الاحترار يطال السياحة الشتوية... ويقلل الموارد المائية

تغيُّر المناخ يهدد أوروبا في ثلوجها

متزلجون على طبقة من الثلج الصناعي في أحد المنتجعات في جبال الألب في النمسا (رويترز)
متزلجون على طبقة من الثلج الصناعي في أحد المنتجعات في جبال الألب في النمسا (رويترز)
TT

الاحترار يطال السياحة الشتوية... ويقلل الموارد المائية

متزلجون على طبقة من الثلج الصناعي في أحد المنتجعات في جبال الألب في النمسا (رويترز)
متزلجون على طبقة من الثلج الصناعي في أحد المنتجعات في جبال الألب في النمسا (رويترز)

تشهد أوروبا حالياً فصل شتاء معتدلاً قليل الثلوج. وبينما أسهمت درجات الحرارة المرتفعة في أكثر مناطق القارة خلال الأشهر الأولى من الشتاء بتخفيف الضغط على إمدادات الطاقة، تثير سفوح الجبال العارية من الثلوج مخاوف بشأن تأثيرات تغيُّر المناخ على مستقبل السياحة الشتوية والموارد المائية.

- أوروبا تحترّ بضعف المتوسط العالمي
تُشير المنظمة العالمية للأرصاد الجوية إلى أن السنوات الثماني الماضية هي الأكثر دفئاً على الإطلاق على مستوى العالم؛ بسبب غازات الدفيئة المتزايدة والحرارة المتراكمة. وكان متوسط درجة الحرارة العالمية عام 2022 أعلى بنحو 1.15 درجة مئوية عن مستويات ما قبل النهضة الصناعية، ويأتي في المركز الخامس أو السادس من حيث درجات الحرارة القياسية منذ 2015.
ويعزز الاتجاه المتصاعد لحرارة الكوكب احتمال تجاوز حد 1.5 درجة مئوية المحدد في اتفاق باريس للمناخ. وبالتالي زيادة شدّة وتكرار الكوارث المناخية المأساوية، كالفيضانات المدمرة التي شهدتها مناطق واسعة من باكستان العام الماضي، أو موجات الحرّ القياسية التي اجتاحت الصين والأميركتين وأوروبا قبل أشهر.
ويبدو أن حرارة الأجواء الأوروبية الحالية تساعد على خفض الطلب على الغاز الذي ارتفعت أسعاره خلال أغسطس (آب) الماضي إلى أرقام قياسية؛ بسبب حرارة الحرب في أوكرانيا. وتتوقع مؤسسة «مورغان ستانلي» أن يكون استهلاك أوروبا من الغاز خلال 2023 أقل بنحو 16 في المائة من متوسط الاستهلاك خلال الأعوام الخمسة الماضية، رغم انخفاض أسعاره أخيراً بفضل الشتاء المعتدل وتدابير الطاقة في أوروبا، إلى جانب تراجع النشاط الصناعي في الصين؛ بسبب تجدُّد جائحة «كورونا».
وفي مقابل الأخبار الجيدة التي حظي بها قطاع الطاقة الأوروبي، يخشى الأوروبيون من استمرار تواتر موجات الحرّ صيفاً وتناقص الأمطار والثلوج شتاءً، لا سيما في وسط القارة وغربها.
وتؤكد بيانات «كوبرنيكوس» (خدمة مراقبة المناخ في الاتحاد الأوروبي) أن أوروبا تشهد أعلى معدل ارتفاع في درجات الحرارة مقارنةً بأية قارة في العالم. وعلى مدار السنوات الثلاثين الماضية، زادت درجات الحرارة في البلدان الأوروبية بأكثر من ضعف المتوسط العالمي.
ويربط الباحثون الارتفاع المتسارع للحرارة في أوروبا نتيجة تغيُّر المناخ بعدد من المؤثرات الإضافية، من بينها قرب القارة من القطب الشمالي الذي يسخن بنحو أربعة أضعاف المتوسط العالمي. ونظراً لأن الجليد أكثر عكساً وأقل امتصاصاً لأشعة الشمس، فإنه عندما يذوب يكشف عن مناطق أكثر قتامة تزيد من امتصاص الأشعة وتعزز ارتفاع درجة حرارة الأرض.

