منذ نحو 10 سنوات، بدأت المواقع الإخبارية الإلكترونية تشق طريقها بقوة في لبنان. ودفع انتشار هذه المواقع ببعض الأحزاب السياسية ومحطات التلفزيون ووسائل إعلام مكتوبة ومسموعة إلى إنشاء مواقعها الخاصة، التي عبرها ركبوا الموجة التي لا بد منها لمواكبة الخبر السريع.
«ليبانون فايلز» و«ليبانون ديبايت» و«النشرة» و«نبض» و«بصراحة» وغيرها، بالإضافة إلى مواقع أخرى خاصة بالصحف كـ«النهار» و«الأخبار» و«الديار»، باتت من المواقع المعروفة. وبالتوازي، نشطت المواقع الحزبية كتلك التابعة لـ«التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» و«الكتائب»، ناهيك بتلك التابعة لمحطات تلفزيونية كـ«المؤسسة اللبنانية للإرسال» و«الجديد» و«إم تي في» وغيرها.
غير أن هذه الطفرة للمواقع الإلكترونية التي اجتاحت لبنان، كانت بمثابة سيف ذي حدين. فهي من ناحية أسهمت في إيصال الأخبار بسرعة إلى الناس، لكنها من ناحية ثانية أثارت جدلاً - ولا تزال - على الساحة حول مستوى صدقيتها.
آراء حول فاعليتها
معظم الإعلاميين والصحافيين اللبنانيين يتفقون على أن هذه المواقع الإخبارية الكثيرة، لا تشكل مصدراً موثوقاً بالنسبة لهم. بل بعضهم يرى في غالبيتها وسيلة سريعة لإيصال الأخبار الزائفة، بينما يعدّها آخرون مجرّد منصات تلفت نظر الصحافي إلى أحداث ومواضيع تستحق التحقق من مدى صحتها. بعض الصحافيين الذين التقتهم «الشرق الأوسط» يرون أن هذه المواقع لا تكلف نفسها أكثر من نقل أخبار التلفزيون على صفحاتها.
وبالفعل، تقول إحدى الصحافيات بصراحة، إنها لا تتابع سوى المواقع الإلكترونية الخاصة بالتلفزيونات، وإن المواقع الأخرى لا تعني لها الكثير، إلا في حال تمريرها خبراً لافتاً. قبل أن تضيف: «أعود إلى مصادر أخرى لدي ثقة أكبر بها كي أتأكد من الخبر الذي قرأته. وعادة ما تكون الوكالات الإعلامية من محلية وأجنبية هي وجهتي، أو أعود إلى المصدر الأساسي المرتبط الخبر باسمه». وأيضاً، بالنسبة للإعلاميين المهنيين يمكن لهذه المواقع أن تقنع المواطن العادي، ولكن ليس الصحافي المحترف. وهنا تتهم صحافية أخرى التقيناها: «غالبية هذه المواقع تعمل على سرقة الخبر من هنا وهناك، ثم إعادة نشره على صفحاتها». ثم توضح: «لا نستطيع في عملنا الاتكال على هذه المواقع، إذ لا رقابة عليها، حتى إنها تعمل بلا قوننة رسمياً. ولذا أفضل لنا العودة إلى المصدر الأساسي أو الوكالة الوطنية والوكالات الأجنبية».
مشكلة «قوننة» المواقع
وهنا، في ظل انتشار المواقع الإلكترونية في لبنان، اللافت هو عملها من دون التمتع بقانون رسمي يحفظ حمايتها أو حتى عملية انتشارها. وعلى الرغم من تكرار مطالبات العاملين في هذه المواقع بمعاملتهم محررين، فإن تشريعها لم يتحقق بعد. وبالتالي، لم تلقَ محاولات نقابة المحررين منذ سنوات حتى اليوم، من أجل تغيير قانون الإعلام وتعديله - وهو الصادر منذ عام 1962 - آذاناً صاغية.
