هل هناك حقيقة واحدة في العالم؟

ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)
ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)
TT

هل هناك حقيقة واحدة في العالم؟

ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)
ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)

سألني أحدُ الأصدقاء، بعد أن قرأ في جريدة «الشرق الأوسط» مقالتي الأخيرة التي تناولت ادّعاءَ الناس امتلاكَ الحقيقة: قبل أن ندّعي الامتلاك، هل توجد حقيقة واحدة في العالم تسوّغ لنا مثل هذا الادّعاء؟ أثار هذا السؤال عندي الرغبة في التصدّي للاستفسار الفلسفي الخطير: هل الوجود مفطورٌ أصلاً على الوحدة أم على التعدّديّة؟ لا شكّ في أنّ الإجابة عن هذا الاستفسار تستتبع خلاصاتٍ وعواقبَ تؤثّر في تصوّراتنا الأنثروبولوجيّة، وفي علاقاتنا الحضاريّة، وفي تضامناتنا البيئيّة والعالميّة والكونيّة.
يميّز الفلاسفة ضربَين من التعدّديّة: التعدّديّة القائمة أو تعدّديّة الأمر الواقع (pluralisme de facto)، والتعدّديّة الشرعيّة الأصليّة اللصيقة بطبيعة الوجود نفسه (pluralisme de jure). لا شكّ في أنّ الأنظومات الثقافيّة والدِّينيّة تقبل مبدأ التعدّديّة القائمة في الواقع، وفي ظنّها أنّها وضعٌ طارئٌ ينبغي ضبطه واحتواؤه وضمّه إلى الذاتيّة الحضاريّة الحاضنة. ولكلّ أنظومة ذاتيّتُها الحاضنة التي تدّعي الاتّساع حتّى تستوعب الاختلاف. يصحّ الاحتضانُ الإلغائي هذا في العمارات اللاهوتيّة الدِّينيّة التوحيديّة؛ إذ تعتقد كلّ ديانة أنّها تستطيع أن تستضيف جميع الأديان الأخرى وتحتويها وتُنزلها المنزلة النسبيّة التي تليق بها في بناءاتها العقائديّة الإخضاعيّة. كذلك تدّعي الأنظومات الفلسفيّة أنّها قادرة على احتواء ما أتى قبلها، أو حتّى ما يأتي بعدها، على نحو ما تذهب إليه الهيغليّة المطلقة التي تروم أن تستوعب في جدليّتها المشرّعة الناشطة جميعَ أصناف اختبارات الحياة، وضروب تجلّيات الوجود، وألوان تناقضات التاريخ.
أما القول بالتعدّديّة الشرعيّة الأصليّة اللصيقة بالحياة نفسها، فيثير الرهبة والقلق والتشكيك في عقول الناس، إذ يستحيل علينا أن نتصوّر الحياة الإنسانيّة على هذه البسيطة في هيئاتٍ مختلفة متباينة متناقضة. إذا كانت التعدّديّة الطارئة من تمخّضات التاريخ وتفاعلاته المباغتة، فإنّ التعدّديّة الأصليّة من إرباكاته المقلقة. ذلك بأنّ القول بالتعدّد في الأصل يجعلنا نعيد النظر في المسلّمات العلميّة الفيزيائيّة والبيولوجيّة والأنثروبولوجيّة التي قامت عليها تصوّراتنا الإنسانيّة الثقافيّة المشتركة. ومن ثمّ، ينبغي التبصّر الدقيق في مثل التعدّديّة المربكة هذه، إذ إنّنا ما برحنا نقول بحقيقة إنسانيّة واحدة تجمع بني البشر على هذه البسيطة.
