ما الإنسان؟... سؤال الكينونة

رأس إنسان مقطوع إلى نصفين ومحفوظ للدراسة في معرض التشريح السنوي لجامعة مالايا في كوالالمبور بماليزيا 7 يناير 2023 (إ.ب.أ)
رأس إنسان مقطوع إلى نصفين ومحفوظ للدراسة في معرض التشريح السنوي لجامعة مالايا في كوالالمبور بماليزيا 7 يناير 2023 (إ.ب.أ)
TT

ما الإنسان؟... سؤال الكينونة

رأس إنسان مقطوع إلى نصفين ومحفوظ للدراسة في معرض التشريح السنوي لجامعة مالايا في كوالالمبور بماليزيا 7 يناير 2023 (إ.ب.أ)
رأس إنسان مقطوع إلى نصفين ومحفوظ للدراسة في معرض التشريح السنوي لجامعة مالايا في كوالالمبور بماليزيا 7 يناير 2023 (إ.ب.أ)

لعل السؤال عن ماهية الإنسان أحد أصعب الأسئلة وأيسرها، أعقدها وأوضحها في آن. إنه ميسور وواضح لو قنعنا بتعريفه البيولوجي، حيث الإنسان هو ذلك الكائن الضعيف، الذي يولد جنيناً، ويصير رضيعاً يحتاج إلى حضانة شاملة، قبل أن يصبح طفلاً يحتاج إلى تربية طويلة وتعليم شاق، ثم شاباً فرجلاً ذا جسد أقوى قياساً إلى طفولته، لكنه أوهى بالقياس إلى غيره من الحيوانات. فإذا طمحنا إلى تعريف سيكولوجي وأخلاقي أصبح الأمر صعباً، لأن الهشاشة البيولوجية للإنسان يقابلها تعقيد كبير في تكوينه السيكولوجي وحضوره الأخلاقي، يثير التباين حوله والاختلاف عليه. فالبعض ينظرون إليه باعتباره الخليفة الأرضي الذي خصَّه الله بتلقي الوحي وعمارة الأرض. والبعض الآخر يراه ذلك الكائن الوثني الذي طالما عبد الأصنام وأنكر الإله. والبعض الثالث يراه متوحشاً قتل المختلفين عنه ليرضي إحساسه بالقوة، أو حتى وغداً تدفعه الرغبة في التملك إلى خيانة بني وطنه ودينه وربما التخلي عن عائلته. والبعض الرابع يراه ذلك الكائن النبيل، الذي بذل جهوداً مضنية عبر أجيال متوالية في رفع راية العمران والتمدن وحمل مشعل الاستنارة والتقدم. والغريب في الأمر أن الإنسان هو كل ذلك، فهو الملاك والشيطان، وما بينهما من ألوان الطيف.
إنه المخلوق المعقد، الذي ينطوي ليس فقط على مجموعة من الخلايا والأعصاب والرغبات، كما يزعم الماديون، ولا يقتصر سلوكه على ردود الأفعال الشرطية، كما يدعي السلوكيون، ولا يقتصر عقله على مجرد مخ مادي يعكس الواقع بحذافيره كآلة فوتوغرافية، كما يرى التجريبيون، بل إنه يملك وعياً مركباً وخيالاً خلاقاً ذا قدرة توليدية، قادراً على الفهم والتحليل عبر الاستدلال أو التجريب، إذ يُبقي هذا العقل ويستبعد من المعلومات، كما يهمِّش ويرِّكز من الأفكار ما يمكنه من فهم الواقع الطبيعي والاجتماعي عبر ذاته الحافلة بالأشواق والمعاني والذكريات.
