لدغة ثعبان جعلت «غاندي» رائداً للمقاومة

قصص وحكايات عن «عظماء في طفولتهم»

لدغة ثعبان جعلت «غاندي» رائداً للمقاومة
TT

لدغة ثعبان جعلت «غاندي» رائداً للمقاومة

لدغة ثعبان جعلت «غاندي» رائداً للمقاومة

بلغة عذبة وسرد قصصي مشوّق، يروى الكاتب الروائي محمد المنسي قنديل، في كتابه: «عظماء في طفولتهم»، الصادر عن دار «الكرمة» بالقاهرة، مواقف إنسانية ووقائع شديدة الدلالة في حياة عدد من العظماء في السياسة والأدب والعِلم وهم في مرحلة الطفولة التي ألهمتهم فيما بعد حين كبروا. ويتوقف المؤلف بشكل خاص عند زعيم الهند الوطني، المهاتما غاندي (1869 - 1948).
يقول قنديل: «كان طفلاً يسير بصحبة والدته في الحقول حين لدغها ثعبان، فأجرى لها الإسعافات الأولية ببراعة، ثم انطلق، بمساعدة بعض الفلاحين، نحو أقرب مستشفى. أحضر أحد الرجال عربة يجرها حصانان، وصنعوا للأم المصابة فراشاً من قشّ، ثم حملوها ووضعوها على الفراش برفق، وجلس (غاندي) بجانبها، وأمسك يدها، فوجدها باردة ومبلَّلة بالعرق، فأخذ يدعو في أعماقه من أجل نجاتها، وأن تصل إلى المستشفى قبل فوات الأوان.
كانت العربة تجري بسرعة، والرجل يلهب ظهور الجياد بالسوط، ولكن طرقات القرى الهندية كانت كلها وعرة ترابية وغير مرصوفة، فلم يكن الإنجليز (الذين كانوا يحتلون الهند منذ زمن بعيد) يهتمون إلا برصف الطرق التي تخدم أغراضهم الحربية. أما بقية البلاد، فقد تركوها تعيش كما عاشت دائماً منذ آلاف السنين. توقفت العربة أمام المستشفى، كان كبيراً مبنياً بالطوب الأحمر ويرفرف عليه العَلَم البريطاني عالياً، وفي مقدمته تمثال كبير للأسد الذي يرمز للإمبراطورية البريطانية التي لا تغرب الشمس عنها أبداً.
حمل الرجال جسد الأم، وتدلَّت ذراعها فأسرع غاندي يحملها، وساروا جميعاً إلى بوابة المستشفى، ولكن ما إن دخلوا من الباب المؤدي إلى الداخل حتى فوجئوا بأحد الحراس الإنجليز يرفع بندقيته في مواجهتهم وهو يهتف:
- إلى أين أنتم ذاهبون؟
وتوسل إليه أحد الرجال قائلاً:
يا سيدي الجندي، معنا امرأة مصابة بلدغة ثعبان، ونريد أن نجري لها بعض الإسعافات. إنها سيدة مسكينة يا سيدي!
وأنزل الحارس البندقية في حيرة، وهو يشاهد وجه المرأة الأصفر الشاحب، وقال في تردد:
ولكن الأوامر...
وفجأة ارتفع صوت رجل وهو يقول بقوة:
مَن هؤلاء الناس، مَن أنتم؟
كان رجلاً إنجليزياً ضخماً يرتدي معطفاً أبيض ويقف أمامهم، وقال الحارس:
إنهم بعض الهنود يا سيدي المدير، معهم امرأة مصابة بلدغة الثعبان.
ولكن المدير أشاح بيده بلا مبالاة وهو يقول:
لا يهم، دعهم يبتعدوا! هذا المستشفى مخصص فقط للبريطانيين، وممنوع دخوله على كل الهنود!
وأسرع غاندي ووقف أمام المدير وهو يقول في توسل:
أتوسل إليك يا سيدي. إنها في حالة خطرة، ويجب أن ننقذ حياتها!
ولكن المدير نظر إليه في احتقار، ثم أشار للحارس وهو يقول:
الأوامر هي الأوامر، اطردهم خارجاً. لا يهم... هندي ميت؛ فهناك الملايين منهم أحياء!
ورفع الحارس بندقيته، ووجهها إلى صدورهم، وجاء حراس آخرون لا يعرف أحد من أين ظهروا. كلهم كانوا يحملون البنادق. صرخوا في الرجال أن ينصرفوا وإلا قتلوهم، ولم يكن هناك مفر من أن يحملوا الأم ويعودوا للعربة مرة أخرى. وبكى غاندي في حرقة. كانت عينا الأم مفتوحتين؛ لقد رأت وسمعت كل شيء. وقال غاندي وهو يضغط على يديها:
لا تقلقي يا أمي، سوف نذهب إلى مستشفى آخر.
ولكن الأم ردت في حزم:
كلا، لن تذهبوا إلى أي مكان آخر. الإنجليز يزيدون من مرضي، هيا فلنعد إلى بلدتنا وسوف أريك كيف تعالجني.
وكانت الأم مصممة على ذلك. استدارت العربة وعادت إلى البلدة، وعندما أصبحوا بجوار الحقول مرة أخرى أمرته الأم بالتوقف، وطلبت من غاندي أن ينزل ويحضر قبضة من طين الأرض، وعاد غاندي يحمل قبضة رطبة؛ فقالت له الأم:
ضعها هنا فوق أثر اللدغة. لن يداوينا إلا أرض الهند المقدسة.
ووضع غاندي قبضة الطين على ساق الأم، وواصلت العربة سيرها، وأحس غاندي بأن أمه قد بدأت تشفى بالفعل؛ فقد توقف العرق، وبدأ وجهها يعود إلى اللون الطبيعي. وقالت أمه:
تذكر دائماً يا بني أن أرضنا طيبة، لكن وجود الاحتلال يدنسها.
كبر غاندي دون أن ينسى ذلك اليوم أبداً، صمَّم على تحرير الهند، لكنه تعلم كيف يتجاوز الكراهية ويخطو فوق الأحقاد ليصبح رائد مذهب (المقاومة السلمية) الذي ألهم ملايين البشر حول العالم».