تعزيزاً للمعالجة المتأنّية، أستجلي استجلاءً نظريّاً نوعَين من تجلّي التعدّديّة، ومن ثمّ أتحقّق من طابعهما العارض الطارئ (de facto) أو الأصلي الشرعي (de jure). ينسلك النوع الأوّل في حقل الاختبار العلميّ، في حين ينشط الثاني في حقل التفكّر الفلسفيّ. على مستوى المادّة الفيزيائيّة الأصليّة، يمكننا القول التبسيطي إنّ الحياة واحدة انبثقت من خليّة أولى. غير أنّ طاقة التنوّع في هذا الانبثاق الأصلي كانت على مقدارٍ عظيمٍ من الغنى التكاثري، بحيث انبسطت انبساطاً متباينَ الأكوان والفضاءات والمجرّات والكائنات والأجسام والهيئات والأشكال والصوَر. في صميم الانبساط الأصلي المتنوّع هذا تنتشب جذورُ ما يُدعى بالطبيعة الإنسانيّة العاقلة (homo sapiens) التي عرفناها حتّى اليوم على الهيئة المتوارثة هذه، منذ ما يقارب الثلاثمائة ألف سنة.
على مستوى الكينونة التي ينفرد الفكرُ الفلسفي بتدبّر قوامها والنظر في حقيقتها، يمكننا أن نعتمد ما قاله أرسطو، حين أعلن أنّها تُحمَل على وجوهٍ شتّى، أي تتجلّى في هيئات وأشكال متنوّعة. المعلوم أنّ الكينونة ماهيّة الكائنات، وأصلُها المنحجب، وعمقُها المتواري. لكلّ كائن كينونتُه: للكوكب كينونته، وللهواء كينونته، وللمياه كينونتها، وللقمح كينونته، وللشجرة، والغزال، والسيّارة، والحدث التاريخيّ، والكلمة المنطوقة، والشعور الجوّانيّ، والقيمة الهادية. جميع هذه الكائنات تشترك اشتراكاً متنوّعَ المقادير في الكينونة الواحدة المذهلة في غناها، الرهيبة في رحابتها، المربكة في عمقها.
وعليه، يمكننا أن نخرج بخلاصة أساسيّة تُملي علينا أنّ الأصل واحدٌ على وجه الضرورة، سواء في المادّة أو في الكينونة، في حين أنّ الانبساط متنوّعٌ تنوّعاً لا حصر له. غير أنّ ما يعنيني في هذا المقال إنما هو، على وجه التحديد، التعدّديّة المنبثقة من تجلّيات الطبيعة الإنسانيّة العاقلة. لا أستطيع أن أحسم أمرَ التنوّع الأصلي في المادّة التي منها نشأ الكون، وقد يشتمل على أكوان متداخلة متنافذة متمدّدة أو متقلّصة. جلُّ ما يمكن الفكر الفلسفي أن يتناوله إنما ينحصر في معاينة التنوّع الناشب في حقل الاختبار الإنسانيّ، ولكن من غير إهمال أنوار الاكتشافات العلميّة الفيزيائيّة الموثوقة.
لا ريب في أنّ ما يميّز الاختبار الإنساني إنما هو الوعي العاقل الذي منه تنبثق جميعُ ضروب البناءات الثقافيّة. لن أناقش المسألة الفلسفيّة الخطيرة التي تنظر في إمكانات الاختلاف بين ضروبٍ ثلاثة من الوعي: الوعي المنقبض الذي قد تحمله الكائنات الجامدة، والوعي المتوسّط النسبي الذي تختبره الكائنات الحيوانيّة، والوعي المنبسط الناشط المشرَّع الذي يعتمل اعتمالاً مذهلاً في الباطن الذهني الإنسانيّ. يقول كثيرٌ منا باختلافٍ جوهري بين وعي الأشياء التي تعي وعياً شيئيّاً، ووعي الحيوانات التي تعي وعياً حيوانيّاً، ووعي الناس الذين يَعون وعياً إنسانيّاً. ولكن هل يكون الوعيُ، في أصله، واحداً بين ذرّات الكون التي منها تنشأ الأشياء، وخلايا الحيوان البُكم، وخلايا الإنسان الدماغيّة الناطقة؟ هل يكون الوعي وعياً بيولوجيّاً عصبيّاً، أم وعياً ذهنيّاً فكريّاً ثقافيّاً؟ من الواضح أنّ السؤال الفلسفي هذا يبلغ بالاستفسار حدودَ الإرباك الأقصى، إذ لا يستطيع أحدٌ أن يحسم المسألة من غير أن يستنجد بخلفيّات العمارة الثقافيّة التي ينتمي إليها ويستند إلى فرضيّاتها الصريحة أو الضمنيّة.