وهو الكائن الذي يطمح إلى الفضيلة رغم انطوائه على حس الغريزة، إذ تدفعه المنظومات الأخلاقية والرمزية المحيطة به في كل مكان وزمان إلى الخجل من حسيته، وإلى الرغبة في التسامي عليها، ولو أخفق أحياناً، وذلك في محاولة لا تتوقف ولا تنتهي لتجاوز حس الضرورة القاهر إلى أفق الحرية الشامل. ومن ثم يبقى الفارق شاسعاً بين الإنسان وما عداه من موجودات طبيعية أو كائنات بيولوجية. فالطبيعة لا تملك فكراً أو قصداً، لا تعرف الخير أو الشر، بل تخضع لقوانين حتمية تتحكم في ظواهرها، ومن ثم يجري التحول فيها بطيئاً، وفق نظام صارم ودورات تاريخية طويلة. أما الإنسان فيفكر، ويقصد بفكره تحقيق أهداف وبلوغ غايات. لذا تخضع جميع الظواهر الاجتماعية للتغير السريع والتحول المدهش، وتتمرد على القسر في قوالب مغلقة أو الخضوع لتصورات حتمية.
ومن هنا، برزت الثنائية الوجودية التي عبر عنها ديكارت مفتتحاً الفلسفة الحديثة بالفكر والامتداد، ووضعتها الفلسفات المعاصرة في قالب الذات والموضوع، الإنسان هو الفكر الذي يُمارس من خلال ذات تتأمل العالم الطبيعي الممتد، تفحصه وتُمحِّصه وتنقده، أي تعرفه.
ورغم أن الفارق بين الإنسان والحيوان يظل أضيق منه مع العالم الطبيعي، فإنه يظل فارقاً وجودياً رغم أي تشابه فسيولوجي؛ حيث تفتقد أكثر الحيوانات رقياً إلى ممكنات التسامي الأخلاقي، فلا تستطيع التمييز بين الظلم والعدل، الجميل والقبيح، فيما يحيا الإنسان في فلكها، يدركها ويفهمها حتى لو عجز عن ممارستها. وفيما تعيش أرقى الحيوانات في الحاضر وحده بلا وعي تاريخي، يعيش الإنسان في التاريخ بكل أبعاده، إذ يتجذر في معطيات الحاضر وهو يستعد لخوض المستقبل، بناءً على خبرات الماضي، فيتصرف وفقاً لحكم مأثورة، أو ينفذ خططاً مدروسة، استعداداً لأزمنة قد لا يعيش حتى يراها وإنما يتخيلها. وربما كان الحيوان يخاف كالإنسان، غير أنه ذلك الخوف الغريزي فقط على الطعام خشية الجوع أو على الجسد خشية الافتراس. أما الإنسان فيضيف إلى هذا النوع البدائي من الخوف أشكالاً أرقى: كالخوف الميتافيزيقي من إله يعبده عندما يرتكب إثماً، والخوف الوجودي من فناء يلامسه عندما يدهم المحيطين به. الخوف النبيل على من يواجهون الأخطار والكوارث والمظالم. ورغم أن الحيوانات الأكثر تطوراً ربما تعاني القلق، فإن قلقها مجرد شعور يصاحب الخوف على الحياة أو الطعام، أي على «الراهن»، وليس قلقاً سيكولوجياً على «الآتي» كقلق الإنسان. وقد يميل ذكر الحيوان إلى أنثاه، غير أن ميله يظل انعكاساً لغريزة تلقائية تتوجه نحو أقرب الإناث إليه، التي ينصرف عنها بعد قضاء حاجته مباشرة، أما الحب الإنساني فذو بعد جواني عميق، كما ينزع إلى مشاركة طويلة بين الرجل والمرأة، ومن ثم تأسست قوانين الزواج في جل الحضارات.
