الصحافة المحايدة تنقرض في تركيا.. والصحف «تنقي» صفوفها بطرد المخالفين

صحافي تركي يزعم أنه طرد لمعارضته الحزب الحاكم يقول لـ: هم الذين تغيروا وليس نحن

مفيد يوكسال  .... مراد أردين  .... لافنت جولتاكين
مفيد يوكسال .... مراد أردين .... لافنت جولتاكين
TT

الصحافة المحايدة تنقرض في تركيا.. والصحف «تنقي» صفوفها بطرد المخالفين

مفيد يوكسال  .... مراد أردين  .... لافنت جولتاكين
مفيد يوكسال .... مراد أردين .... لافنت جولتاكين

يعيش الإعلام التركي في المرحلة الراهنة حالة من الاستقطاب الشديد بين وسائل إعلام المعارضة والموالاة، مع اضمحلال لافت في وسائل الإعلام المحايدة، الأمر الذي يجعل من موضوع الحريات في هذا البلد الذي يصنف على أنه «أكبر سجن للصحافيين في العالم» وفق توصيف المنظمات المهتمة بالحريات الإعلامية، أمرا شديد الحساسية. وهذا التطور لافت خصوصا أن تركيا من الدول التي تعتمد «التعتيم الإعلامي» في حالة الأزمات، وآخرها الحرب التي تشنها أنقرة ضد تنظيم «حزب العمال الكردستاني» وتنظيم داعش حاليا حيث منعت السلطات نشر أي خبر عن هذه المواجهات إلا تلك التي تأتي من مصادر رسمية. ورغم العدد الكبير من الصحافيين المسجونين، فإن قلة منهم في السجن لأسباب تتعلق بالمهنة، فمعظم هؤلاء في السجن باتهامات جنائية – سياسية.
ويوجد في تركيا حاليا الكثير من التكتلات الإعلامية القوية، ومنها مجموعة «سمانيولو» التي تتبع لرجل الدين التركي المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن الذي تعتبره الحكومة «العدو رقم واحد» وتتهمه بإقامة «دولة خفية» في مؤسسات الدولة، كما توجد مجموعة أخرى تسمى مجموعة «دوغان» الإعلامية، والمجموعتان تمتلكان عددا واسعا من الصحف والمجلات والقنوات الإعلامية، وفي المقابل هناك مجموعات موالية للحكومة يقودها مقربون من الحزب الحاكم، بالإضافة إلى الإعلام الرسمي التركي الذي دخل في حلبة المواجهة أيضا.
وبسبب هذه التكتلات، بدأت الصحافة التركية تفرز نفسها بين موالاة ومعارضة، فالكتاب الموالون للحكومة يذهبون إلى وسائل الإعلام الموالية، والمعارضون لها يذهبون إلى وسائل الإعلام المعارضة. أما من لم يختر الذهاب بنفسه، فهو قد يفصل أو يستقيل بسبب رفض مؤسسته نشر مقالة له تنتقد الجهة التي تنتمي إليها، كما حصل مع الصحافي التركي قدري جورسيل الذي طرد من صحيفة «ملليت» الموالية بسبب «تغريدة» انتقد فيها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، واتهمه فيها بأنه هو المسؤول عن التفجير الذي شهدته مدينة سروج على الحدود مع سوريا. وقد نشرت صحيفة «ملليت» بيانًا على موقعها الإلكتروني عقب التغريدة، قالت فيه إنها تختلف مع جورسيل حيث إن تعليقاته لا تتوافق مع أخلاقيات الصحافة ووجهات النظر المتعلقة بالنشر الخاصة بها.
وكشفت جمعية الصحافيين الأتراك عن طرد 339 صحافيا من أعمالهم خلال عام واحد. ولفتت الجمعية في تقرير لها حول شهر يونيو (حزيران) الماضي إلى تزايد الضغوط الممارسة على الإعلام. وأن البطالة والتمييز أصبحا قدرا بالنسبة للصحافة التركية. ونقلت صحيفة «بوجون» عن بيان الجمعية المعنون بـ«الصحافة من أجل الحرية» أن ممارسة أعمال الضغط والإقصاء ضد الصحافيين لا تزال مستمرة رغم الآمال والتوقعات بترسيخ المزيد من الحريات بعد صدور نتائج الانتخابات العامة.
كما سجلت حالات ترحيل لصحافيين أجانب انتقدوا الحكومة، كما في حالة الصحافي الأذري ماهر زينالوف حيث ذكرت صحيفة «زمان» التركية أن الشرطة رافقت محرر موقعها الإلكتروني وهو من أذربيجان إلى طائرة في إسطنبول. وقال زينالوف بالهاتف من باكو عاصمة أذربيجان «تلقت جهة مرتبطة برئيس الوزراء معلومة سرية مفادها أنني أهنت مسؤولين كبارا وأبلغت وزارة الداخلية التي قررت ترحيلي» مضيفا أنه تقدم بطلب لتجديد تصريح العمل الخاص به الشهر الماضي لكنه رفض. كما رفعت دعوى قضائية بحق الصحافي طولجا طانيش الذي يعمل في أميركا بحجة أنه أساء للرئيس رجب طيب إردوغان.
