الحرب الأهلية في الغرب و«نبوءة القرن»

مدينة نيوم حاضنة مشروع عملاق شمال غربي السعودية ينبني بأدوات المستقبل (الشرق الأوسط)
مدينة نيوم حاضنة مشروع عملاق شمال غربي السعودية ينبني بأدوات المستقبل (الشرق الأوسط)
TT

الحرب الأهلية في الغرب و«نبوءة القرن»

مدينة نيوم حاضنة مشروع عملاق شمال غربي السعودية ينبني بأدوات المستقبل (الشرق الأوسط)
مدينة نيوم حاضنة مشروع عملاق شمال غربي السعودية ينبني بأدوات المستقبل (الشرق الأوسط)

قراءة الأحداث الكبرى باعتبارها «بداية» أو «منعطفاً تاريخياً جديداً»، من الأخطاء المنهجية الشائعة في التفكير، فقد نبهنا مؤرخ الأفكار الهولندي يوهان هويزنغا في كتابه «اضمحلال القرون الوسطى» إلى أن الثورات والحروب وانهيار الأنظمة الفكرية والسياسية، قد تكون (نهاية) مرحلة تاريخية كاملة (تغرب شمسها)، وليست بالضرورة (بداية) فجر عصر جديد.
هذه الفكرة اللامعة لا تنطبق اليوم – في تصوري - قدر انطباقها على الحرب بين روسيا وأوكرانيا التي نشبت قبل عام، ووصفها عالم النفس الكندي جوردان بيترسون بـ«الحرب الأهلية في الغرب»!
اللافت في مفهوم «النهاية»، أنه يلقى قبولاً متزايداً بين الباحثين في الشرق والغرب على السواء، وهناك نغمة جديدة يتردد صداها، وهي أن حدة الاتهامات المتبادلة قد تخفي رغبة دولية شبه جماعية، في إنهاء النظام العالمي (أو اللانظام) في صورته الراهنة.

(1)
على مدار عام 2022 تفجرت كل الأسئلة - تقريباً - التي طرحت للنقاش العالمي ما بين 1989 و2021، حول النظام العالمي الجديد، ونهاية التاريخ وصدام الحضارات، والعولمة، التي نالت نصيب الأسد من النقد، حيث أدت العولمة إلى الترابط الاقتصادي وإحلال السلم لفترة بين القوى الكبرى. لكن منذ الأزمة المالية عام 2008، وحتى الركود الاقتصادي الجاري تغيرت الأحوال، وثبت أن الترابط الاقتصادي لا يضمن الاستقرار العالمي، وأن القضايا السياسية والتاريخية ما زالت مصدراً للتوتر.
ناهيك من أن تبادل الأفكار والبشر والسلع لم يولد بالضرورة وعياً عالمياً، وإن شئت الدقة فقد ثبت أن «العولمة» و«العالمية» ليستا شيئاً واحداً.
وصاغ الكاتب المخضرم توماس فريدمان – منذ سنوات – في كتابه «العالم مستوٍ... موجز تاريخ القرن الحادي والعشرين»، هذا الاختلال بين العولمة والعالمية، وأبدى قلقه على دور أميركا ومستقبلها بسبب العولمة التي تسوي العالم، فلا يبقى فيه كبير إلا بقدر ما يملك من معرفة تسهم في الإنتاج وتقديم الخدمات. فأميركا تخرج إلى العالم حتى لا تفقد دورها فيه، والعالم يتغلغل في مسام أميركا لأن لديه ما يقدمه.
كلام فريدمان يعني في العمق: أن العولمة أصبحت ضد أميركا، لأنها منحت ثمارها لما سمي «الدول والاقتصادات الناهضة»، وبالتالي لم تعد «العولمة» تفيد أميركا، بالقدر نفسه الذي استفادت منه الصين وقارة آسيا ودول الجنوب العالمي.
وهذا يفسر إلى حد كبير، لماذا أعلن الرئيس السابق أوباما أن المستقبل في آسيا وفي الاتجاه شرقاً، ووثقت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون وقتئذ، هذا المعنى في مقالها الشهير، بعنوان «أميركا في قرن المحيط الهادي»، مجلة «شؤون خارجية» منتصف أكتوبر عام 2011.
اللافت هنا أنه - بعد عقد تقريباً (سبتمبر «أيلول» 2022) – ردد الرئيس الروسي بوتين المفردات نفسها وبالنبرة نفسها: إن المستقبل في آسيا، مضيفاً أن الغرب في طريقه إلى الفشل. ولم يخرج الرئيس الفرنسي ماكرون عن المعنى نفسه، وحذر في مناسبات مختلفة من «اختفاء أوروبا جيوسياسياً» وسط تنافس صيني – أميركي متصاعد.