- إغلاق المنتجعات... وأزمة مائية تلوح
توفّر سلسلة جبال الألب الشهيرة مقعداً في الصف الأمامي لمشاهدة آثار تغيُّر المناخ، حيث تذوب الأنهار الجليدية القديمة بمعدل غير مسبوق، وتكشف عن حطام الطائرات القديمة وأجساد متسلقي الجبال الذين فُقدوا منذ زمن طويل.
وفي موسم الشتاء الحالي، تسببت الحرارة المعتدلة في زوال معظم مسارات التزلج في جبال الألب، من إنسبروك في النمسا إلى شامونيكس في فرنسا، كما ترك تساقط الأمطار وراءه سفوح التلال العشبية المليئة بالصخور.
ومع ندرة الثلوج، أُغلق بعض المنتجعات في فرنسا والنمسا وسويسرا وإيطاليا والبوسنة بعد أسابيع فقط من بداية موسم واعِد. وفي منتجع «ليه كونتامين» الفرنسي المطل على جبل «مون بلان»، أُلغي سباق خاص بكأس العالم للتزلج بسبب قلة الثلوج.
وتعتمد غالبية المنتجعات الشتوية حالياً على الثلج الصناعي لتعزيز كتلة الثلج وإطالة موسم التزلج مع ارتفاع حرارة الجو. ولكن استمرار الطقس المعتدل لفترة طويلة يؤدي إلى ذوبان الثلج الصناعي بسرعة خلال النهار، وتحوُّله إلى جليد خلال الليل، مما يجعل التزلج محفوفاً بالمخاطر في الصباح بسبب الطبقة الجليدية المسببة للانزلاقات، وبسبب نعومة الطبقة الثلجية الرقيقة المبللة في منتصف النهار. وهذا يفسر تضاعف الحوادث هذا الموسم، حيث تعج المستشفيات في مناطق التزلج بالمصابين بكسور متنوعة.
ويتسبب الاحترار العالمي في تدمير منهجي لقطاع السياحة الشتوية، ويسحب البساط الأبيض تدريجياً نحو ذرى الجبال. عدا عن أن بعض المنتجعات الشتوية في جبال الألب تعاني انخفاضاً حاداً في إمدادات المياه المتاحة لصناعة الثلج الصناعي.
وتواجه المنتجعات الشتوية في لبنان مشكلة مشابهة هذا الموسم، حيث لم تفتح منحدرات التزلج بعد، بسبب ندرة الثلوج. وكانت الحكومة تعوِّل على موسم السياحة الشتوية لاجتذاب مزيد من الزوار الذين يرفدون الاقتصاد المنهار بالعملة الصعبة.
ويحذّر معهد أبحاث الثلوج والانهيارات الثلجية من أن المنتجعات التي يزيد ارتفاعها على 2500 متر هي وحدها التي ستحظى بما يكفي من الثلوج الطبيعية للاستمرار في العمل. وحتى في منتجع دافوس السويسري، الذي يرتفع نحو 1560 متراً ويحتضن اجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي، تبدو كتلة الثلج حالياً هزيلة على المنحدرات المنخفضة.
وبينما كانت رياضة التزلج في النمسا تبدأ من ارتفاع يقل عن ألف متر، فلم تكن ممكنة هذا الموسم إلا على منحدرات يزيد ارتفاعها على ألفي متر؛ مما تسبب في زحمة خانقة في المسارات الصالحة.
ولا يقتصر الأمر على أن التزلج أصبح أقل موثوقية خلال موسم الأعياد المربح للغاية في المنتجعات، بل إن الأيام المتاحة للتزلج أخذت تقصر عاماً بعد عام، ففي منتجع «سانت موريتز» السويسري، الذي يرتفع نحو 1800 متر، انخفض موسم التزلج من نحو 8 أشهر قبل عقد من الزمان إلى أقل من 5 أشهر حالياً.
ويشير بحث أجرته جامعة غرونوبل الفرنسية إلى أن ما يقرب من نصف منتجعات التزلج الـ169 في أوروبا أُجبرت على الإغلاق منذ منتصف القرن الماضي بسبب نقص الثلوج.
ولا يمثّل الثلج الصناعي حلّاً فعّالاً لاستدامة قطاع السياحة الشتوية، إذ إنه يتطلب درجات حرارة لا تقل عن 3 أو 4 درجات مئوية تحت الصفر. ويستلزم إنتاجه استهلاك كميات كبيرة من الطاقة مما يفاقم انبعاث غازات الدفيئة ويسهم في احترار الكوكب. وكانت بطولة الألعاب الأولمبية الشتوية، التي احتضنتها الصين في العام الماضي، أولى البطولات العالمية التي اعتمدت بشكل شبه كامل على الثلج الصناعي.
ومن ناحية أخرى، يستلزم إنتاج الثلج الصناعي استهلاك كميات هائلة من المياه، في الوقت الذي تسعى فيه مجموعة من البلدان الأوروبية لترشيد استهلاك المياه من أجل توليد ما يكفي من الطاقة الكهرمائية؛ لتعويض نقص إمدادات الغاز نتيجة الحرب في أوكرانيا.
وكانت دراسة جديدة أجرتها جامعة بازل السويسرية، حذّرت من أن المنتجعات الأعلى ستضطر إلى الاعتماد بشكل متزايد على الثلج الصناعي للبقاء على قيد الحياة، مما سيزيد استهلاكها للمياه بنسبة تصل إلى 80 في المائة. وقد يتسبب ذلك في حصول نزاعات بين قطاع السياحة الشتوية والمجتمعات المحلية. لكن المعضلة أن معظم الدخل في مناطق التزلج الكبرى يأتي من نشاطات المتزلجين، ليس على الحلبات فقط، بل فيما يصرفونه في الفنادق والمطاعم والتسوُّق. عدا عن أن التزلج والنشاطات الاقتصادية المرافقة مصدر معظم فرص العمل للسكان المحليين في كثير من المناطق الأوروبية.
ويحمل نقص الثلوج وذوبان الأنهار الجليدية على الجبال الأوروبية مخاطر عميقة تتجاوز خسارة موسم التزلج، فهي بمثابة «أبراج المياه» في أوروبا. وتختزن الجبال ثلوج الشتاء وتطلقها بلطف خلال الصيف، مما يوفّر المياه للأنهار والمحاصيل ومحطات الطاقة النووية في أرجاء القارة.
وفي الصيف الماضي، توقف الشحن النهري على طول «الراين» في ألمانيا؛ بسبب انخفاض مستوى المياه بشكل كبير. وفي سويسرا، كانت هناك مبادرات على عجل لإنقاذ الأسماك من الأنهار الضحلة. وفي فرنسا وسويسرا، جرى خفض استطاعة محطات الطاقة النووية بسبب محدودية مياه التبريد.
وكانت دراسة صدرت العام الماضي خلصت إلى أن الأنهار الجليدية في سويسرا فقدت أكثر من نصف حجمها في أقل من مائة عام. وتشير التوقعات الحالية إلى أنه مع نهاية القرن سينحسر الجليد إلى ارتفاع يزيد على 3500 متر، ومن المتوقع أن يتلاشى عدد من الأنهار الجليدية، وسيؤدي ذلك بدوره إلى تراجع كبير في موارد أوروبا المائية.
ويشير خبراء المناخ إلى أن الشتاء المعتدل في أوروبا ليس بالأمر المفاجئ، إذ لطالما حذروا من أن الاحتباس الحراري سيجعل فصول الشتاء أكثر دفئاً ورطوبة. وكما هو الحال مع تقلُّص الأنهار الجليدية، سيتسارع معدل إغلاق منتجعات التزلج على الجبال.
لقد أسهمت أزمة المناخ في نقص الطلب الأوروبي على وقود التدفئة في هذا الشتاء، ولكنها في الوقت ذاته استمرت في إلحاق الضرر بقطاع السياحة الشتوية وتهديد إمدادات المياه.
وبينما وجد بعض المنتجعات طوق النجاة في الترويج لرياضتي المشي وركوب الدراجات وتأمل الطبيعة بديلاً عن ممارسة التزلج، تبدو خيارات البقاء في المستقبل قاتمة بغياب البساط الأبيض. والأكيد أن تدابير التكيُّف مع تغيُّر المناخ ستشمل تعديل أنماط الرياضات الشتوية وتنويع النشاطات لتشمل أنواعاً لا تعتمد كلياً على الثلج.