ورغم خضوع الإنسان، كجميع الكائنات، لقانون العدم، فميزته الكبرى أنه الأكثر وعياً بذلك القانون، وإدراكاً للمعنى الكامن وراءه، فوحده الإنسان يعرف أنه سيموت، بل يستعد للحظة موته، سواء بثقة وهدوء، أو بهلع وخوف.
أما الحيوان فيلاقي حتفه مرة واحدة فقط، عندما يصادفه، دون انتظار. وربما كان هناك فارق بين موت يأتينا في الشيخوخة، نجلس لننتظره، حتى أن البعض يبني لنفسه قبراً ويجهز الكفن، تطبيقاً لسنة كونية هي أن يموت القديم عندما يشيخ تاركاً المجال للوليد الجديد، حيث الاستمرار والفناء، الوجود والعدم، أمور تقع في صميم الطبيعة الإنسانية، وبين موت طارئ، يداهمنا في ريعان الشباب لمرض قاهر أو حادث عارض، تجسيداً لحكمة إلهية لا يستطيع الإنسان كشف كنهها أو سبر غورها. وفي الحالين، تكشف واقعة الموت، كحد للحياة، عن أبرز مصادر قلق الإنسان، فهو يعيش ويتعلم، يبني ويعمّر، رغم إدراكه أن عمره محدود، وأن غيره سيأتي بعده ليحل محله ويستمتع بعصير جهده. كما تكشف عن أبرز وجوه عظمته، وهي تصالحه مع محدوديته، وإدراكه لحقيقة أن الموت المنتظر أو حتى المفاجئ لا يعني أن مشروع حياته باء بالفشل، على نحو قد يدفعه إلى الشعور بالعدمية، بل ربما كان ناجحاً إلى الحد الذي أتى ثماره سريعاً، فلم يعد لاستمرار معاناته الوجودية سبب جوهري.
يرتبط الموت هنا بجسد هزمه الفناء، أما النجاح فرهن قدرة الإنسان على ترك بصمة روحه فيمن يعيش بعده، إذا ما تمكن من تجسيد المثل العليا للحياة، فليس المهم أن يكون العمر طويلاً بل أن يكون ملهماً، أن يساعد الآخرين على التصالح مع عالمهم أو على تطوير وجودهم. لقد عاش أناس كثيرون طويلاً كالأموات، لا يضيفون إلى الحياة شيئاً، ناهيك عن الأوغاد الذين أخذوا ولا يزالون يأخذون منها إلى درجة تجعلهم عبئاً عليها، إذ لم يرَ معاصروهم سوى شرهم الظاهر، ولم نسمع نحن عنهم إلا ضجيجهم الباطل. أما نبلاء الإنسانية وأبطالها فلهم قيمتهم السامية ولو قصرت أعمارهم، سواء كانوا من أبطال العقل والخيال كالفلاسفة والمفكرين والأدباء والشعراء والفنانين، الذين طالما علمونا، بل أرشدونا إلى حقيقتنا الداخلية، أم من أبطال السياسة والسلاح الذين يبنون الأمم ويدافعون عن الأوطان، بل يمنحونها حقيقتها الخارجية. يموت هؤلاء نعم، يختفون من عالمنا قطعاً، لكنهم يعيشون دوماً، ينشرون أجنحتهم على زماننا والأزمان التي تلينا. بل إن موتهم المبكر غالباً ما يضيف إلى حياتهم، إذ يتمم أسطورتهم، ويمنحهم خلوداً استثنائياً، يعكس الحد الأقصى للحضور الإنساني على الأرض.
* باحث مصري