لا بدّ، والحال هذه، من أن نُجمع على القول بمركزيّة سؤال الوعي في إدراك رهانات التعدّديّة الإنسانيّة. أميل شخصيّاً إلى النظريّة التي تربط هذه التعدّديّة بالاختلاف الناشب في عمق الوعي الإنسانيّ. ذلك بأنّ وحدة المادّة الفيزيائيّة ووحدة الطبيعة الإنسانيّة لا تبطلان تنوّع تجلّيات الوعي الإنساني الفردي والجماعيّ. ثمّة ما هو أخطرُ من هذا كلّه، إذ إنّ التنوّع في انبساط المادّة الكونيّة والطبيعة الإنسانيّة يجعلني أحار في الوحدة الأصليّة المفترضة. كيف لنا أن نسوّغ انبثاق مثل التنوّع الكثيف هذا؟ كيف يستقيم أن ينشأ من الوحدة الأصليّة تعدّدٌ مذهلٌ يتجاوز بتبايناته وتناقضاته حدودَ الوحدة المفترضة؟
أمران لا ثالث لهما: إما أنّ الوحدة الأصليّة مجبولة على التنوّع الأرحب، وإما أنّ التنوّع في انبساط المادّة والطبيعة مبني على تنوّع أصليّ، لا على وحدة أصليّة. أعرف أنّ المسألة دقيقة، ولكنّها تستحقّ التفكير الهادئ لكي نتحقّق من الاختلاف بين قولَين فلسفيين: القول بوحدة أصليّة تنطوي على تنوّع فائق الغنى، والقول بتنوّع أصلي لا تضبطه أي وحدة متقدّمة عليه، يتجلّى في التعدّديّة الكونيّة الرحبة. ينطوي القول الأوّل على ضرورة الاعتراف بحقيقة فيزيائيّة واحدة، وحقيقة أنثروبولوجيّة واحدة، في حين يفترض القول الثاني أنّ ثمّة حقائق فيزيائيّة أصليّة وحقائق أنثروبولوجيّة أصليّة.
لكلّ إنسان الحرّيّة في اعتماد القول الذي يلائم وعيه وثقافته ومرتكزاته الوجوديّة واقتناعاته الشخصيّة. أظنّ أنّنا نشأنا نشأة فطريّة على اعتماد القول الأوّل، مع أنّ تطوّر العلوم لن يمنعنا من مناصرة القول الثاني في يومٍ من الأيّام. في جميع الأحوال، لا بدّ من النظر في مسألة الوعي الإنساني الذي منه تنبثق جميع أصناف التعدّديّات الثقافيّة. سواء أكانت الحقيقة واحدة في الأصل أم متعدّدة، يبقى الوعي عمادَ الاختبار الثقافيّ، إذ إنّ ثقافاتنا الإنسانيّة ثمرة اختبارات الوعي الذي نحمله في مطاوي ذاتيّتنا، وقد اشتبك اشتباكاً جدليّاً ومعطيات الزمان والطبيعة والبيئة والتاريخ.
حين انتقل الإنسانُ العاقلُ الأوّل من قارّة إلى أخرى، تغيّرت كيفيّاتُ اختبارات وعيه، وتنوّعت سبُلُ إدراكه، وتبدّلت طرائقُ تفاعله وعناصر الطبيعة. أما الوسيلة التي استخدمها الوعي للتعبير عن هذا التفاعل، فاللغة المبنيّة على رموزٍ دلاليّة تَواضَع عليها كلُّ قوم على حدة. ومن ثمّ، نشأ الاختلاف الثقافي بين الشعوب من تنوّع اختبارات الوعي اللغويّة. ولكَم وقعنا على خلافات دمويّة بين الشعوب نشبت على أصل التباين اللغوي في وصف حقائق الحياة!