ويتحدث مراد ايردن الكاتب في جريدة «بوجون» المعارضة عن إغلاق مواقع الإنترنت للكثير من الصحف التركية بعد أن بدأت الحملات العسكرية ضد «داعش» و«الكردستاني»، شاكيا مما وصفه بـ«حملات قمع للإعلاميين ووسائل الإعلام بعد فضائح الفساد التي اعتقل خلالها أبناء وزراء في 17 و25 من ديسمبر (كانون الأول) عام 2013». ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «لم يقتصر الأمر على الإعلام المرئي والمكتوب بل شمل أيضا الإعلام الرقمي وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي حيث إن إردوغان انتقد وهدد عدة مرات بأنه سيغلق موقع «تويتر» وبالفعل أغلق «تويتر» و«يوتوب» عدة مرات وقالها إردوغان سنحارب «تويتر» بكل ما نمتلك من وسائل. كما أشار إلى أن الضغوط تخطت الإعلام لتصل إلى المؤسسات غير الإعلامية التي يمتلكها أصحاب تلك الوسائل الإعلامية ولهذا السبب أصبحت تركيا في أسفل القائمة التي تعدها المنظمات الدولية التي تدافع عن الإعلام والصحافة.
وقال: «الحكومة حظرت نشر أي خبر عن أهم الأحداث التي عاشتها تركيا ومن بينها تفجيرات الريحانية وقصف الطائرات التركية للمهربين بالقرب من الحدود العراقية ومن ثم شاحنات الأسلحة التي كانت تنقل أسلحة لداعش وكان آخرها حظر نشر أي معلومات عن تفجيرات سروج والعمليات العسكرية التي تقوم بها القوات المسلحة قبل يومين كما تحظر الوصول إلى أي خبر أو موقع لم يعجب الحكومة أو أيا من وزرائها». وأضاف: «ولكن يجب أن لا ننكر بأننا كصحافين كنا ندعم ونمدح إجراءات العدالة والتنمية عندما كانت إيجابية لأن العدالة كانت تريد أن توسع مجال الحريات في تركيا وهذا شيء يدعم بل ويشجع، ولكن قبل 4 أعوام بدأ الوضع يتغير حيث اختلفت نظرة الحكومة إلى مجال الحريات في البلاد وبدأت تتراجع وكان هذا واضحا في أحداث حديقة جيزي وميدان تقسيم (المواجهات مع الشرطة عام 2013) واستمر هذا في أحداث الفساد، ومع أن الاتحاد الأوروبي كان يدعم جميع خطوات حزب العدالة على صعيد الإصلاحات ويشجعها ولكنه الآن ينتقده لأنه بدأ يمارس العكس وبدأت تركيا تتراجع في مجال الديمقراطية».
ورأى أن الحزب الحاكم «لم يكتف بقمع الإعلام الخاص بل حول مؤسسة الراديو والتلفزيون الرسمية إلى مؤسسة ناطقة باسمه فقط وأصبحت بوقا من أبواق العدالة».
ويشكو الكاتب ليفنت جولتكين من أنه «أجبر على ترك العمل في جريدة (ستار) الموالية لإردوغان مباشرة». ويقول لـ«الشرق الأوسط»: كنت أعمل في جريدة «ستار» وكنا ندافع عن إجراءات وإنجازات الحكومة لأنها كانت تتماشى مع معايير الانطباق مع الاتحاد الأوروبي في جميع المجالات القضاء والتعليم والديمقراطية والاقتصاد، ولكن الحزب تخلى عن جميع هذه الأشياء وعن المبادئ التي وصل بها إلى الحكم منذ عام 2009. فمثلاً كان قبلها يتشدق بالسلام، اليوم لا يخرج من أفواههم إلا الحرب والاشتباكات، أمس كان ينادي بالحكم المشترك والاستشارة، اليوم تحولت البلاد والحكومة والحزب إلى حكم رجل واحد يسير البلاد حسب أهوائه. ويضيف: «أنا شخصيا لم أقبل الإملاءات ولن أقبل على نفسي كصحافي أن أكون تحت سقف جريدة تزيف الحقائق وتنشر فقط حسب أهواء الزعيم، وأصحاب الجريدة أيضا كانوا يعرفون بأنهم لن يستطيعوا أن يجبروني ولهذا غادرت الصحيفة». ويتابع: «مع الأسف يمكن أن أقول بأن حزب العدالة والتنمية بدأ يتراجع عن جميع الإنجازات التي حققها في مجال الديمقراطية والتي بدأها منذ عام 2002 وحتى عام 2011. واليوم أصبح يطبق ما كان ينتقده في عهد الحكومات التي سبقت حكم العدالة والتنمية، ومع الأسف تحول حزب العدالة من حزب يدافع عن حقوق الناخب إلى حزب يدافع عن الدولة وكيانها وأصبح كباقي أحزاب الدولة السياسية الأخرى فلا فرق بينهم، فالحزب الذي كان ينادي بتوسيع مجال الحريات والانتقال إلى الاقتصاد المفتوح وتنمية البلاد وزيادة رخاء المواطن تخلى عن هذه المبادئ ووضعها في الدرج ولم يبق أي أثر لحزب العدالة والتنمية الذي كنا نعهده قبل عام 2009».
ويرى جولتكين أن الذي تغير في البلد ليسوا الصحافيين والشارع والاتحاد الأوروبي، بل يرى أن «الذي تغير هو العدالة والتنمية الذي بدأ يتنكر لسياسة الحوار ولتوسيع مجالات الديمقراطية وأوقف الانطباق مع الاتحاد الأوروبي... هم الذين تغيروا وليس نحن».