مقالات ذات صلة

سلوفينية تبلغ 12 عاماً تُنقذ مشروعاً لإعادة «الزيز» إلى بريطانيا

يوميات الشرق أحدثت الفارق وغيَّرت النتيجة (صندوق استعادة الأنواع)

سلوفينية تبلغ 12 عاماً تُنقذ مشروعاً لإعادة «الزيز» إلى بريطانيا

اختفى هذا النوع من الحشرات من غابة «نيو فورست» ببريطانيا، فبدأ «صندوق استعادة الأنواع» مشروعاً بقيمة 28 ألف جنيه إسترليني لإعادته.

«الشرق الأوسط» (لندن)
بيئة أظهرت الدراسة التي أجراها معهد «كلايمت سنترال» الأميركي للأبحاث أنّ الأعاصير الـ11 التي حدثت هذا العام اشتدت بمعدل 14 إلى 45 كيلومتراً في الساعة (رويترز)

الاحترار القياسي للمحيطات زاد حدة الأعاصير الأطلسية في 2024

أكدت دراسة جديدة، نُشرت الأربعاء، أن ظاهرة الاحترار المناخي تفاقم القوة التدميرية للعواصف، مسببة زيادة السرعة القصوى لرياح مختلف الأعاصير الأطلسية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا وزيرة البيئة الأوكرانية تلقي كلمة في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي (كوب 29) في أذربيجان 20 نوفمبر 2024 (رويترز)

أوكرانيا تُقدّر الضرر البيئي نتيجة الحرب بـ71 مليار دولار

قالت وزيرة البيئة الأوكرانية إن الضرر البيئي بسبب العمليات العسكرية جراء الغزو الروسي لأوكرانيا منذ فبراير 2022 يقدّر بـ71 مليار دولار.