وعليه، أميل ميلاً شديداً إلى القول بتعدّديّة الحقائق التي يخضع الناس لأحكامها؛ لا سيما في حقل الإنسانيّات، إذ إنّ لكلّ وعي نتاجه الثقافيّ، ولكلّ نتاجٍ ثقافي أنظومته، ولكلّ أنظومة حقائقها المعتمدة الثابتة. أعلم أنّ الطبيعة الإنسانيّة واحدة في بنيتها الأساسيّة. غير أنّ الناس لا يختبرون منها إلا ما يستقرّ في وعيهم من تصوّرات هذه الطبيعة. الناس يتصوّرون طبيعتهم قبل أن يعرّفوها. أعلم أنّ النضج الحضاري المشترك أبلغ المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة مستوى التوافق اللفظي على المبادئ والقيَم. ذلك بأنّ الجميع يناصرون كرامة الإنسان؛ بيد أنّ لكلّ أنظومة ثقافيّة تأويلها الخاصّ الذي يفسّر هذه الكرامة تفسيراً يخالف تفاسير الآخرين. كذلك القول في التعدّديّة التشريعيّة التي بها ينتظم الاجتماع الإنساني في هذه الحضارة أو تلك.
خلاصة القول: إن الإقرار بوحدة الحياة ووحدة الطبيعة الإنسانيّة لا يُبطل الاختلاف في تصوّر حقائق هذه الحياة وحقائق هذه الطبيعة. العلّة الأساسيّة في ذلك كلّه اختلافُ الوعي الإنساني في تدبّر دلالات الطبيعة ومعاني الحياة. الطبيعة الإنسانيّة واحدة، إلا أنّ الاختبارات الثقافيّة مختلفة. الحياة الإنسانيّة واحدة، بيد أنّ تجلّياتها الوجوديّة متنوّعة. اللغة الإنسانيّة واحدة في بنيتها الأنثروبولوجيّة، إلا أنّ علاقة كلّ لغة بالأشياء مقترنة بالاختبارات الوجدانيّة الجماعيّة السابقة، إذ إنّ لغات الأرض تتميّز بقدرتها على إظهار أبعادٍ من الوجود، وحجب أبعادٍ أخرى. القيَم الإنسانيّة واحدة، إلا أنّ تأويلاتها مختلفة وتطبيقاتها القرائنيّة متعارضة. ومن ثمّ، نجد أنفسنا في مواجهة تصوّراتٍ شموليّة (Weltanschauungen) متقابلة، لا سبيل إلى التوفيق بينها.
ليس من حقيقة بمعزل عن الإنسان الذي يصوغها ويعتقدها ويناصرها. غير أنّ ربط الحقيقة بالإنسان يُفضي بنا إلى النظر في ارتباطات الإنسان بالكون وبالطبيعة وبالوجود وبالكائنات. وعليه، لا يمكننا أن نبحث في وحدة الحقيقة أو كثرتها من غير أن ننظر في وحدة الكون أو كثرته، وفي وحدة الطبيعة أو كثرتها، وفي وحدة الوجود أو كثرته. ينبغي أن نتدبّر أوّلاً قضيّة التعدّد في هذه الحقول قبل أن نخلص إلى قولٍ حاسم في مسألة وحدة الحقيقة. إذا افترضنا أنّ بنية الوعي الإنساني واحدة، فهل يجوز أن نستخلص من هذه الفرضيّة أنّ إنتاجه واحدٌ؟ الثابت تاريخيّاً أنّ وحدة البنية في الوعي لم تُبطل تنوّعَ تصوّرات العالم، وقد تكاثرت وتعاظمت حتّى بلغت حدّ التناقض.
* مفكر لبناني



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».