(2)
إذا صح مفهوم هويزنغا عن النهاية، فإننا نكون أمام مفارقة كبرى في تفسير ما يحدث، وهي: هل القوى الكبرى تستثمر «أزمة أوكرانيا» و«الأزمة الاقتصادية العالمية» - أميركا وروسيا والصين – من أجل تغيير النظام العالمي الراهن، وإعادة نمذجته بما يتوافق مع مصالح كل منها وطموحها في المستقبل، سواء أكان صياغة جديدة لهذا النظام أحادي القطب (أميركا) أو الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب (الصين وروسيا ودول الجنوب العالمي)؟
وفقاً لهذا السؤال – السيناريو: يكون الرئيس الروسي بوتين قد قام بإنهاء مرحلة كاملة تمتد بين معاهدة هلسنكي عام 1975 وحتى قضم القرم عام 2014 بما في ذلك الجيوب الانفصالية في مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك، ثم الحرب في أوكرانيا عام 2022 التي لم تنتهِ بعد، مروراً بتمزيق إعلان باريس عام 1991 الذي يحدد شروط سلام ما بعد الحرب الباردة.
ولا توجد مفاجأة في ذلك، فما حدث كان على مرأى ومسمع من دول العالم؛ لا سيما الدول الغربية، واعترفت مجلة «شؤون دولية» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 بهذا الوضع الجديد في ثلاث كلمات: «روسيا كسرت القواعد».
هدف بوتين المعلن هو عالم متعدد الأقطاب، ذلك أن روسيا اليوم (ثاني أكبر ترسانة نووية في العالم، وأكبر احتياطي من النفط والغاز، إضافة إلى موقع جغرافي استراتيجي وسط كتلة اليابسة الأوراسية)، تريد أن تفتح قناة اتصال للحليف الصيني على البحر المتوسط عبر أراضٍ سورية، وتمنع أميركا في الوقت نفسه من التوسع والوصول إلى الشرق، لذا فإن روسيا هدف واضح لأميركا بوصفها شرطاً أساسياً لمجابهة التحدي الذي تمثله الصين. وبالتالي سيكون عدم حسم الحرب في أوكرانيا لصالح الغرب يعني أن النظام العالمي الجيوسياسي قد تغير.
وهذا قد يضعف الموقف الاستراتيجي للغرب أمام الحلفاء والخصوم، فما الذي يضمن التزام الدول الأخرى بنظام دولي مستقر قائم على سيادة القانون، خاصة وأن هذه السيادة انتهكت أمام الجميع وباتت محسومة للأقوى؟!
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إذا خرجت روسيا ضعيفة من الصراع، فإن الرابح الأكبر لن يكون الغرب وحده، وإنما آسيا والصين بالمثل، لأن روسيا في هذه الحالة ستزيد من اعتمادها على الصين ودول آسيا.