في هذا الصدد، يقول جوزيف القصيفي، نقيب المحرّرين في لبنان لـ«الشرق الأوسط»، إن النقابة منذ عام 1994 تعمل على قانون جديد للإعلام، إلا أن هناك دائماً من يضع العصا في الدواليب لتنفيذه. ويوضح: «هذا القانون استغرق منا جهداً وعملاً حثيثاً من دون التوصل إلى نتيجة إيجابية. كانت اللجان التي تحول إليه ترميه إلى أخرى، ويتقاذفونه من دون جدوى ومن ثم ينسفونه... وكلما وصل القانون إلى يدي وزير إعلام جديد يبقى دون بت، ثم بعد انقضاء عهده ويذهب إلى وزير آخر، نعود إلى نقطة الصفر بحجة ضرورة المراجعة وإبداء الملاحظات».
ويشدد القصيفي على ضرورة إيقاف هذه الفوضى في التعامل بقانون الإعلام الجديد «الذي أوردنا فيه مادة تضع جميع وسائل الإعلام مع الرقمية منها تحت سقف القانون». ويستطرد: «ولكن، مع الأسف لا نزال نعمل اليوم تحت سقف قانون المطبوعات الذي عفا عليه الزمن... كيف لنا أن نعيش في زمن الرقمي بموجب قانون وضع في الستينات وعدّل لمرتين من دون الغوص في أمور أساسية يستوجبها؟ هذه جريمة ترتكب في حق الإعلام بسبب المماطلة والفوضى المواكبتين لمهمة وضع قانون إعلام جديد».
أما فيما يخص المحررين في المواقع الإلكترونية، فيشير نقيب المحررين إلى أن «النقابة مرتاحة الضمير، ونحن نتعامل معهم بمرونة لجهة التنسيق مع المسموع والمرئي والمكتوب، ونضغط في اتجاه أخذ القانون إلى المجلس النيابي لإقراره. إننا نقبل تحت سقف النقابة العاملين في وسائل الإعلام، ومنها الإلكترونية، الذين تتوفر فيهم شروط الانتساب إلى نقابة المحررين».
مشكلة المال السياسي
يعدّ موقع «ليبانون فايلز» الإلكتروني، هو السبّاق في دخوله الساحة الإعلامية من باب العالم الرقمي. ربيع الهَبر، صاحب الموقع، قرر في عام 2008، أن يستحدث هذه المنصة بهدف مواكبة عصر الإعلام الإلكتروني. لكن الهَبر يرى اليوم أن «أوضاع المواقع الإلكترونية مُزرية، وباتت لا تعيش من دون المال السياسي. عندنا في لبنان آلاف المواقع، قلة منها استطاعت البروز والمقاومة».
الهَبر يقول لـ«الشرق الأوسط»، إن تمويل «ليبانون فايلز» يعتمد على الإعلانات التجارية وعلى مردود مادي تحقّقه من خلال «غوغل آدز» وموقع «يوتيوب». ويضيف: «مصاريف المواقع الإلكترونية لا يستهان بها، ويتألف الفريق العامل معنا من نحو 35 شخصاً. لكنني حالياً أستعين بإيرادات شركتي الأخرى (ستاتيستيك ليبانون)، كي أسدد مصاريف الموقع».
وعمّا إذا المواقع الإلكترونية آيلة إلى الأفول في المستقبل، يجيب: «أبداً، على العكس تماماً، فهي باتت تشكل الإعلام التقليدي لعصرنا هذا. عمرها طويل ولكن بقدرات أقل ومداخيل مادية تتراجع في بلادنا يوماً بعد يوم». وعلى مَن يتهم المواقع الإلكترونية بانعدام الصدقية يقول: «الساحة غربلت بشكل مباشر المواقع الموثوق بها عن غيرها. لقد تعبنا وجاهدنا كي نصل إلى ما نحن عليه اليوم. لذلك لا يمكن التعميم في هذا الموضوع، لا سيما أن المواقع الإلكترونية الشهيرة ذات الصدقية لا تتجاوز أصابع اليدين».