وإذ أشار إلى أن هذا التحول بدأ عام 2009 وظهر جليا عام 2011 حيث أصبح العدالة حزبا مثل أحزاب تركيا في السبعينات وتحول مثلا من حزب يريد حل معضلة دامية في تركيا منذ 40 عاما (القضية الكردية) بالحوار والسياسة إلى حزب يرجح استخدام القوة في حلها وأحداث الأيام الأخيرة تثبت ما أقوله. وقال: «تركيا كانت دولة تعيش دون أي خوف من أحد، ولكن المرحلة التي تعيشها تركيا حاليا حرجة جدا فحياة تركيا الآن مهددة وهي في نفق مظلم ولا يعرف الحكام كيفية الخروج من هذا النفق كل ما يهمهم كم سيبقون على كرسي الحكم أما البلاد فلا تهم قط، ولهذا ستعمل على التقليل من حريات الإعلام بكل الوسائل لأنهم يعون قوة الإعلام كسلطة رابعة في الحكم، ولن يسمحوا لأي صوت مغاير للإعلام الموالي لهم بأن يرفع صوته». ويخلص إلى القول: «حرية الإعلام في تركيا ذاهبة في طريقها إلى الأسوأ وسيركزون على الإعلام الرقمي ومواقع الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي ما سيشكل أرضية للاحتقان وخروج الراديكاليين من جميع الجهات إلى الساحة وستستمر البلاد في الفوضى أكثر مما عليه اليوم».
وفي المقابل، يؤكد مفيد يوكسال من جريدة «يني شفق» الموالية للحكومة أنه لا يوجد أي تراجع في مجال الحريات في الإعلام ولكن خرج علينا ما يمكن أن نسميه تكتلات إعلامية. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «حتى عام 2011 كانت التكتلات الإعلامية ضعيفة جدا ولا يعمل لها أي حساب، ورغم أن هذه التكتلات بدأت تعلن عن نفسها بكل قوة، فإنها لم تتعرض إلى أي ضغوطات أو عمليات ابتزاز من قبل الحكومة، حيث توجد كتل تتكون من إعلام جماعة فتح الله غولن ومجموعة دوغان الإعلامية، التي اتخذت موقفا مؤيدا لجماعة فتح الله غولن في حربها مع حزب العدالة والتنمية، كما يوجد بعض الكتل التي تعتبر نفسها مستقلة وكتلة إعلامية موالية للحكومة، ولكن الكتلة الموالية للحكومة يوجد بها أصوات تنتقد إجراءاتها». ويشدد أنه لم يسمع أو يقرأ بأنه حجب أو منع نشر أي خبر من الطرف أو الكتلة المعارضة للحكومة وخاصة إعلام الجماعة وإعلام مجموعة دوغان الذين ينشرون ويبثون في جميع وسائلهم كل ما يريدون وبكل حرية بل وينتقدون السلطة ورئيس الجمهورية انتقادات حادة ولم نسمع أو نرى بأن أحدهم اعتقل أو سجن نتيجة انتقاده للحكومة.
ويرى يوكسال أنه «من الطبيعي أن تتدخل الحكومة أو المقربون منها في عناوين الصحف أو كيفية صياغة الأخبار لأن الكتل الأخرى أصبحت لا شغل لها إلا تشويه صورة الحكومة والعدالة ورئيس الجمهورية، كما أن هذا الأسلوب أيضا ينطبق على الصحف والمجلات والوسائل الإعلام الأخرى المقربة من حزب الشعب الجمهوري أو الحركة القومية أو ديمقراطية الشعوب». وأردف قائلا: «هذا من حقهم أيضا كل يوجهه مؤيدوه حسب ما يراه صوابا، فلماذا ينتقد حزب العدالة والتنمية الذي نال تأييد 52 في المائة من الشارع التركي الذي من الطبيعي أن يكون له صحف ومؤيدون وموالون، ولكن حسب ما استشفيت من السياسيين فإن هذه التكتلات خاصة من طرف العدالة والتنمية ستقل حدتها خاصة بعد أن انخفضت نسبة تأييد الحزب إلى 40 في المائة».
أما بالنسبة لحظر بعض المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة، فيرى يوكسال أن الأمر لا يقتصر على تركيا ففي جميع أنحاء العالم وخاصة الدول المتقدمة تقوم بمثل هذه الإجراءات سواء لأسباب أمنية أو لأسباب اجتماعية أو غيرهما، ولم يستمر الحظر طويلا بل أعيد التواصل بتلك القنوات بعد ساعات وأعتقد بأن الحكومة لن تقوم منذ الآن فصاعدا بإغلاق أو حجب أي موقع إلكتروني لأن هذا يضر بسمعة تركيا أكثر مما ينفعها، وهذا الموضوع يناقش وبكل جدية في الحزب والحكومة والجميع أجمع على أن إغلاق تلك المواقع ليس بصالح الحزب ولهذا أقر بأنه لا يغلق أي موقع إلكتروني بعد الآن، معربا عن اعتقاده أن الحزب سيعيد جميع حساباته من جديد وسيرجع إلى المبادئ التي بدأها منذ عام 2002 وسيسرع من تطبيق الديمقراطية وفسح المجال للحريات أكثر فأكثر.



كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
TT

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)

قبل 861 عاماً، نهضت كاتدرائية «نوتردام دو باريس» في قلب العاصمة الفرنسية. ومع مرور العقود والعصور تحوّلت إلى رمز لباريس، لا بل لفرنسا. ورغم الثورات والحروب بقيت «نوتردام» صامدة حيث هي، في قلب باريس وحارسة نهر السين الذي يغسل قدميها. إلا أن المأساة حلّت في شهر أبريل (نيسان) من عام 2019، عندما اندلع حريق هائل، التهمت نيرانه أقساماً رئيسة من الكاتدرائية التي انهار سقفها وتهاوى «سهمها»، وكان سقوطه مدوياً.

منظر للنافذة الوردية الجنوبية لكاتدرائية نوتردام دو باريس(رويترز)

حريق «نوتردام» كارثة وطنية

وكارثة «نوتردام» تحوّلت إلى مأساة وطنية، إذ كان يكفي النظر إلى آلاف الباريسيين والفرنسيين والسياح الذين تسمّروا على ضفتي نهر السين ليشهدوا المأساة الجارية أمام عيونهم. لكن اللافت كانت السرعة التي قررت فيها السلطات المدنية والكنسية مباشرة عملية الترميم، وسريعاً جدّاً، أطلقت حملة تبرعات.