مقالات ذات صلة

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

كتب أحلم بقراءتها 2025

كتب أحلم بقراءتها 2025
TT

كتب أحلم بقراءتها 2025

كتب أحلم بقراءتها 2025

هناك كتب عديدة أحلم بقراءتها في مطلع هذا العام الجديد المبارك. لكني أذكر من بينها كتابين للمفكر الجزائري المرموق لاهوري عدي. الأول هو: «القومية العربية الراديكالية والإسلام السياسي». والثاني: «أزمة الخطاب الديني الإسلامي المعاصر - ضرورة الانتقال من فلسفة أفلاطون إلى فلسفة كانط». وربما كان هذا أهم كتبه وأشهرها. والدكتور لاهوري عدي اشتهر، منذ عام 1992، ببلورة أطروحة لافتة عن صعود موجة الإسلام السياسي، بعنوان: «التراجع الخصب أو الانتكاسة الخصبة والمفيدة». هذا المصطلح شاع على الألسن وبحق. ما معناه؟ ما فحواه؟ مصطلح التراجع أو الانتكاسة شيء سلبي وليس إيجابياً، على عكس ما يوحي به المؤلف للوهلة الأولى، ولكنه يتحول على يديه إلى شيء إيجابي تماماً، إذا ما فهمناه على حقيقته. ينبغي العلم أنه بلوره في عز صعود الموجة الأصولية الجزائرية و«جبهة الإنقاذ». قال للجميع ما معناه: لكي تتخلصوا من الأصوليين الماضويين اتركوهم يحكموا البلاد. هذه هي الطريقة الوحيدة للتخلص من كابوسهم. وذلك لأن الشعب الجزائري سوف يكتشف بعد فترة قصيرة مدى عقم مشروعهم وتخلفه عن ركب الحضارة والعصر، وسوف يكتشف أن وعودهم الديماغوجية الراديكالية غير قابلة للتطبيق. سوف يكتشف أنها فاشلة لن تحل مشكلة الشعب، بل وستزيدها تفاقماً. وعندئذ يلفظهم الشعب وينصرف عنهم ويدير ظهره لهم ويفتح صدره للإصلاحيين الحداثيين الليبراليين. هذه الأطروحة تذكرنا بمقولة «مكر العقل في التاريخ» لهيغل، أو بـ«الدور الإيجابي للعامل السلبي في التاريخ». بمعنى أنك لن تستطيع التوصل إلى المرحلة الإيجابية قبل المرور بالمرحلة السلبية وتذوُّق طعمها والاكتواء بحرِّ نارها. لن تتوصل إلى الخير قبل المرور بمرحلة الشر. لن تتوصل إلى النور قبل المرور بمرحلة الظلام الحالك. ينبغي أن تدفع الثمن لكي تصل إلى بر الخلاص وشاطئ الأمان. وقد سبق المتنبي هيغل إلى هذه الفكرة عندما قال:

وَلا بدَّ دونَ الشَّهْد من إِبرِ النحلِ

هذه الأطروحة تقول لنا ما معناه: الأصولية المتطرفة تشكل وهماً جباراً مقدساً يسيطر على عقول الملايين من العرب والمسلمين. إنهم يعتقدون أنها ستحلّ كل مشاكلهم بضربة عصا سحرية، إذا ما وصلت إلى الحكم. ولا يمكن التخلص من هذا الوهم الجبار الذي يخترق القرون ويسيطر على عقول الملايين، إلا بعد تجريبه ووضعه على المحك. عندئذ يتبخر كفقاعة من صابون. ولكن المشكلة أنه لم يتبخر في إيران حتى الآن. بعد مرور أكثر من 40 سنة لا تزال الأصولية الدينية المتخلفة تحكم إيران وتجثم على صدرها. فإلى متى يا ترى؟ إلى متى ستظل الأصولية الدينية القروسطية تحكم بلداً كبيراً وشعباً مثقفاً مبدعاً كالشعب الإيراني؟ بعض الباحثين يعتقدون أن هذا النظام الرجعي لولاية الفقيه والملالي انتهى عملياً، أو أوشك على نهايته. لقد ملَّت منه الشبيبة الإيرانية، ومِن الإكراه في الدين إلى أقصى حد ممكن. وبالتالي، فإما أن ينفجر هذا النظام من الداخل وينتصر محمد جواد ظريف وبقية الليبراليين الإصلاحيين المنفتحين على التطور والحضارة الحديثة. وإما أن يعود ابن الشاه من منفاه ويعتلي عرش آبائه مرة أخرى. ولكم الخيار.

