الصحافة المحايدة تنقرض في تركيا.. والصحف «تنقي» صفوفها بطرد المخالفين

صحافي تركي يزعم أنه طرد لمعارضته الحزب الحاكم يقول لـ: هم الذين تغيروا وليس نحن

مفيد يوكسال  .... مراد أردين  .... لافنت جولتاكين
مفيد يوكسال .... مراد أردين .... لافنت جولتاكين
TT

الصحافة المحايدة تنقرض في تركيا.. والصحف «تنقي» صفوفها بطرد المخالفين

مفيد يوكسال  .... مراد أردين  .... لافنت جولتاكين
مفيد يوكسال .... مراد أردين .... لافنت جولتاكين

يعيش الإعلام التركي في المرحلة الراهنة حالة من الاستقطاب الشديد بين وسائل إعلام المعارضة والموالاة، مع اضمحلال لافت في وسائل الإعلام المحايدة، الأمر الذي يجعل من موضوع الحريات في هذا البلد الذي يصنف على أنه «أكبر سجن للصحافيين في العالم» وفق توصيف المنظمات المهتمة بالحريات الإعلامية، أمرا شديد الحساسية. وهذا التطور لافت خصوصا أن تركيا من الدول التي تعتمد «التعتيم الإعلامي» في حالة الأزمات، وآخرها الحرب التي تشنها أنقرة ضد تنظيم «حزب العمال الكردستاني» وتنظيم داعش حاليا حيث منعت السلطات نشر أي خبر عن هذه المواجهات إلا تلك التي تأتي من مصادر رسمية. ورغم العدد الكبير من الصحافيين المسجونين، فإن قلة منهم في السجن لأسباب تتعلق بالمهنة، فمعظم هؤلاء في السجن باتهامات جنائية – سياسية.
ويوجد في تركيا حاليا الكثير من التكتلات الإعلامية القوية، ومنها مجموعة «سمانيولو» التي تتبع لرجل الدين التركي المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن الذي تعتبره الحكومة «العدو رقم واحد» وتتهمه بإقامة «دولة خفية» في مؤسسات الدولة، كما توجد مجموعة أخرى تسمى مجموعة «دوغان» الإعلامية، والمجموعتان تمتلكان عددا واسعا من الصحف والمجلات والقنوات الإعلامية، وفي المقابل هناك مجموعات موالية للحكومة يقودها مقربون من الحزب الحاكم، بالإضافة إلى الإعلام الرسمي التركي الذي دخل في حلبة المواجهة أيضا.
وبسبب هذه التكتلات، بدأت الصحافة التركية تفرز نفسها بين موالاة ومعارضة، فالكتاب الموالون للحكومة يذهبون إلى وسائل الإعلام الموالية، والمعارضون لها يذهبون إلى وسائل الإعلام المعارضة. أما من لم يختر الذهاب بنفسه، فهو قد يفصل أو يستقيل بسبب رفض مؤسسته نشر مقالة له تنتقد الجهة التي تنتمي إليها، كما حصل مع الصحافي التركي قدري جورسيل الذي طرد من صحيفة «ملليت» الموالية بسبب «تغريدة» انتقد فيها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، واتهمه فيها بأنه هو المسؤول عن التفجير الذي شهدته مدينة سروج على الحدود مع سوريا. وقد نشرت صحيفة «ملليت» بيانًا على موقعها الإلكتروني عقب التغريدة، قالت فيه إنها تختلف مع جورسيل حيث إن تعليقاته لا تتوافق مع أخلاقيات الصحافة ووجهات النظر المتعلقة بالنشر الخاصة بها.
وكشفت جمعية الصحافيين الأتراك عن طرد 339 صحافيا من أعمالهم خلال عام واحد. ولفتت الجمعية في تقرير لها حول شهر يونيو (حزيران) الماضي إلى تزايد الضغوط الممارسة على الإعلام. وأن البطالة والتمييز أصبحا قدرا بالنسبة للصحافة التركية. ونقلت صحيفة «بوجون» عن بيان الجمعية المعنون بـ«الصحافة من أجل الحرية» أن ممارسة أعمال الضغط والإقصاء ضد الصحافيين لا تزال مستمرة رغم الآمال والتوقعات بترسيخ المزيد من الحريات بعد صدور نتائج الانتخابات العامة.