وفي كلمة متلفزة له، سعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى شد أزر مواطنيه، مؤكداً أن إعادة بناء الكاتدرائية و«إرجاعها أجمل مما كانت» ستبدأ من غير تأخير. وأعلن تأسيس هيئة تشرف عليها، وأوكل المهمة إلى الجنرال جان لويس جورجولين، رئيس أركان القوات المسلحة السابق. وبدأت التبرعات بالوصول.

وإذا احتاجت الكاتدرائية لقرنين لاكتمال بنائها، فإن ترميمها جرى خلال 5 سنوات، الأمر الذي يعد إنجازاً استثنائياً لأنه تحول إلى قضية وطنية، لا بل عالمية بالنظر للتعبئة الشعبية الفرنسية والتعاطف الدولي، بحيث تحوّلت الكاتدرائية إلى رابطة تجمع الشعوب.

وتبين الأرقام التي نشرت حديثاً أن التبرعات تدفقت من 340 ألف شخص، من 150 دولة، قدّموا 846 مليون يورو، إلا أن القسم الأكبر منها جاء من كبار الممولين والشركات الفرنسية، ومن بينهم من أسهم بـ200 مليون يورو. ومن بين الأجانب المتبرعين، هناك 50 ألف أميركي، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وكان أحد الأسباب التي دفعته للمجيء إلى فرنسا؛ البلد الأول الذي يزوره بعد إعادة انتخابه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

متطوعون يضعون برنامج الحفل على المقاعد قبل الحفل (أ.ف.ب)

منذ ما يزيد على الشهر، تحوّلت الكاتدرائية إلى موضوع إلزامي في كل الوسائل الإعلامية. وخلال الأسبوع الحالي، حفلت الصحف والمجلات وقنوات التلفزة والإذاعات ببرامج خاصة تروي تاريخ الكاتدرائية والأحداث الرئيسة التي عاشتها في تاريخها الطويل.

وللدلالة على الأهمية التي احتلتها في الوعي الفرنسي، فإن رئيس الجمهورية زارها 7 مرات للاطلاع على التقدم الذي حققه المهنيون والحرفيون في إعادة البناء والترميم. وإذا كانت الكاتدرائية تجتذب قبل 2012 ما لا يقل عن 12 مليون زائر كل عام، فإن توقعات المشرفين عليها تشير إلى أن العدد سيصل العام المقبل إلى 15 مليوناً من كل أنحاء العالم.

المواطنون والسياح ينتظرون إفساح المجال للوصول الى ساحة الكاتدرائية (أ.ف.ب)

باريس «عاصمة العالم»

خلال هذين اليومين، تحوّلت باريس إلى «عاصمة العالم»، ليس فقط لأن قصر الإليزيه وجّه دعوات لعشرات من الملوك ورؤساء الدول والحكومات الذين حضر منهم نحو الخمسين، ولكن أيضاً لأن الاحتفالية حظيت بنقل مباشر إلى مئات الملايين عبر العالم.

وقادة الدول الذين قدّموا إلى «عاصمة النور» جاءوا إليها من القارات الخمس. وبسبب هذا الجمع الدولي، فإن شرطة العاصمة ووزارة الداخلية عمدتا إلى تشكيل طوق أمني محكم لتجنب أي إخلال بالأمن، خصوصاً أن سلطاتها دأبت على التحذير من أعمال قد تكون ذات طابع إرهابي. وإذا كان الرئيس الأميركي المنتخب قد حظي بالاهتمام الأكبر، ليس لأنه من المؤمنين المواظبين، بل لأنه يُمثل بلداً له تأثيره على مجريات العالم.

لكن في المقابل، تأسف الفرنسيون لأن البابا فرنسيس اعتذر عن تلبية الدعوة. والمثير للدهشة أنه سيقوم بزيارة جزيرة كورسيكا المتوسطية الواقعة على بُعد رمية حجر من شاطئ مدينة نيس اللازوردية، في 15 الشهر الحالي. والمدهش أيضاً أنه منذ أن أصبح خليفة القديس بطرس في روما، «المدينة الخالدة»، فإنه زار فرنسا مرتين، ثانيها كانت لمدينة مرسيليا الساحلية. بيد أنه لم يأتِ إلى باريس إطلاقاً. ووفق مصادر واسعة الاطلاع، فإن قرار البابا أحدث خيبة على المستويين الديني والرسمي. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حدث تاريخي رئيس، وهو أن بابا روما بيوس السابع، قدم إلى باريس يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1804، لتتويج نابليون الأول إمبراطوراً.

