعلها تعد لها الشاي أثناء المذاكرة كما يفعل هو، لكن أمي لا تقول عنها إنها سوف تكون رجل البيت».