هل فعلاً أصبحت الجامعات في أميركا «هي العدو»؟

شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
TT

هل فعلاً أصبحت الجامعات في أميركا «هي العدو»؟

شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)
شهدت العشرات من الجامعات في الولايات المتحدة مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين ما أدى إلى اشتباكات مع الشرطة (أ.ف.ب)

انطلق العام الدراسي الحالي في جامعة نورثويسترن، حيث كنت أدرّس حتى السنة الماضية، بإعلانات من قبل الإدارة عن قوانين وقواعد جامعية جديدة تم وضعها خلال عطلة الصيف، وتهدف إلى منع تكرار الاحتجاجات الطلابية التي حصلت في الربيع الماضي رفضاً للحرب الإسرائيلية على غزة. وجامعة نورثويسترن جامعة خاصة تقع في ولاية إلينوي وهي من الجامعات الأميركية العريقة. وقد افتتح رئيس الجامعة مايكل تشيل العام الدراسي برسالة إلكترونية إلى أعضاء الهيئة التدريسية والطلاب كتب فيها أن حرية التعبير في الجامعات على أهميّتها «لا يمكن استخدامها حجة لتصرّفات تهدّد جوهر مهمة الجامعة وهو التنوير والمعرفة».

وأعلن الرئيس في رسالته عن تدريبات إلزامية لكل الطلاب، وكذلك الأساتذة والإداريين، حول موضوع «معاداة السامية وأشكال أخرى من الكراهية». ثم أرسلت عميدة الجامعة بدورها رسالة تفصّل فيها القواعد الجديدة، ومنها منع المظاهرات في أوقات انعقاد الصفوف والحلقات الدراسية الليلية، ومنع استعمال مكبّرات الصوت قبل الساعة الخامسة مساء، ومنع الخيم وحصر الملصقات بأماكن معيّنة من حرم الجامعة. وتم توسيع القوانين المتعلّقة بالملكية لتشمل أي مس بأملاك الجامعة. كذلك أدخلت الإدارة تعديلات على ما يعدُّ «تخويفاً أو ترهيباً» ليشمل أي تصرّفات «تؤثر بصورة كبيرة على قدرة أشخاص أو مجموعات على التعلّم، والعمل، أو العيش في بيئة الجامعة».

«كيف نحمي الطلاب من التشدّد في القوانين الجديدة التي تبنّتها جامعات أميركية مختلفة» كان موضع نقاش بين الأساتذة خلال المؤتمر السنوي للجمعية الأميركية للعلوم السياسية في سبتمبر (أيلول) الماضي في فيلادلفيا. واقترح زملاء في جامعة بارنارد في نيويورك مقاطعة تصحيح الامتحانات كنوع من المعارضة ضد التضييق على حرية الطلاب في التعبير.

ضباط شرطة نيويورك عند الأسوار خارج جامعة كولومبيا، السبت 27 أبريل 2024، في نيويورك. بينما يستمر الطلاب المحتجون على الحرب بين إسرائيل وحماس في مواصلة مظاهراتهم في حرم الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة ( ا.ب)

استجواب في الكونغرس

رئيس جامعة نورثويسترن هو واحد من ثلاثة رؤساء جامعات مثلوا في جلسة للكونغرس الأميركي دعتهم إليها لجنة التربية والقوى العاملة برئاسة فيرجينيا فوكس من الحزب الجمهوري عن ولاية كارولاينا الشمالية أواخر شهر مايو (أيار) الماضي. وتلك هي الجلسة الثالثة التي تعقدها اللجنة لاستجواب رؤساء جامعات أميركية حول ما عدته ارتفاعاً في موجة معاداة السامية في حرم الجامعات الأميركية وسوء تعامل هؤلاء الرؤساء معها.

«حصلتِ على علامة F» (أي راسب)، قالت عضوة الكونغرس الجمهورية إليز ستيفانيك التي تمثل ولاية نيويورك، لرئيس جامعة نورثويسترن وقتها. وسبق لرابطة مكافحة التشهير (Anti-Defamation League)، وهي منظمة غير حكومية، مركزها نيويورك، تعنى بمحاربة المعاداة للسامية وتدعم إسرائيل أن منح علامة الرسوب لجامعة نورثويسترن في أبريل (نيسان) الماضي بسبب الاحتجاجات التي شهدتها الجامعة ضد الحرب على غزة، والتي عدتها المنظمة معادية للسامية لما فيها من شعارات تدعم الانتفاضة وتنتقد الصهيونية، وانتهت باتفاق بين إدارة الجامعة والطلاب، وهو ما عدته الرابطة بمثابة «مكافأة» للمحتجين.