وتمثل لوحة الرسام الفرنسي الشهير لوي دافيد، التي خلد فيها تتويج بونابرت، ما قام به الأخير الذي لم ينتظر أن يضع البابا التاج على رأسه، بل أخذه بيديه ووضعه بنفسه على رأسه، وكذلك فعل مع الإمبراطورة جوزفين.

احتفالية استثنائية

لم يساعد الطقس مساعدي الاحتفالية الذين خططوا لأن تكون من جزأين: الأول رسمي، ويجري في ساحة الكاتدرائية الأمامية؛ حيث يلقي الرئيس ماكرون خطابه المقدر من 15 دقيقة، وبعدها الانتقال إلى الداخل للجزء الديني. وكان مقدراً للمواطنين الـ40 ألفاً، إضافة إلى 1500 مدعو حظوا بالوجود داخل الكاتدرائية، أن يتابعوا الحدث من المنصات التي نصبت على ضفتي نهر السين، إلا أن الأمطار والعواصف التي ضربت باريس ومنطقتها أطاحت بالبرنامج الرئيس، إذ حصلت كل الاحتفالية بالداخل. بيد أن الأمطار لم تقض على شعور استثنائي بالوحدة والسلام غلب على الحاضرين، وسط عالم ينزف جراء تواصل الحروب، سواء أكان في الشرق الأوسط أم في أوكرانيا أم في مطارح أخرى من العالم المعذب. وجاءت لحظة الولوج إلى الكاتدرائية، بوصفها إحدى المحطات الفارقة، إذ تمت وفق بروتوكول يعود إلى مئات السنين. بدءاً من إعادة فتح أولريش لأبواب «نوتردام» الخشبية الكبيرة بشكل رمزي.

كاتدرائية «نوتردام» السبت وسط حراسة أمنية استعداداً لإعادة افتتاحها (إ.ب.ى)

وسيقوم بالنقر عليها 3 مرات بعصا مصنوعة من الخشب المتفحم الذي جرى إنقاذه من سقف الكاتدرائية الذي دمرته النيران، وسيعلن فتح الكاتدرائية للعبادة مرة أخرى. ونقل عن المسؤول عن الكاتدرائية القس أوليفييه ريبادو دوما أن «نوتردام»، التي هي ملك الدولة الفرنسية، ولكن تديرها الكنيسة الكاثوليكية «أكثر من مجرد نصب تذكاري فرنسي وكنز محبوب من التراث الثقافي العالم، لا بل هي أيضاً علامة على الأمل، لأن ما كان يبدو مستحيلاً أصبح ممكناً»، مضيفاً أنها أيضاً «رمز رائع».

الأرغن الضخم يحتوي على 8 آلاف مزمار تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام (أ.ف.ب)

كذلك، فإن تشغيل الأرغن الضخم الذي تم تنظيفه وتحضيره للمناسبة الاستثنائية، تم كذلك وفق آلية دقيقة. ففي حين ترتفع المزامير والصلوات والترانيم، فإنه جرى إحياء الأرغن المدوي، الذي صمت وتدهورت أوضاعه بسبب الحريق. ويحتوي الأرغن على 8 آلاف مزمار، تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام. وقام 4 من العازفين بتقديم مجموعة من الألحان بعضها جاء مرتجلاً.

إلى جانب الشقين الرسمي والديني، حرص المنظمون على وجود شق يعكس الفرح؛ إذ أدت مجموعة من الفنانين الفرنسيين والأجانب لوحات جميلة جديرة بالمكان الذي برز بحلة جديدة بأحجاره المتأرجحة بين الأبيض والأشقر وزجاجه الملون، وإرثه الذي تم إنقاذه من النيران وأعيد إحياؤه.

وبعد عدة أيام، سيُعاد فتح الكاتدرائية أمام الزوار الذي سيتدفقوة بالآلاف على هذا المعلم الاستثنائي.

حقائق

846 مليون يورو

تدفقت التبرعات من 340 ألف شخص من 150 دولة قدموا 846 مليون يورو لإعادة ترميم نوتردام