هل هناك حقيقة واحدة في العالم؟

ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)
ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)
TT

هل هناك حقيقة واحدة في العالم؟

ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)
ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)

سألني أحدُ الأصدقاء، بعد أن قرأ في جريدة «الشرق الأوسط» مقالتي الأخيرة التي تناولت ادّعاءَ الناس امتلاكَ الحقيقة: قبل أن ندّعي الامتلاك، هل توجد حقيقة واحدة في العالم تسوّغ لنا مثل هذا الادّعاء؟ أثار هذا السؤال عندي الرغبة في التصدّي للاستفسار الفلسفي الخطير: هل الوجود مفطورٌ أصلاً على الوحدة أم على التعدّديّة؟ لا شكّ في أنّ الإجابة عن هذا الاستفسار تستتبع خلاصاتٍ وعواقبَ تؤثّر في تصوّراتنا الأنثروبولوجيّة، وفي علاقاتنا الحضاريّة، وفي تضامناتنا البيئيّة والعالميّة والكونيّة.
يميّز الفلاسفة ضربَين من التعدّديّة: التعدّديّة القائمة أو تعدّديّة الأمر الواقع (pluralisme de facto)، والتعدّديّة الشرعيّة الأصليّة اللصيقة بطبيعة الوجود نفسه (pluralisme de jure). لا شكّ في أنّ الأنظومات الثقافيّة والدِّينيّة تقبل مبدأ التعدّديّة القائمة في الواقع، وفي ظنّها أنّها وضعٌ طارئٌ ينبغي ضبطه واحتواؤه وضمّه إلى الذاتيّة الحضاريّة الحاضنة. ولكلّ أنظومة ذاتيّتُها الحاضنة التي تدّعي الاتّساع حتّى تستوعب الاختلاف. يصحّ الاحتضانُ الإلغائي هذا في العمارات اللاهوتيّة الدِّينيّة التوحيديّة؛ إذ تعتقد كلّ ديانة أنّها تستطيع أن تستضيف جميع الأديان الأخرى وتحتويها وتُنزلها المنزلة النسبيّة التي تليق بها في بناءاتها العقائديّة الإخضاعيّة. كذلك تدّعي الأنظومات الفلسفيّة أنّها قادرة على احتواء ما أتى قبلها، أو حتّى ما يأتي بعدها، على نحو ما تذهب إليه الهيغليّة المطلقة التي تروم أن تستوعب في جدليّتها المشرّعة الناشطة جميعَ أصناف اختبارات الحياة، وضروب تجلّيات الوجود، وألوان تناقضات التاريخ.
أما القول بالتعدّديّة الشرعيّة الأصليّة اللصيقة بالحياة نفسها، فيثير الرهبة والقلق والتشكيك في عقول الناس، إذ يستحيل علينا أن نتصوّر الحياة الإنسانيّة على هذه البسيطة في هيئاتٍ مختلفة متباينة متناقضة. إذا كانت التعدّديّة الطارئة من تمخّضات التاريخ وتفاعلاته المباغتة، فإنّ التعدّديّة الأصليّة من إرباكاته المقلقة. ذلك بأنّ القول بالتعدّد في الأصل يجعلنا نعيد النظر في المسلّمات العلميّة الفيزيائيّة والبيولوجيّة والأنثروبولوجيّة التي قامت عليها تصوّراتنا الإنسانيّة الثقافيّة المشتركة. ومن ثمّ، ينبغي التبصّر الدقيق في مثل التعدّديّة المربكة هذه، إذ إنّنا ما برحنا نقول بحقيقة إنسانيّة واحدة تجمع بني البشر على هذه البسيطة.