ودعت اللجنة كذلك إلى إزالة الرئيس من منصبه. وقالت فوكس في جلسة الاستماع: «وردتنا تقارير عن أعمال عنف مروعة ومضايقات للطلاب اليهود في حرم جامعتكم». وكانت اللجنة بعثت برسالة إلى رئيس الجامعة ورئيس مجلس أمنائها تفصّل فيها الأحداث التي دفعتها إلى إرسال الدعوة للمثول أمامها، وعلى رأسها قبول إدارة الجامعة بتنازلات لإنهاء الاحتجاج بدلاً من استخدام القوة لنزع الخيم التي نصبها الطّلاب المعارضون. وحسب الاتهامات كان موقع الخيم، المعروف بـ«المنطقة المحرّرة»، مسرحاً لجرائم وأحداث معادية للسامية. وارتكزت الأدلّة في الرسالة على تقارير طلاب يهود أفراد عن مواقف عدوها معادية لهم كيهود. فضمن اللائحة مثلاً أن طالباً يهودياً تعرّض لمضايقات عند وقوفه أمام الخيم شارحاً لعميد الطلاب مخاوفه من الاحتجاج. فوقف طالب كان جالساً إلى جانبه وصار يقول له، حسب الرسالة نفسها: «أنت تقرفني. هل تظن أن انزعاجك الصغير من المظاهرة يهمّني؟ هذا هو هدف الاحتجاج، الهدف هو أن تنزعج قليلاً. ثمة آلاف من الناس يموتون في غزة وكل ما يهمك هو بعض من الأبواق في الصباح؟».

الرئيس السابق دونالد ترمب يتحدث عن احتجاجات الطلاب في الجامعات الأميركية قبيل دخوله إلى قاعة محكمة مانهاتن الاثنين (رويترز)

وتتضمّن لائحة هذه الجرائم التي أوردتها الرسالة الرسمية أن امرأةً ذات شعر أبيض غير تابعة للجامعة حملت يافطة كتب عليها «المقاومة مسموحة حيث يكون احتلال»، مع هاشتاغ «فيضان الأقصى»، وأن أحد المتظاهرين سرق علماً إسرائيلياً وعلماً أميركياً، وأن رئيس الشرطة التابعة للجامعة رفض الدخول إلى الخيم لاستردادهما، إضافة إلى أن تعليمات أرسلت لمهندسي الجامعة بإطفاء نظام الري الآلي للمساحة الخضراء حيث نصبت الخيم، «في ما يبدو أنه حرص على عدم إزعاج المحتجين».

خيمة رمزية... ومساءلة للاستثمارات

وفي 19 أبريل (نيسان)، وبعد 5 أيام من الاحتجاج، أُبرم اتفاق بين الطلاب والإدارة في نورثويسترن ينص على أن الجامعة ستسمح بالاحتجاجات السلمية شرط أن تبقى خيمة واحدة لا غير. وينص الاتفاق أيضاً على إعادة تشكيل اللجنة الاستشارية حول المسؤولية في الاستثمارات لتجيب عن أسئلة حول استثماراتها الحالية، وعلى استضافة أستاذين فلسطينيين لمدّة سنتين من خلال برنامج استضافة أكاديميين من بلدان النزاع استضاف أساتذة من أوكرانيا في السنتين الماضيتين. وأخيراً ينص الاتفاق على تأسيس بيت للطلاب المسلمين والشرق أوسطيين على غرار البيوت المخصصة لليهود والكاثوليك وغيرهم من الطلاب يستخدمونها في الصلاة ولمناسبات ثقافية واجتماعية.