وبخصوص إيران، أحلم بقراءة مذكرات فرح بهلوي للمرة الثانية أو ربما الثالثة. وهو كتاب ضخم يتجاوز الأربعمائة صفحة من القطع الكبير. وتتصدره صورة الشاهبانو الجميلة الرائعة. ولكنها لم تكن جميلة فقط، وإنما كانت ذكية جداً وعميقة في تفكيرها. من يُرِد أن يتعرف على أوضاع الشعب الإيراني قبل انفجار الثورة الأصولية وفيما بعدها أنصحه بقراءة هذا الكتاب. مَن يرد التعرف على شخصية الخميني عندما كان لا يزال نكرة من النكرات، فليقرأ الصفحات الممتازة المكرَّسة له من قبل فرح ديبا. كان مجرد شيخ متزمت ظلامي معادٍ بشكل راديكالي لفكرة التقدُّم والتطور والإصلاح الزراعي الذي سنَّه الشاه في ثورته البيضاء التي لم تُسفَك فيها قطرة دم واحدة. كان مع الإقطاع والإقطاعيين الكبار ضد الفلاحين البسطاء الفقراء. وكان بإمكان الشاه أن يعدمه، ولكنه لم يفعل، وإنما تركه يذهب بكل حرية إلى منفاه. بعدئذ تحول هذا الشيخ القروسطي الظلامي إلى أسطورة على يد أشياعه وجماعات الإسلام السياسي أو المسيَّس. هذا لا يعني أنني أدافع عن الشاه على طول الخط، كما تفعل فرح ديبا؛ فله مساوئه ونقائصه الكبيرة وغطرساته وعنجهياته التي أودت به. ولكن ينبغي الاعتراف بأنه كانت له إيجابيات، وليس فقط سلبيات مُنكَرة. ولكن الموجة الأصولية دمرته ودمرت سمعته كلياً، وقد آن الأوان لتدميرها هي الأخرى، بعد أن حكمت إيران مدة 45 سنة متواصلة. وعلى أي حال، فإن أفعالها وأخطاءها الكبرى هي التي دمرتها أو ستدمرها. لقد أشاعت الحزازات المذهبية في المنطقة، وأعادتنا 1400 سنة إلى الوراء. هل سننتظر مليون سنة لكي نتجاوز الفتنة الكبرى التي مزقتنا؟ هنا يكمن خطأ التفكير الأصولي الرجعي المسجون في عقلية ماضوية عفى عليها الزمن. متى ستتحقق المصالحة التاريخية بين كافة المذاهب والطوائف عندنا مثلما تحققت المصالحة التاريخية الكاثوليكية - البروتستانتية في أوروبا وأنقذتهم من جحيم الانقسامات الطائفية والمذهبية؟ متى ستنتصر الأنوار العربية الإسلامية على الظلمات العربية الإسلامية؟ بانتظار أن يتحقق ذلك ينبغي على جميع الأقليات أن تلتف حول الأكثرية، لأنها هي العمود الفقري للبلاد، ولأن نجاحها سيكون نجاحاً للجميع، وفشلها (لا سمح الله) سيرتد وبالاً على الجميع.

أضيف بأن الحل الوحيد للتطرف هو الإسلام الوسطي العقلاني المعتدل السائد في معظم الدول العربية، إن لم يكن كلها. «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً»، كما يقول القرآن الكريم. وهو الذي نصّت عليه «وثيقة الأخوة الإنسانية» في أبوظبي عام 2019، و«وثيقة مكة المكرمة» الصادرة عن «رابطة العالم الإسلامي»، في العام ذاته، وهو الذي تعلمته أنا شخصياً في ثانوية مدينة جبلة الساحلية السورية، على يد أستاذ التربية الدينية الشيخ محمد أديب قسام. كان فصيحاً بليغاً أزهرياً (خريج الأزهر الشريف). كان يحببك بدرس الديانة غصباً عنك. لا أزال أتذكر كيف كان يشرح لنا الحديث التالي: «دخلت النار امرأة في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت». كأني أراه أمام عيني الآن وهو يشرح لنا هذا الحديث النبوي الشريف. هنا تكمن سماحة الإسلام ومكارم الأخلاق. فإذا كان الإسلام يشفق على الهرة أو القطة أو الحيوانات؛ فما بالك بالبشر؟ هنا يكمن جوهر الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين لا نقمة عليهم ولا ترويعاً لهم.