(3)
الوجه الآخر في فكرة هويزنغا عن «النهاية»، يجعلنا أيضاً نتعمق في حالة الاختمار والجيشان داخل المهاد التاريخي للمرحلة الراهنة، وهي فترة (ما بين) النهاية والبداية، التي قد تسودها الفوضى وعدم الاستقرار على الصعد كافة، والحروب المحدودة بأشكال مختلفة بين ثنائيات غير متكافئة، أو العكس، فقد تسيطر على تلك الفترة المخاوف المتبادلة والتوجس والحذر في أقصى درجاته.
هل نحن على أعتاب مرحلة جديدة تنهي (اتفاقية فرساي 1919) ولا تأبه فيها الدول الكبرى بوجود «مجلس الأمن» أصلاً، وبالتالي العودة من جديد إلى عالم القرون الوسطى، حيث يحق لأي قوة عسكرية عظمى أن تستعرض عضلاتها، ولا تعترف بالقانون الدولي؟
هل نحن على موعد مع حروب الثلاثين عاماً (1618 -1648)، ولكن بأشكال وذرائع متعددة؟
هل سنشهد حرباً طويلة الأمد، لها ائتلاف دولي متغير ومتعدد، ومستويات تضامنية مختلفة؟
أو أننا أقرب لتحقيق نظرية المفكر الأسترالي هيدلي بول (1932 – 1985)، التي ضمنها في كتابه المعنون: «المجتمع الفوضوي: دراسة النظام في السياسة العالمية»؟
يقول بول: السلطة في المجتمع الدولي سوف تنتقل نحو الأعلى، وأحياناً نحو الأسفل، فضلاً عن أنها ستصبح أفقية وليست فقط رأسية، مع ظهور عدة مستويات من الولاء العابر للقوميات والحدود، وهو ما يشير إلى تشكل «قرون وسطى جديدة، كبديل عصري للنظام السياسي الشامل الذي كان سائداً في القرون الوسطى، أو ما يعرف اليوم بمرحلة (ما بعد ويستفاليا) عام 1648.
يتألف هذا النظام السياسي الجديد - كما يقول - من مجموعة من الولايات الحاكمة المتداخلة وسلطات مجزأة وولاءات متعددة‏، وبالتالي تنتهي فكرة وجود سلطة سيادية مركزية واحدة تقيم في (مكان ما) من النظام الدولي. وهذه الفكرة تتحدى اليوم نظرية الدولة في شكلها التقليدي واتفاقية «فرساي» ومجلس الأمن (الأمم المتحدة)، وكل ما هو قائم من مؤسسات دولية حتى كتابة هذه السطور.‏

(4)
كلمة السر فيما يحدث – لم تعد سراً - هي: صعود دول (غير غربية) سوف تصبح بحلول عام 2050 أكثر تأثيراً على الساحة العالمية. ورغم أن هذا الصعود لن يلغي دور الغرب المهم في تشكيل العالم الجديد، فإنه سيحد من الهيمنة الأحادية لأي قوة مهما كان اسمها.
وبعبارة أخرى، فإن مفهوم «العالمية» الجديد الذي تسعى مجموعة القوى الصاعدة (غير الغربية) لبلورته اليوم، لن يتناقض بالضرورة مع القيم والمؤسسات الغربية (كمنجز إنساني حضاري) ولكنه سيتيح للمؤسسات والتقاليد والمعايير الثقافية الأخرى فرصاً واعتبارات متساوية.
ويظهر ذلك في التحالف غير المسبوق، بين آسيا ودول الجنوب العالمي، الذي قد يرفض – في المستقبل القريب - الاختيار بين أميركا والصين وروسيا، لأكثر من سبب موضوعي:
أولاً: أن هذه القوى الصاعدة ستكون قد تطورت واستقلت بقرارها بما يكفي، خارج التنافس العالمي (الصفري).
ثانياً: أن ارتباط القوى الصاعدة باتفاقيات وشركات مع القوى الكبرى سوف يجعل من الصعب المفاضلة بينها، حيث ستحكم خياراتها المتوازنة (مصالحها أولاً). وهو تحول استراتيجي مهم، قد يلعب الدور الرئيسي في حسم ملامح نظام عالمي جديد في صورته التوافقية، ربما أقرب إلى نظرية هيدلي بول.
ثالثاً: أن انتقال مركز الثقل العالمي إلى آسيا والمحيط الهندي – الهادي والجنوب العالمي، في سبيله إلي تغيير مفهوم الجغرافيا – السياسة أيضاً، وقد يجعل من مناطق تشاركية عالمية في آسيا، لا سيما «نيوم»، أحد أهم المراكز الفاعلة في النظام العالمي الجديد، ومن الشرق الأوسط الراهن (أوروبا الجديدة)، كما أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في نبوءة جيوسياسية لافتة عام 2018، (وقبل الحرب الروسية – الأوكرانية) بأربعة أعوام!
لذلك كله من الأفضل – الآن وليس غداً - أن يفتتح الفاعلون الصاعدون في آسيا والشرق الأوسط ودول الجنوب العالمي نقاشاً فكرياً عالمياً، حول «نبوءة القرن»:
- كيف يتحول عالمنا؟ وما ملامح الجغرافيا الجديدة؟
- ما الذي علينا الاستعداد للقيام به أو العكس؟
- ما طبيعة التحديات والآفاق (ما قبل) النظام العالمي الجديد؟
* باحث مصري



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.