نشطاء وطلاب يحتجون بالقرب من معسكر في ساحة الجامعة بجامعة جورج واشنطن، حيث انضم الناشطون الطلابيون إلى الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة التي بدأت معسكرات لدعوة جامعاتهم إلى سحب العلاقات المالية من إسرائيل( رويترز)

واتّهم الجمهوريون من أعضاء لجنة الكونغرس، رئيس جامعة نورثويسترن، بأنه استسلم للمتظاهرين وكافأهم بدعوته أساتذة فلسطينيين، وسألته ستيفانيك: «ماذا عن الأساتذة الإسرائيليين، هل ستدعوهم أيضاً؟». ووصفت رئيسة اللجنة فيرجينيا فوكس الاتفاق بـ«الجبان» لأنه رضخ لمطالب المحتجين، وطلبت من رئيس الجامعة التعهد بألا تقاطع الجامعة، إسرائيل، ولا تسحب استثماراتها منها، لأن هذا يعدُّ تسييساً لمسائل ماليّة وتقويضاً لسلطة إدارة الجامعة.

الأساتذة «الليبراليون» متهمون من الطرفين!

من جهة أخرى، رفض عدد من الطلّاب المتظاهرين بدورهم الاتفاق معتبرين أن الإدارة لم تتنازل قط فيما يخص الأمور الأساسية، أي المقاطعة وسحب الاستثمارات. فهي قبلت فقط أن تنشر معلومات حول استثماراتها، وبأن تكون أكثر شفافيةً ولكنها لم تتعهد بسحب أي استثمارات محددة. ورأوا في تأسيس بيت للمسلمين جائزة ترضية لا تستجيب للمطالب السياسية للاحتجاجات. ووصفت إحدى طالباتي، وهي من الهند، وكانت تقود الاحتجاجات، الانقسام بين طلاب حول هذه المسائل، وشرحت أن من صوّتوا لقبول الاتفاق، اعتبروا أنه يجنبهم تدخل قوى الأمن والملاحقة القانونية، كما حصل في جامعات أخرى، ومن رفضوه لم يكونوا من الطلاب الفلسطينيين أو العرب بل من الطلاب الأميركيين.

علم فلسطيني معلق على خيمة في مخيم الاحتجاج في جامعة تافتس بميدفورد بولاية ماساتشوستس... وتعد المظاهرات هي الأكثر شمولاً والأطول أمداً التي تهز حرم الجامعات الأميركية منذ احتجاجات حرب فيتنام في الستينات من القرن الماضي (أ.ف.ب)

ووصف هؤلاء الطلاب الأساتذة المكلّفين التواصل بينهم وبين الإدارة بـ«الليبراليين»، وهي كلمة أصبحت ذات دلالة سلبية لدى «الجيل z»، وعدّوهم «عملاء لإدارة الجامعة». وللعلم، فقد أمضى هؤلاء الأساتذة المدافعون عن حق الطلاب في التظاهر، ليلة طويلة في 19 أبريل الماضي محاولين إقناع طلابهم بقبول الاتفاق تجنباً لاستخدام القوة والعنف ضدهم ولإزالة الخيم في اليوم التالي، كما هددت إدارة الجامعة. وتقول أستاذة زميلة: «اعتبرنا الاتفاق أرضية للانطلاق منها وليس سقفاً نهائياً لعملنا».

والسؤال الأكثر تردداً خلال جلسة الاستماع في الكونغرس هو لماذا لم تطرد الجامعات الثلاث طلاباً أكثر وأساتذة أكثر. وكان هو السؤال الذي افتتحت به فوكس الجلسة. وأكّد الرؤساء أنّ عدداً من الطلّاب هم قيد التحقيق، وأنّ أشكال العقاب متنوّعة.

ووصف نائب جمهوري، أحد الأساتذة المدافعين عن المنطقة المحررة في جامعة نورثويسترن، دالاً عليه في صورة للمشهد عرضت خلال الجلسة، بأنّه «بلطجي». والأستاذ، هو ستيفن ثراشر، أستاذ الإعلام، ولم يعد إلى التعليم هذا الفصل، لأن الجامعة علّقت عمله إلى أن ينتهي التحقيق معه. وفي مقابلة له الشهر الماضي مع برنامج «Demcoracy Now» اليساري، قال ثراشر إنّ مبادئ العدالة الاجتماعية نفسها التي كان يطبّقها في ما يتعلّق بقضايا كالعنصرية والكوفيد والمثليين والإيدز، وكانت مصدر إشادة له، ممنوع عليه تطبيقها في ما يتعلّق بفلسطين.