تعزيزاً للمعالجة المتأنّية، أستجلي استجلاءً نظريّاً نوعَين من تجلّي التعدّديّة، ومن ثمّ أتحقّق من طابعهما العارض الطارئ (de facto) أو الأصلي الشرعي (de jure). ينسلك النوع الأوّل في حقل الاختبار العلميّ، في حين ينشط الثاني في حقل التفكّر الفلسفيّ. على مستوى المادّة الفيزيائيّة الأصليّة، يمكننا القول التبسيطي إنّ الحياة واحدة انبثقت من خليّة أولى. غير أنّ طاقة التنوّع في هذا الانبثاق الأصلي كانت على مقدارٍ عظيمٍ من الغنى التكاثري، بحيث انبسطت انبساطاً متباينَ الأكوان والفضاءات والمجرّات والكائنات والأجسام والهيئات والأشكال والصوَر. في صميم الانبساط الأصلي المتنوّع هذا تنتشب جذورُ ما يُدعى بالطبيعة الإنسانيّة العاقلة (homo sapiens) التي عرفناها حتّى اليوم على الهيئة المتوارثة هذه، منذ ما يقارب الثلاثمائة ألف سنة.
على مستوى الكينونة التي ينفرد الفكرُ الفلسفي بتدبّر قوامها والنظر في حقيقتها، يمكننا أن نعتمد ما قاله أرسطو، حين أعلن أنّها تُحمَل على وجوهٍ شتّى، أي تتجلّى في هيئات وأشكال متنوّعة. المعلوم أنّ الكينونة ماهيّة الكائنات، وأصلُها المنحجب، وعمقُها المتواري. لكلّ كائن كينونتُه: للكوكب كينونته، وللهواء كينونته، وللمياه كينونتها، وللقمح كينونته، وللشجرة، والغزال، والسيّارة، والحدث التاريخيّ، والكلمة المنطوقة، والشعور الجوّانيّ، والقيمة الهادية. جميع هذه الكائنات تشترك اشتراكاً متنوّعَ المقادير في الكينونة الواحدة المذهلة في غناها، الرهيبة في رحابتها، المربكة في عمقها.
وعليه، يمكننا أن نخرج بخلاصة أساسيّة تُملي علينا أنّ الأصل واحدٌ على وجه الضرورة، سواء في المادّة أو في الكينونة، في حين أنّ الانبساط متنوّعٌ تنوّعاً لا حصر له. غير أنّ ما يعنيني في هذا المقال إنما هو، على وجه التحديد، التعدّديّة المنبثقة من تجلّيات الطبيعة الإنسانيّة العاقلة. لا أستطيع أن أحسم أمرَ التنوّع الأصلي في المادّة التي منها نشأ الكون، وقد يشتمل على أكوان متداخلة متنافذة متمدّدة أو متقلّصة. جلُّ ما يمكن الفكر الفلسفي أن يتناوله إنما ينحصر في معاينة التنوّع الناشب في حقل الاختبار الإنسانيّ، ولكن من غير إهمال أنوار الاكتشافات العلميّة الفيزيائيّة الموثوقة.
لا ريب في أنّ ما يميّز الاختبار الإنساني إنما هو الوعي العاقل الذي منه تنبثق جميعُ ضروب البناءات الثقافيّة. لن أناقش المسألة الفلسفيّة الخطيرة التي تنظر في إمكانات الاختلاف بين ضروبٍ ثلاثة من الوعي: الوعي المنقبض الذي قد تحمله الكائنات الجامدة، والوعي المتوسّط النسبي الذي تختبره الكائنات الحيوانيّة، والوعي المنبسط الناشط المشرَّع الذي يعتمل اعتمالاً مذهلاً في الباطن الذهني الإنسانيّ. يقول كثيرٌ منا باختلافٍ جوهري بين وعي الأشياء التي تعي وعياً شيئيّاً، ووعي الحيوانات التي تعي وعياً حيوانيّاً، ووعي الناس الذين يَعون وعياً إنسانيّاً. ولكن هل يكون الوعيُ، في أصله، واحداً بين ذرّات الكون التي منها تنشأ الأشياء، وخلايا الحيوان البُكم، وخلايا الإنسان الدماغيّة الناطقة؟ هل يكون الوعي وعياً بيولوجيّاً عصبيّاً، أم وعياً ذهنيّاً فكريّاً ثقافيّاً؟ من الواضح أنّ السؤال الفلسفي هذا يبلغ بالاستفسار حدودَ الإرباك الأقصى، إذ لا يستطيع أحدٌ أن يحسم المسألة من غير أن يستنجد بخلفيّات العمارة الثقافيّة التي ينتمي إليها ويستند إلى فرضيّاتها الصريحة أو الضمنيّة.