كما سجلت حالات ترحيل لصحافيين أجانب انتقدوا الحكومة، كما في حالة الصحافي الأذري ماهر زينالوف حيث ذكرت صحيفة «زمان» التركية أن الشرطة رافقت محرر موقعها الإلكتروني وهو من أذربيجان إلى طائرة في إسطنبول. وقال زينالوف بالهاتف من باكو عاصمة أذربيجان «تلقت جهة مرتبطة برئيس الوزراء معلومة سرية مفادها أنني أهنت مسؤولين كبارا وأبلغت وزارة الداخلية التي قررت ترحيلي» مضيفا أنه تقدم بطلب لتجديد تصريح العمل الخاص به الشهر الماضي لكنه رفض. كما رفعت دعوى قضائية بحق الصحافي طولجا طانيش الذي يعمل في أميركا بحجة أنه أساء للرئيس رجب طيب إردوغان.
ويتحدث مراد ايردن الكاتب في جريدة «بوجون» المعارضة عن إغلاق مواقع الإنترنت للكثير من الصحف التركية بعد أن بدأت الحملات العسكرية ضد «داعش» و«الكردستاني»، شاكيا مما وصفه بـ«حملات قمع للإعلاميين ووسائل الإعلام بعد فضائح الفساد التي اعتقل خلالها أبناء وزراء في 17 و25 من ديسمبر (كانون الأول) عام 2013». ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «لم يقتصر الأمر على الإعلام المرئي والمكتوب بل شمل أيضا الإعلام الرقمي وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي حيث إن إردوغان انتقد وهدد عدة مرات بأنه سيغلق موقع «تويتر» وبالفعل أغلق «تويتر» و«يوتوب» عدة مرات وقالها إردوغان سنحارب «تويتر» بكل ما نمتلك من وسائل. كما أشار إلى أن الضغوط تخطت الإعلام لتصل إلى المؤسسات غير الإعلامية التي يمتلكها أصحاب تلك الوسائل الإعلامية ولهذا السبب أصبحت تركيا في أسفل القائمة التي تعدها المنظمات الدولية التي تدافع عن الإعلام والصحافة.
وقال: «الحكومة حظرت نشر أي خبر عن أهم الأحداث التي عاشتها تركيا ومن بينها تفجيرات الريحانية وقصف الطائرات التركية للمهربين بالقرب من الحدود العراقية ومن ثم شاحنات الأسلحة التي كانت تنقل أسلحة لداعش وكان آخرها حظر نشر أي معلومات عن تفجيرات سروج والعمليات العسكرية التي تقوم بها القوات المسلحة قبل يومين كما تحظر الوصول إلى أي خبر أو موقع لم يعجب الحكومة أو أيا من وزرائها». وأضاف: «ولكن يجب أن لا ننكر بأننا كصحافين كنا ندعم ونمدح إجراءات العدالة والتنمية عندما كانت إيجابية لأن العدالة كانت تريد أن توسع مجال الحريات في تركيا وهذا شيء يدعم بل ويشجع، ولكن قبل 4 أعوام بدأ الوضع يتغير حيث اختلفت نظرة الحكومة إلى مجال الحريات في البلاد وبدأت تتراجع وكان هذا واضحا في أحداث حديقة جيزي وميدان تقسيم (المواجهات مع الشرطة عام 2013) واستمر هذا في أحداث الفساد، ومع أن الاتحاد الأوروبي كان يدعم جميع خطوات حزب العدالة على صعيد الإصلاحات ويشجعها ولكنه الآن ينتقده لأنه بدأ يمارس العكس وبدأت تركيا تتراجع في مجال الديمقراطية».
