شاشة الناقد

أشكال إخراج: يوسف شبّي تونس (2022)

يبدأ هذا الفيلم المصنوع بقدر كبير من الذكاء بتذكيرنا بأنه في عهد الرئيس الأسبق زين الدين بن علي، بوشر ببناء صرح معماري كبير باسم «حدائق قرطاج». كان من وراء الرغبة في تحقيق هذا المشروع بناء حي كامل من المباني التي من شأنها تطوير المساحة الكبيرة من المدينة إلى ما يشبه مدينة دبي واقتصادياتها المادية المشهودة. غاية اقتصادية يستفيد منها القادرون على الاستثمار وتأمين النقلة المناسبة لدخول عصر المؤسسات العملاقة والبرّاقة.
هذه الخطّة لم تكتمل، وما منع اكتمالها حرق المواطن محمد بوعزيزي نفسه في عام 2010 احتجاجاً على الوضع البائس، الذي عانى منه وسواه. الحادثة، كما نعلم جميعاً الآن، ألهبت تونس برمّتها وبعض أركان العالم العربي أيضاً وأدّت، فيما أدّت إليه، إلى إيقاف العمل في «حدائق قرطاج» وإقفال مبانيها ليتحوّل المكان إلى ما يشبه مدينة أشباح مقفر في النهار وموحش في الليل.
يأخذ المخرج يوسف شبّي من الحادثة ما يستلهم منها خيوط عمله المنسحبة لا على الأمس فقط، بل على ما تلاه وصولاً للحاضر. حديثه ليس دراما اجتماعية بل تشويق بوليسي داكن. فيلم «نوار» جيد التكوين صورة وصوتاً وتمثيلاً وكاختيارات المخرج من لقطاته ومشاهده.
يتم، تبعاً للفيلم، اكتشاف جثة محروقة في محيط ذلك المبنى، التحريان فاطمة (فاطمة عوسيفي)، وبطل (محمد حسين قراعة). التحريات لا تتقدّم فعلياً في سعيها لمعرفة السبب، وهل حرق الشاب نفسه أو أن أحداً آخر أحرقه. قبل انتهاء البحث عن الحادثة وتحويلها إلى الملفات، تقع حادثة مشابهة أخرى ثم ثالثة. وبينما يحاول المسؤولون قفل التحقيقات على أساس أن الضحايا هم الذين يحرقون أنفسهم، ترفض فاطمة التأويلات الجاهزة وتستمر في تحقيقاتها لتكتشف أن الضحايا دُفعوا لارتكاب ما قاموا به بفعل شكل ما (تلتقطه كاميرا فيديو من دون وضوح) يشعل النار بهم من دون لمسهم. هذا الاكتشاف لا ينم عن الإجابة عن أي سؤال بل لتكثيف الأسئلة في الأسباب والغايات والدوافع.
على ذلك، ينجح يوسف شبّي في صياغة فيلم تشويقي يتجاوز محاور الفيلم البوليسي التقليدية. يشبه بعض تلك الأفلام الأميركية في السبعينات، التي كانت تتحدّث عن مؤامرات سياسية تقوم بها حكومات ظل (أحد أفضل تلك الأفلام The Parralax View لألان ج. باكولا، 1974). لكن فيلم «أشكال» يسير في دربه الخاص من دون استعارات تُذكر. يوحي ربما، لكنه لا ينقل أو يستنسخ. لدى المخرج القدرة الكفيلة لتأمين محتوى المشهد ودلالاته السياسية. هناك إيحاء بأن ما يدور ما زال احتجاجاً ضد الوضع القائم. ضد استباحة الطبقة العاملة من قِبل من يتولاها وتدخل الأطراف المختلفة لإخفاء الحقائق. هناك تفاصيل كان يمكن لحضورها التأثير إيجابياً على النص المُعالج، لكن الناقد لا يمكن له أن يحكم على ما هو غائب بالقدرة نفسها على ما هو حاضر.
يحسن المخرج الاعتماد على مدير التصوير حازم برباح، الذي يمنح الفيلم الدكانة الصحيحة ويجعل المشاهد موغلاً بخوف داخل تلك الأماكن المعتمة.