وكذلك افتتحت جامعة كورنيل في نيويورك العام الدراسي بتعليق طالب دكتوراه من بريطانيا، وهو مسلم وأصله من غامبيا. أما جامعة موهلنبرغ في بنسلفانيا فأقالت أستاذة أنثروبولوجيا في شهر مايو (أيار) في أول إقالة لأستاذ من ملاك التعليم الجامعي بسبب دعم فلسطين.

مقاربة مارتن لوثر

في وقت اختتمت فوكس جلسة الكونغرس قائلة لرؤساء الجامعات إنها «متفاجئة بدرجة الازدراء التي عبّرتم عنها حيال اللجنة والطلاب اليهود»، ذكّر النائب الديمقراطي عن ولاية فرجينيا بوبي سكوت بمقاربة مارتن لوثر كينغ للنشاط السياسي، وهي مقاربة استوحاها كينغ من المهاتما غاندي وتقوم على ارتكاب مخالفات للقانون، ومن ثمّ القبول بعواقب ذلك، وهي بذلك تعدُّ مقاربة سلميّة. وأوضح سكوت أنها المقاربة نفسها التي تبنّاها الطلّاب في الجامعات. وقد وصفت طالبتي كيف أن المحتجين في نورثويسترن وزّعوا أنفسهم طوعاً إلى مجموعات مستعدة للتعرض للاعتقال ومجموعات أخرى من طلاب لا يسعون للمواجهة، واتفقوا على لون يرمز لكل مجموعة، وعلى لقب لكم منهم. وكانوا قد استوحوا هذا النوع من التنظيم من الطلاب في جامعة كولومبيا الذين شاركوا زملاءهم في كافة الجامعات الأميركية ملفات تفسّر طرق العمل التنظيمي.

جانب من الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأميركية (أ.ب)

وكان ترمب وصف حملة شرطة نيويورك على طلاب جامعة كولومبيا بأنّها «مشهد جميل»، وتعهّد بترحيل الطلاب الأجانب عند انتخابه. أمّا جيه دي فانس، الذي اختاره ترمب نائباً له في حملة ترشيحه للرئاسة، فكان قال خلال خطابه أمام مؤتمر الجمهوريين في يوليو (تمّوز) الماضي، «أنّ الأساتذة هم العدو»، وذلك نقلاً عن الرئيس الجمهوري الأسبق ريشارد نيكسون.

وكانت مجموعات طلّابيّة ومتموّلون ومراكز دراسات ومثقفون محافظون بدأوا بالتحرك رداً على تناقص قوّتهم بعد الحركات الاحتجاجية اليسارية المدافعة عن حقوق السود أواخر الستّينات. وتعاظم شأن هذا التيار مع وصول ترمب للسلطة رداً أيضاً على حركة «حياة السود مهمة» التي بدأت سنة 2020. وهذه المجموعات تتهم الجامعات، هي أيضاً، بـ«الليبرالية» وتعدُّ أنها تفتقر إلى تمثيل كافٍ من الأساتذة اليمينيين وأصحاب الأفكار المحافظة. وبدأت بالفعل بتمويل كليات مهنية كالطب والحقوق وإدارة الأعمال وأصبحت ترسخ نفوذها في الجامعات.

استثمارات الجامعات تصب في الأسلحة

أما استثمارات الجامعات فهي تصب، كاستثمارات منظمات عديدة أخرى في الولايات المتحدة، في شركات كـ«بوينغ» و«بلاكستون» و«جينيرال ديناميكس»، وهي شركات تمد إسرائيل بالأسلحة وبأشكال أخرى من الدعم. وتدار هذه الاستثمارات من خلال مكتب مخصص لها ومن خلال مجلس الأمناء ومجلس الأمناء هو الذي يعيّن رئيس الجامعة. فيصير رئيس الجامعة بذلك محكوماً باعتبارات مالية فيما هو أيضاً يدير الأهداف التعليمية للجامعة.