ورأى أن الحزب الحاكم «لم يكتف بقمع الإعلام الخاص بل حول مؤسسة الراديو والتلفزيون الرسمية إلى مؤسسة ناطقة باسمه فقط وأصبحت بوقا من أبواق العدالة».
ويشكو الكاتب ليفنت جولتكين من أنه «أجبر على ترك العمل في جريدة (ستار) الموالية لإردوغان مباشرة». ويقول لـ«الشرق الأوسط»: كنت أعمل في جريدة «ستار» وكنا ندافع عن إجراءات وإنجازات الحكومة لأنها كانت تتماشى مع معايير الانطباق مع الاتحاد الأوروبي في جميع المجالات القضاء والتعليم والديمقراطية والاقتصاد، ولكن الحزب تخلى عن جميع هذه الأشياء وعن المبادئ التي وصل بها إلى الحكم منذ عام 2009. فمثلاً كان قبلها يتشدق بالسلام، اليوم لا يخرج من أفواههم إلا الحرب والاشتباكات، أمس كان ينادي بالحكم المشترك والاستشارة، اليوم تحولت البلاد والحكومة والحزب إلى حكم رجل واحد يسير البلاد حسب أهوائه. ويضيف: «أنا شخصيا لم أقبل الإملاءات ولن أقبل على نفسي كصحافي أن أكون تحت سقف جريدة تزيف الحقائق وتنشر فقط حسب أهواء الزعيم، وأصحاب الجريدة أيضا كانوا يعرفون بأنهم لن يستطيعوا أن يجبروني ولهذا غادرت الصحيفة». ويتابع: «مع الأسف يمكن أن أقول بأن حزب العدالة والتنمية بدأ يتراجع عن جميع الإنجازات التي حققها في مجال الديمقراطية والتي بدأها منذ عام 2002 وحتى عام 2011. واليوم أصبح يطبق ما كان ينتقده في عهد الحكومات التي سبقت حكم العدالة والتنمية، ومع الأسف تحول حزب العدالة من حزب يدافع عن حقوق الناخب إلى حزب يدافع عن الدولة وكيانها وأصبح كباقي أحزاب الدولة السياسية الأخرى فلا فرق بينهم، فالحزب الذي كان ينادي بتوسيع مجال الحريات والانتقال إلى الاقتصاد المفتوح وتنمية البلاد وزيادة رخاء المواطن تخلى عن هذه المبادئ ووضعها في الدرج ولم يبق أي أثر لحزب العدالة والتنمية الذي كنا نعهده قبل عام 2009».
ويرى جولتكين أن الذي تغير في البلد ليسوا الصحافيين والشارع والاتحاد الأوروبي، بل يرى أن «الذي تغير هو العدالة والتنمية الذي بدأ يتنكر لسياسة الحوار ولتوسيع مجالات الديمقراطية وأوقف الانطباق مع الاتحاد الأوروبي... هم الذين تغيروا وليس نحن».
وإذ أشار إلى أن هذا التحول بدأ عام 2009 وظهر جليا عام 2011 حيث أصبح العدالة حزبا مثل أحزاب تركيا في السبعينات وتحول مثلا من حزب يريد حل معضلة دامية في تركيا منذ 40 عاما (القضية الكردية) بالحوار والسياسة إلى حزب يرجح استخدام القوة في حلها وأحداث الأيام الأخيرة تثبت ما أقوله. وقال: «تركيا كانت دولة تعيش دون أي خوف من أحد، ولكن المرحلة التي تعيشها تركيا حاليا حرجة جدا فحياة تركيا الآن مهددة وهي في نفق مظلم ولا يعرف الحكام كيفية الخروج من هذا النفق كل ما يهمهم كم سيبقون على كرسي الحكم أما البلاد فلا تهم قط، ولهذا ستعمل على التقليل من حريات الإعلام بكل الوسائل لأنهم يعون قوة الإعلام كسلطة رابعة في الحكم، ولن يسمحوا لأي صوت مغاير للإعلام الموالي لهم بأن يرفع صوته». ويخلص إلى القول: «حرية الإعلام في تركيا ذاهبة في طريقها إلى الأسوأ وسيركزون على الإعلام الرقمي ومواقع الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي ما سيشكل أرضية للاحتقان وخروج الراديكاليين من جميع الجهات إلى الساحة وستستمر البلاد في الفوضى أكثر مما عليه اليوم».