كفاح لتثبيت الوجود
الحوارات مع أصحاب المواقع الإلكترونية اللبنانية، وبخاصة، الأوائل منهم، تعطي الانطباع بأن الفترة التي أطلقوا فيها مشاريعهم هذه كانت صعبة. ففي أوائل التسعينات كانت هذه الوسيلة الإعلامية غير معروفة ومن يفكر بها شبه مجنون. وكان الإعلامي يكافح ويجتهد كي يقنع من هم حوله قبل غيرهم بالتعاون معه. إلا أن هذه الصعوبات انتهت اليوم بفضل انتشار المواقع الإخبارية بشكل لافت. ثم إن العلاقة الوطيدة التي تربط بينها وبين وسائل التواصل الاجتماعي اختزلت كل هذا الطريق الصعب. وبفضلها صار التسويق لهذه المواقع أسرع وأسهل.
لم يكن شقّ الطريق إلى الإعلام الإلكتروني بالأمر السهل بالنسبة للصحافية باتريسيا هاشم، صاحبة موقع «بصراحة» للأخبار الفنية. فهي كافحت بقوة لإثبات وجود هذه المجلة الإلكترونية التي كانت الأولى من نوعها في لبنان. وهي تقول لـ«الشرق الأوسط»، عن تجربتها: «انطلقت بهذا الموقع في عز فورة المجلات الفنية من (الشبكة) و(نادين) و(الموعد) وغيرها، لكنني أخذت على عاتقي شق طريقي الصعب متمسكة بالصدقية، التي وحدها يمكن أن تحدث الفرق بين وسيلة إعلامية وأخرى».
الابتعاد عن الأخبار الفضائحية والزائفة والمحتوى القائم على التشهير، ركائز أساسية اتبعتها هاشم كي تستطيع إكمال رسالتها حتى اليوم. واليوم عمر موقعها الذي انطلق في عام 2009 بات 14 سنة. وهاشم فخورة بما حققته رغم عداوات كثيرة أفرزها هذا النجاح، «لقد استهجنت بعض المؤسسات الإعلامية الخطوة التي قمت بها، ولكن مع الوقت برز كثيرون غيري وصارت الساحة تعجّ بمواقع مختلفة». وعن موضوع عدم قوننة هذه المواقع تعلّق: «لا شك أننا كإعلاميين نشعر بالأمان عندما تصبح مواقعنا مقوننة. ولكن مع الأسف، لم يفلح قانون الإعلام حتى الآن بتحقيق هذا الإنجاز. وبالتالي فإننا لا نشعر بفراغ كبير من دونه، كونه يتقاعس في كثير من المرات عن الدفاع عن إعلامي ظلم. وهو أيضاً لم يقدم في يوم على معاقبة من ارتكب مخالفات إعلامية فاضحة».
أزمة افتقاد المهنية
من الإعلام المكتوب، انتقل الصحافي محمد نمر إلى تأسيس الموقع الإلكتروني «لبنان الكبير»، وهو موقع مستقل يعمل فيه صحافيون من مختلف المناطق اللبنانية على اختلاف مشاربهم كي يترجموا على الأرض اسم الموقع. وفي رأي نمر أن الانطباع السائد لدى الجميع هو «الصدقية نقطة قوة الصحافة المكتوبة». ولكن على الصعيد المهني نجحت بعض المواقع في إثبات وجودها على الساحة. ولـ«الشرق الأوسط»، قال شارحاً: «من أصل 2600 موقع إلكتروني موجودة على الساحة، بالكاد 15 منها معروفة. وهذا يعود إلى صفة المهنية التي يفتقدها كثير ممن يعملون في هذا المجال. على العاملين أن يتصفوا بشروط وأدوات الصحافة الأصيلة. ولكن بشكل عام للمواقع الإلكترونية حسنات كثيرة بينها الانتشار من دون حدود، وتأمينها مساحات للتعبير ذات فضاء واسع. كذلك فإنها توفر على أصحابها الكلفة الهائلة التي يتكبدها أصحاب المؤسسات الإعلامية من طباعة وفريق تقني وفني وغيرها».
واختتم نمر بأنه «آن الأوان لقوننة المواقع الإلكترونية... فتتطور وترتقي إلى المستوى المطلوب ضمن قانون إعلامي يحفظ لها حقوقها».