لا بدّ، والحال هذه، من أن نُجمع على القول بمركزيّة سؤال الوعي في إدراك رهانات التعدّديّة الإنسانيّة. أميل شخصيّاً إلى النظريّة التي تربط هذه التعدّديّة بالاختلاف الناشب في عمق الوعي الإنسانيّ. ذلك بأنّ وحدة المادّة الفيزيائيّة ووحدة الطبيعة الإنسانيّة لا تبطلان تنوّع تجلّيات الوعي الإنساني الفردي والجماعيّ. ثمّة ما هو أخطرُ من هذا كلّه، إذ إنّ التنوّع في انبساط المادّة الكونيّة والطبيعة الإنسانيّة يجعلني أحار في الوحدة الأصليّة المفترضة. كيف لنا أن نسوّغ انبثاق مثل التنوّع الكثيف هذا؟ كيف يستقيم أن ينشأ من الوحدة الأصليّة تعدّدٌ مذهلٌ يتجاوز بتبايناته وتناقضاته حدودَ الوحدة المفترضة؟
أمران لا ثالث لهما: إما أنّ الوحدة الأصليّة مجبولة على التنوّع الأرحب، وإما أنّ التنوّع في انبساط المادّة والطبيعة مبني على تنوّع أصليّ، لا على وحدة أصليّة. أعرف أنّ المسألة دقيقة، ولكنّها تستحقّ التفكير الهادئ لكي نتحقّق من الاختلاف بين قولَين فلسفيين: القول بوحدة أصليّة تنطوي على تنوّع فائق الغنى، والقول بتنوّع أصلي لا تضبطه أي وحدة متقدّمة عليه، يتجلّى في التعدّديّة الكونيّة الرحبة. ينطوي القول الأوّل على ضرورة الاعتراف بحقيقة فيزيائيّة واحدة، وحقيقة أنثروبولوجيّة واحدة، في حين يفترض القول الثاني أنّ ثمّة حقائق فيزيائيّة أصليّة وحقائق أنثروبولوجيّة أصليّة.
لكلّ إنسان الحرّيّة في اعتماد القول الذي يلائم وعيه وثقافته ومرتكزاته الوجوديّة واقتناعاته الشخصيّة. أظنّ أنّنا نشأنا نشأة فطريّة على اعتماد القول الأوّل، مع أنّ تطوّر العلوم لن يمنعنا من مناصرة القول الثاني في يومٍ من الأيّام. في جميع الأحوال، لا بدّ من النظر في مسألة الوعي الإنساني الذي منه تنبثق جميع أصناف التعدّديّات الثقافيّة. سواء أكانت الحقيقة واحدة في الأصل أم متعدّدة، يبقى الوعي عمادَ الاختبار الثقافيّ، إذ إنّ ثقافاتنا الإنسانيّة ثمرة اختبارات الوعي الذي نحمله في مطاوي ذاتيّتنا، وقد اشتبك اشتباكاً جدليّاً ومعطيات الزمان والطبيعة والبيئة والتاريخ.
حين انتقل الإنسانُ العاقلُ الأوّل من قارّة إلى أخرى، تغيّرت كيفيّاتُ اختبارات وعيه، وتنوّعت سبُلُ إدراكه، وتبدّلت طرائقُ تفاعله وعناصر الطبيعة. أما الوسيلة التي استخدمها الوعي للتعبير عن هذا التفاعل، فاللغة المبنيّة على رموزٍ دلاليّة تَواضَع عليها كلُّ قوم على حدة. ومن ثمّ، نشأ الاختلاف الثقافي بين الشعوب من تنوّع اختبارات الوعي اللغويّة. ولكَم وقعنا على خلافات دمويّة بين الشعوب نشبت على أصل التباين اللغوي في وصف حقائق الحياة!