وفي المقابل، يؤكد مفيد يوكسال من جريدة «يني شفق» الموالية للحكومة أنه لا يوجد أي تراجع في مجال الحريات في الإعلام ولكن خرج علينا ما يمكن أن نسميه تكتلات إعلامية. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «حتى عام 2011 كانت التكتلات الإعلامية ضعيفة جدا ولا يعمل لها أي حساب، ورغم أن هذه التكتلات بدأت تعلن عن نفسها بكل قوة، فإنها لم تتعرض إلى أي ضغوطات أو عمليات ابتزاز من قبل الحكومة، حيث توجد كتل تتكون من إعلام جماعة فتح الله غولن ومجموعة دوغان الإعلامية، التي اتخذت موقفا مؤيدا لجماعة فتح الله غولن في حربها مع حزب العدالة والتنمية، كما يوجد بعض الكتل التي تعتبر نفسها مستقلة وكتلة إعلامية موالية للحكومة، ولكن الكتلة الموالية للحكومة يوجد بها أصوات تنتقد إجراءاتها». ويشدد أنه لم يسمع أو يقرأ بأنه حجب أو منع نشر أي خبر من الطرف أو الكتلة المعارضة للحكومة وخاصة إعلام الجماعة وإعلام مجموعة دوغان الذين ينشرون ويبثون في جميع وسائلهم كل ما يريدون وبكل حرية بل وينتقدون السلطة ورئيس الجمهورية انتقادات حادة ولم نسمع أو نرى بأن أحدهم اعتقل أو سجن نتيجة انتقاده للحكومة.
ويرى يوكسال أنه «من الطبيعي أن تتدخل الحكومة أو المقربون منها في عناوين الصحف أو كيفية صياغة الأخبار لأن الكتل الأخرى أصبحت لا شغل لها إلا تشويه صورة الحكومة والعدالة ورئيس الجمهورية، كما أن هذا الأسلوب أيضا ينطبق على الصحف والمجلات والوسائل الإعلام الأخرى المقربة من حزب الشعب الجمهوري أو الحركة القومية أو ديمقراطية الشعوب». وأردف قائلا: «هذا من حقهم أيضا كل يوجهه مؤيدوه حسب ما يراه صوابا، فلماذا ينتقد حزب العدالة والتنمية الذي نال تأييد 52 في المائة من الشارع التركي الذي من الطبيعي أن يكون له صحف ومؤيدون وموالون، ولكن حسب ما استشفيت من السياسيين فإن هذه التكتلات خاصة من طرف العدالة والتنمية ستقل حدتها خاصة بعد أن انخفضت نسبة تأييد الحزب إلى 40 في المائة».
أما بالنسبة لحظر بعض المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة، فيرى يوكسال أن الأمر لا يقتصر على تركيا ففي جميع أنحاء العالم وخاصة الدول المتقدمة تقوم بمثل هذه الإجراءات سواء لأسباب أمنية أو لأسباب اجتماعية أو غيرهما، ولم يستمر الحظر طويلا بل أعيد التواصل بتلك القنوات بعد ساعات وأعتقد بأن الحكومة لن تقوم منذ الآن فصاعدا بإغلاق أو حجب أي موقع إلكتروني لأن هذا يضر بسمعة تركيا أكثر مما ينفعها، وهذا الموضوع يناقش وبكل جدية في الحزب والحكومة والجميع أجمع على أن إغلاق تلك المواقع ليس بصالح الحزب ولهذا أقر بأنه لا يغلق أي موقع إلكتروني بعد الآن، معربا عن اعتقاده أن الحزب سيعيد جميع حساباته من جديد وسيرجع إلى المبادئ التي بدأها منذ عام 2002 وسيسرع من تطبيق الديمقراطية وفسح المجال للحريات أكثر فأكثر.



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.