التشيلي لويس سيبولفيدا... معارضة «موبي ديك» بـ«قصة الحوت الأبيض»

بعد 168 عاماً على رواية هيرمان ميلفيل

لويس سيبولفيدا
لويس سيبولفيدا
TT

التشيلي لويس سيبولفيدا... معارضة «موبي ديك» بـ«قصة الحوت الأبيض»

لويس سيبولفيدا
لويس سيبولفيدا

يستحضر الكاتب التشيلي لويس سيبولفيدا الذي اشتهر بروايته الأولى «الرجل العجوز الذي يقرأ روايات الحب» - تُرجمت إلى خمسة وثلاثين لغة عالمية وتم إعدادها للشاشة الكبيرة وأكسبته شهرة عالمية - أكثر مخلوقات البحر رعباً، وهو حوت العنبر المخيف القادر على العنف المفرط والمدمّر عبر روايته «قصة حوت أبيض»، وهي رواية مضادة لرواية هيرمان ميلفيل الشهيرة «موبي ديك»، مبرراً ذلك بأن الروائي الأميركي لم يتعامل مع الحوت كشخصية روائية، بل أهمل أعماقه وما يفكر به هذا الكائن أثناء الهجوم عليه وصيده. لذلك وجد الكاتب التشيلي أن الحوت الأبيض لا يمكن إهماله، بل اعتبره شخصية روائية رمزية عالية، مما جعلها مضادة لأطروحة «موبي ديك» بشكل جذري من خلال إعطائه صوتاً خاصاً به، بعد أن غيبته رواية هيرمان ميلفيل، مركزاً على الصيادين.
«العالم بحاجة إلى نظام»... هكذا همس الحوت الأبيض في رواية الكاتب التشيلي. ثم يبدأ روايته هكذا: «ذات صباح، وجدنا حوتاً عالقاً بين القمامة في البحر، فهاج السكان».
إنها بداية لتجسيد تراجيديا الإنسان وليس الحوت.

هيرمان ميلفيل

ثم يبدأ البحارة بسحب جثة الحوت بقاربهم إلى المحيط تحت أنظار طفل وجد عن طريق الصدفة على الشاطئ، وهو يراقبهم حتى تلاشى قاربهم وتحوّل إلى مجرد بقعة في الأفق. هكذا حاول الراوي فتح حوار مع هذا الطفل الذي اكتشف أنه ليس مجرد حوت بسيط، بل أكثر من ذلك. كما لو كان يعبّر عن موت جميع السّكان على الشاطئ.
يقوم الطفل برفع قوقعة وتقديمها إلى الراوي، قائلاً له: «ضع هذه القوقعة على أذنك وسوف يتحدث إليك الحوت».
من هذه القوقعة يرتفع صوتٌ مليء بالذكريات والحكمة، صوت الحوت الأبيض، الحيوان الأسطوري الذي ظل يحمي المياه الواقعة بين الساحل والجزيرة المقدسة للبحارة لعقود. لقد عاش حوت العنبر ذو اللون القمري، وهو أكبر مخلوق في المحيط، عزلة هائلة، وكرس نفسه بأمانة للمهمة التي أوكلها إليه حوت العنبر الأكبر سناً. كان صائدو الحيتان هم من رووا قصة الحوت الأبيض الرهيب، ولكن الروائي أعطى للحوت صوتاً ليتحدث من أعماق الزمن، بلغة البحر.

رواية «الحوت الأبيض»

ثم سمع الراوي تلك القصة الرائعة التي عبرت عن معاناة ذلك الحوت، وهو يروي قصة لقائه مع حيوان بري آخر، ذي قدمين، يحاول اكتشافه بدهشة وفضول وحذر وخوف. ثم يستنتج أن الإنسان هو «النوع الوحيد الذي يهاجم زملاءه» بكل جحود وطمع في الغابة والأرض والبحر.
هل يشبه هذا الكتاب حلم الأطفال أم أنه كتاب استهلالي للكبار؟
كُتب على نسخة الرواية «إنها حكاية مخصصة للقراء الذين تتراوح أعمارهم من 8 إلى 88 عاماً». وما جعلها أقرب إلى قصص الأطفال رسومات الفنانة الفرنسية جويل جوليفيه في الطبعة الفرنسية.
وبهذا ينضم الروائي التشيلي سيبولفيدا إلى نمط رواية «الأمير الصغير» لسانت أكزوبري، وهو يقول بهذا الصدد: «أردت أن أتناول جزءاً من ثقافة أهل الجنوب الذين يعيشون من خيرات البحر، وهم يتكررون في ثقافات أخرى. لكن ما لفت انتباهي هو العلاقة الحميمة مع البحر، والقسوة التي يتعامل معها البشر مع هذا الينبوع الزاخر بالخيرات والكرم، لذا كان همي أن أشرح الأسباب المحيّرة التي تدفع البشر إلى قتل الحيتان».
ويتساءل عن أصول كراهية الإنسان للحيتان التي تجسدها شخصية أهاب في رواية «موبي ديك»، لكنه يتجاوز ذلك، إلى الغوص في عالم الحيتان التي تلقى الهلاك على يد البشر من أجل إنتاج العطور التي تخفي في جوهرها رائحة مخاوف الإنسان.
من خلال إعادة وضع حوت العنبر في قلب الكتابة الروائية، يعيدنا سيبولفيدا إلى الحزن الهائل الذي أثارته عملية القتل رغم إعجابه برواية «موبي ديك»، «أنا معجب بشدة بهذه الرواية التي كنتُ مولعاً بها في فترة شبابي وتمرسي الأدبي. ولطالما تساءلتُ: لماذا لم يتعامل هيرمان ميلفيل مع الحوت كشخصية روائية؟».