وعليه، أميل ميلاً شديداً إلى القول بتعدّديّة الحقائق التي يخضع الناس لأحكامها؛ لا سيما في حقل الإنسانيّات، إذ إنّ لكلّ وعي نتاجه الثقافيّ، ولكلّ نتاجٍ ثقافي أنظومته، ولكلّ أنظومة حقائقها المعتمدة الثابتة. أعلم أنّ الطبيعة الإنسانيّة واحدة في بنيتها الأساسيّة. غير أنّ الناس لا يختبرون منها إلا ما يستقرّ في وعيهم من تصوّرات هذه الطبيعة. الناس يتصوّرون طبيعتهم قبل أن يعرّفوها. أعلم أنّ النضج الحضاري المشترك أبلغ المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة مستوى التوافق اللفظي على المبادئ والقيَم. ذلك بأنّ الجميع يناصرون كرامة الإنسان؛ بيد أنّ لكلّ أنظومة ثقافيّة تأويلها الخاصّ الذي يفسّر هذه الكرامة تفسيراً يخالف تفاسير الآخرين. كذلك القول في التعدّديّة التشريعيّة التي بها ينتظم الاجتماع الإنساني في هذه الحضارة أو تلك.
خلاصة القول: إن الإقرار بوحدة الحياة ووحدة الطبيعة الإنسانيّة لا يُبطل الاختلاف في تصوّر حقائق هذه الحياة وحقائق هذه الطبيعة. العلّة الأساسيّة في ذلك كلّه اختلافُ الوعي الإنساني في تدبّر دلالات الطبيعة ومعاني الحياة. الطبيعة الإنسانيّة واحدة، إلا أنّ الاختبارات الثقافيّة مختلفة. الحياة الإنسانيّة واحدة، بيد أنّ تجلّياتها الوجوديّة متنوّعة. اللغة الإنسانيّة واحدة في بنيتها الأنثروبولوجيّة، إلا أنّ علاقة كلّ لغة بالأشياء مقترنة بالاختبارات الوجدانيّة الجماعيّة السابقة، إذ إنّ لغات الأرض تتميّز بقدرتها على إظهار أبعادٍ من الوجود، وحجب أبعادٍ أخرى. القيَم الإنسانيّة واحدة، إلا أنّ تأويلاتها مختلفة وتطبيقاتها القرائنيّة متعارضة. ومن ثمّ، نجد أنفسنا في مواجهة تصوّراتٍ شموليّة (Weltanschauungen) متقابلة، لا سبيل إلى التوفيق بينها.
ليس من حقيقة بمعزل عن الإنسان الذي يصوغها ويعتقدها ويناصرها. غير أنّ ربط الحقيقة بالإنسان يُفضي بنا إلى النظر في ارتباطات الإنسان بالكون وبالطبيعة وبالوجود وبالكائنات. وعليه، لا يمكننا أن نبحث في وحدة الحقيقة أو كثرتها من غير أن ننظر في وحدة الكون أو كثرته، وفي وحدة الطبيعة أو كثرتها، وفي وحدة الوجود أو كثرته. ينبغي أن نتدبّر أوّلاً قضيّة التعدّد في هذه الحقول قبل أن نخلص إلى قولٍ حاسم في مسألة وحدة الحقيقة. إذا افترضنا أنّ بنية الوعي الإنساني واحدة، فهل يجوز أن نستخلص من هذه الفرضيّة أنّ إنتاجه واحدٌ؟ الثابت تاريخيّاً أنّ وحدة البنية في الوعي لم تُبطل تنوّعَ تصوّرات العالم، وقد تكاثرت وتعاظمت حتّى بلغت حدّ التناقض.
* مفكر لبناني



طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».