وقالت النائبة الديمقراطية عن ولاية ميشيغان، هايلي ستيفنز، خلال مداخلتها في جلسة الكونغرس: «إننا نعرف تكلفة الدخول إلى جامعاتكم، هي تكلفة لا تصدق. هذا ما علينا التركيز عليه، وليس هذا الجدل المصطنع عن العدالة بينما أنتم فعلياً تدّعونها فقط»، مشيرةً إلى موقف الجمهوريين في لجنة التربية العام الماضي حيال الموارد المخصصة لقضايا الصحة النفسية، وكيف صّوتوا جميعهم على حرمان الطلاب المثليين منها.

وفيما تستفيد الجامعات الحكومية في الولايات المتحدة من التمويل من الحكومة الفيدرالية، ومن الولاية نفسها، تستفيد الجامعات الخاصة كنورثويسترن، مثلها مثل الجامعات الحكومية، من تمويل تحت برنامج «Title VI»، وهو برنامج نشأ كجزء من قانون الحقوق المدنية سنة 1964، ويمنع التمييز في التعليم ويمنح دعماً لبرامج دراسة اللغات ولأقسام في علوم الإنسانيات تعنى بدراسة المناطق والثقافات حول العالم. وهذا البرنامج هو ما ذكره أعضاء الكونغرس كأساس لمحاسبتهم رؤساء الجامعات حول استخدامهم الأموال المحصلة من الضرائب التي يدفعها المواطنون الأميركيون وحول امتثالهم لقوانين منع التمييز على أساس الديانة.

الأساتذة يرفضون قمع الحريات

وجه فرع نورثويسترن للجمعية الأميركية للأساتذة الجامعيين رسالة للإدارة رفضاً للتغيير الذي أدخله رئيسها على قواعد سلوك الطلاب عقب بدء الحركة الاحتجاجية، عاداً في ذلك «تصعيداً دراماتيكياً في قمع حرية التعبير والبيئة الأكاديمية»، فيما دافع رئيس الجامعة تشيل عن سياسته ووصفها بـ«الحيادية». وحسب الأساتذة الموقعين على الرسالة لم يستشر الرئيس ممثلي الأساتذة واللجنة الاستشارية حول حرية التعبير والخطاب المؤسسي، والذي كان الرئيس نفسه شكّلها في شهر فبراير (شباط). وأتى تشكيل هذه اللجنة على أثر بدء تحقيق لجنة الكونغرس الأميركي في أحداث معاداة السامية. واعترض حوالي مائتي أستاذ على تركيزه على معاداة السامية دون ذكر ما يتعرض له الطلاب المسلمون والفلسطينيون والعرب من تنكيل أو ذكر العنف التي ترتكبه إسرائيل في غزة، وكانوا قد وجهوا رسالة إليه بهذا الصدد في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي.

وإثر دعوة رابطة مكافحة التشهير إلى إزاحة رئيس الجامعة من منصبه، وقّع الأساتذة في أوّل شهر مايو (أيار) رسالة أخرى رفعوها إلى أمناء الجامعة يعبرون فيها عن رفضهم تعيين رئيس جديد قد يتعامل مع الطلاب بعنف أكبر. وعدّت الجمعية الأميركية للأساتذة الجامعيين أنه يجب عدم إقالة أي رئيس جامعة من دون تصويت ممثلي الأساتذة.

وأصدر رئيس الجمعية بياناً في شهر أغسطس (آب) أدان فيه مشروع ترمب وفانس الذي يقضي بالتضييق على حرية التعبير في الجامعات وتقويض استقلاليتها، عاداً أنّ اللحظة الحالية حاسمة في ما يتعلّق بمستقبل التعليم العالي الذي يشكل أساس الديمقراطية الأميركية. الجامعات ليست العدو، العدو هم الفاشيون، يقول البيان ويضيف، حان وقت النضال.