«الشرق الأوسط» (كييف)
خاص قام أفراد المجتمع بزراعة أكثر من مليون شجيرة في متنزه ثادق السعودي لإصلاح الأراضي المتدهورة ومعالجة التصحر (برنامج الأمم المتحدة للبيئة)

خاص ثياو قبل «كوب 16»: العالم يحتاج 355 مليار دولار سنوياً لمكافحة التصحر

مع اقتراب انعقاد «كوب 16» يترقّب العالم خطوات حاسمة في معالجة أكبر التحديات البيئية التي تواجه كوكب الأرض.

آيات نور (الرياض)
بيئة ارتفاع مستويات الميثان من الأراضي الرطبة الاستوائية (أرشيفية - رويترز)

ارتفاع مستويات الميثان من الأراضي الرطبة الاستوائية يُهدد خطط المناخ

أظهرت أوراق بحثية أن الأراضي الرطبة الاستوائية حول العالم بات نبعث منها كميات من غاز الميثان أكبر من أي وقت مضى.

«الشرق الأوسط» (باكو)

دراسة: ارتفاع درجات الحرارة يزيد خطر الإصابة بالرجفان الأذيني

رجل يسكب الماء على رأسه أثناء موجة حر في هيوستن بولاية تكساس بالولايات المتحدة - 25 أغسطس 2023 (رويترز)
رجل يسكب الماء على رأسه أثناء موجة حر في هيوستن بولاية تكساس بالولايات المتحدة - 25 أغسطس 2023 (رويترز)
TT

دراسة: ارتفاع درجات الحرارة يزيد خطر الإصابة بالرجفان الأذيني

رجل يسكب الماء على رأسه أثناء موجة حر في هيوستن بولاية تكساس بالولايات المتحدة - 25 أغسطس 2023 (رويترز)
رجل يسكب الماء على رأسه أثناء موجة حر في هيوستن بولاية تكساس بالولايات المتحدة - 25 أغسطس 2023 (رويترز)

تشير دراسة جديدة إلى أن موجات الحر قد تزيد خطر الإصابة بالرجفان الأذيني، وهو اضطراب في ضربات القلب، إلى ضعفين أو 3 أضعاف، لا سيما إذا لم يكن القلب بصحة جيدة.

وتتبع الباحثون أكثر من 2000 شخص في أنحاء الولايات المتحدة، وقع الاختيار عليهم لأنهم زرعوا أجهزة تراقب نشاط القلب باستمرار. ومعظم هؤلاء يعانون من السمنة، ولديهم جميعاً ضعف في عضلة القلب، بصورة تجعلها تكافح لضخ ما يكفي من الدم إلى الجسم، وفق «وكالة رويترز للأنباء».

وعندما وصلت درجات الحرارة في الخارج إلى 39 درجة مئوية، زادت احتمالات الإصابة بنوبة من الرجفان الأذيني، بنحو 2.66 مرة مقارنةً بدرجات حرارة تتراوح بين 5 و8 درجات مئوية.

وارتفعت احتمالية الإصابة بالرجفان الأذيني لتصبح أعلى 2.87 مرة عند 40 درجة مئوية، و3.09 مرة عند 41 درجة.

ووجد الباحثون، الذين سيقدمون البيانات في اجتماعات جمعية القلب الأميركية، أن نوبات الرجفان الأذيني حدثت بمعدل أقل بين الساعة 12 صباحاً والسابعة صباحاً، مقارنة بساعات العمل الاعتيادية، من الثامنة صباحاً وحتى الخامسة مساء، وبمعدل أكبر في أيام الأسبوع مقارنةً بعطلات نهاية الأسبوع.

وتعقد جمعية القلب الأميركية جلسات علمية في مدينة شيكاغو، الفترة من 16 إلى 18 نوفمبر (تشرين الثاني).

وقال المتحدث باسم جمعية القلب الأميركية، الدكتور سانجاي راجاجوبالان من جامعة كيس وسترن ريزيرف في كليفلاند، الذي لم يشارك في الدراسة «نظراً للانتشار المتزايد للرجفان الأذيني بين عامة السكان بسبب التقدم في العمر وانتشار السمنة؛ فقد نضطر الآن أيضاً إلى التعامل مع ارتفاع درجات الحرارة».

وأضاف في بيان: «الأشخاص المهددون الذين يعيشون في مناطق معرضة لخطر الارتفاع الكبير في درجات الحرارة يجب أن يطلعوا على هذه النتائج، ويتأكدوا من اتخاذهم الاحتياطات اللازمة» للبقاء في أجواء باردة وتجنب الجفاف.