غلاف «موبي ديك»

تدور أحداث رواية «قصة حوت أبيض» قبالة سواحل باتاغونيا، ويتمتع هذا الكائن بدور قدسي، وهو حماية مابوتشي الميت - وهو يتحدر من مجموعة من الشعوب الأصلية الأميركية في وسط وجنوب تشيلي وجنوب الأرجنتين يشكلون نحو 4 في المائة من سكان تشيلي، ويتوزعون بشكل خاص في منطقة أرَوكانيا التشيلية، وأيضاً في منطقتي باتاغونيا التشيلية والأرجنتينية - وعندما يحين الوقت، يتم إرشاد جميع الأرواح إلى ما وراء الأفق، إذ سيتعين على الحوت الأبيض أن يدافع عن عالمه ضد هذه الحيوانات المفترسة، وخاصة صائدو الحيتان من أمثال الكابتن أهاب، ويشّنُ حرباً بلا رحمة ضدهم، وهو يروي لنا قصة الحوت الأبيض من وجهة نظره كضحية، وما يكتشفه عن قسوة البشر وعنفهم، حيث يلجأ الكاتب إلى استنطاق البحر بروح جمالية وملحمية وشاعرية.
يروي الحوت الأبيض، وهو الحيوان الأسطوري لشعوب البحر، قبالة سواحل باتاغونيا، قصته، و«يتحدث» عن رجال من أماكن أخرى، ويتفاجأ عندما يكتشف أنهم النوع الوحيد الذي يدمر بعضهم بعضاً. بينما ترتبط الحيتان بالسكان الأصليين بشكل أسطوري، حيث يقوم الحوت بنقل الموتى من الساحل إلى جزيرة موكا المقدسة حتى تنتظر أرواحهم نهاية الزمان. هكذا يحمي الحوت الأبيض هذا الممر من خلال تعقب صيادي الحيتان القتلة، لأنهم يبحثون عن الزيت الكامن في بطن الحوت الذي «ينقذ الإنسان من الظلام»، وينير عالمه.
إن إعطاء صوت للحوت الأبيض يفتح العالم واسعاً أمام أعماق لا يعرفها الإنسان، بنص مليء بالشعر والنبض والحركة في تجسيد الصمت المطبق على ضخامة الأعماق المظلمة، وذلك الحزن الذي تعيشه الحيتان، وتتبادله من خلال تبادل نظرات العيون، لغة خاصة قد لا يعرفها البشر، الذين يقومون بالهجوم على الحوت وشق رئتيه، وقطع أنفاسه، من دون أن يعلموا أنهم يقتلون هويتهم وتقاليدهم بطريقة ما.
عند الاستماع إلى الحوت، تحوم ذكرى موبي ديك، الحيوان الحقيقي بقدر ما هو خيالي. عندما يناديه صائدو الحيتان «موكا ديك»، أي الحوت المقدّس، فهم يستندون إلى أساطير شعوبهم الأصلية في الجنوب، لحماية تقاليدهم وهويتهم التي تتجسّد في الحفاظ على البيئة والأنواع المهددة بالانقراض، والدفاع عن حقوقهم، ولا سيما المابوتشيون أو الهنود الذين يعيشون على هامش المجتمع. ومن خلال معايشة الكاتب التشيلي لتلك الأقلية لمدة عام كامل، تولدت لديه فكرة كتابة رواية الرجل العجوز الذي كان يقرأ قصص الحب، ذائعة الصيت والتي أطلقت شهرة المؤلف.
إن سوء فهم البشر لهذا الكائن البحري الذي يشكل جزءاً من مشهد الحياة، هو الذي دفع المؤلف إلى النظر في مرآة إنسانيتنا التي تفتقر إلى الرحمة والرأفة والعطف. وهنا ولدت هذه القصة التي تتراوح بين الرواية والخرافة من خلال النظرة الذاتية لهذا الحوت الذي يكشف سلوك الإنسان الجشع والقاسي. والعنيف. يقدم الروائي التشيلي سيبولفيدا رواية مضادة لـ«موبي ديك» وينتقدها رغم حبه لها، وهي في الحقيقة، ليست مضادة فحسب، بل مكملة لها، لأنها تطرح وجهة نظر الحوت الذي ظل صامتاً عند هيرمان ميلفيل يتلقى السهام القاتلة ولا يعرف السبب.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.