صارت سوق الفن، مثل أي شيء آخر في ثقافتنا، أكثر تعلقاً بواقعيات الحاضر والمتزامن. تجسد ذلك التحول الجذري في ذوقيات اقتناء الأعمال الفنية من القديم إلى الحديث في مزاد دار «كريستيز» لأعمال كبار الفنانين، الذي أقيم في لندن في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي. فقد بلغ السعر الأعلى لهذه الليلة 3.6 مليون دولار للوحة «حفلة القراءة» من عام 1735م، وهي تُصور مشهداً لشابة أنيقة تقرأ بصوت عالٍ لصديقين أرستقراطيين في متنزه. ومن بين 11 عملاً فنياً معروفاً فقط من «صور الحياة العصرية» من إبداع الفنان جان فرانسوا دي تروي، أدى هذا العمل الرائع، الذي يستحق العرض بالمتاحف، إلى عقد مزاد علني مثير للإعجاب على ما يبدو للفنان.
لكن هذا السعر كان مماثلاً لرقم قياسي آخر، يبلغ 3.6 مليون دولار، الذي قُدّم في شهر مارس (آذار) للفنانة البريطانية فلورا يوخنوفيتش في اللوحة الفنية شبه المجردة بعنوان «الدافئ، والمبتل، والجريء»، المستوحاة من لوحة فرنسية أخرى من القرن الثامن عشر. وتحظى السيدة يوخنوفيتش بالإعجاب بسبب روائعها الزخرفية للغاية، التي تحمل عنواناً ساخراً على أساتذة عصر «الروكوكو» الكبار، وهي واحدة من عدة فنانات شابات صعدت أعمالهن إلى 7 شخصيات فنية في مزاد العام الماضي. وفي 2019، بيعت لوحات كبيرة جديدة من أعمال يوخنوفيتش بسعر 40 ألف دولار في معرض بلندن.
لوحة «حفلة القراءة» للفنان جان فرانسوا دي تروي حققت 3.6 مليون دولار في المزاد (نيويورك تايمز)
لم تصبح اللوحات الأوروبية، التي تعود إلى ما قبل 1850، مألوفة لدى هواة الجمع والاقتناء كما كانت من قبل. ومع ذلك، تأمل دارا «سوثبيز» و«كريستيز» في مقاومة هذا الاتجاه عندما تطرحان مجموعة كبيرة من لوحات الأساتذة الكبار بقيمة إجمالية تقدر بأكثر من 175 مليون دولار في نيويورك هذا الشهر.
توقعات دار «سوثبيز» كبيرة للوحة بيتر بول روبنز الفظيعة «سالومي» لعام 1609، وهي نجمة المزايدة في 26 يناير (كانون الثاني) لروائع فنون الباروك من مجموعة «فيش ديفيدسون». (ضمنت دار سوثبيز بيع اللوحة بما لا يقل عن 25 مليون دولار).
قال إريك توركوين، خبير الرسم المقيم في باريس، إنه في السنوات الأخيرة، ابتاع بعض الناس من «عالم الفن المعاصر» لوحات الأساتذة الكبار، فقد جذبتهم «صور العنف القوية للغاية» من عصر «الباروك»، لكنه أضاف يقول: «مشترينا أقل عدداً وأكثر ثراء».
قبل خمسين عاماً، عندما اشترى متحف متروبوليتان لوحة «خوان دي باريخا» للفنان دييغو فيلاسكيز مقابل 5.5 مليون دولار في دار «كريستي لندن»، وهو رقم قياسي لأي عمل فني في المزاد، كانت مبيعات أعمال الأساتذة الكبار هي صاحبة السيادة. وفي العام الماضي، كانت هذه الأعمال تمثل 4 بالمائة فقط من المزادات والمبيعات الخاصة في داري «سوثبيز» و«كريستيز»، بحسب البيانات التي قدمتها المكاتب الصحافية للشركات إلى صحيفة «نيويورك تايمز».
الآن، للفن المعاصر تأثير سائد، مما يعكس الاهتمامات الثقافية المتسارعة في مجتمعنا.
يقول الخبراء إن هواة جمع الأعمال الفنية الأصغر سناً كثيراً ما ينظرون إلى فنون الماضي القديم باعتبارها بعيدة وغير ذات صلة، ويجدون الجوانب الفنية لعملية البيع ثقيلة الظل ومنفّرة. يقول توركوين: «يصعب للغاية الاقتراب من الأساتذة الكبار بسبب مشكلة الحالة والإسناد». يميل المشترون اليوم إلى الاهتمام باللوحات التي يعدها الفنانون الذين تقل أعمارهم عن 45 عاماً، ولا تزيد على 400 عام.
يقول أندرس بيترسون، مؤسس شركة «أرت تاكتيك» لمحللي المزادات في لندن: «شهدنا على مدى السنوات الثلاث الماضية زيادة كبيرة في الطلب على الأعمال الفنية من قبل جيل أصغر سناً من الفنانين». وفي يناير نشرت شركة «أرت تاكتيك» تقريراً عن توقعات فناني «الجيل المقبل»، الذين يُعرفون بأنهم أصغر من 45 عاماً. فالأعمال التي يقوم بها فنانون أصغر سناً، ممن يُشاد بهم على «إنستغرام» مثل يوخنوفيتش، يجري «تقليبها» بشكل روتيني في المزاد العلني للعديد من مضاعفات أسعار معرضهم الأصلية. في العام الماضي، عرض كل من «سوثبيز» و«كريستيز» و«فيليبس» أعمالاً لعدد قياسي يبلغ 670 فناناً في هذا المجال الديموغرافي، محققة أكثر من 300 مليون دولار، وفقاً لتقرير «أرت تاكتيك».
يمكن النظر إلى ترسيخ فكرة «الحاضر / المتزامن / الآني» (كما تُطلق دار «سوثبيز» على فئة المزادات الأكثر حداثة)، بأنها مجرد منتج ثانوي للحياة الحديثة العصرية في القرن الحادي والعشرين. لكن بالنسبة لعلماء الاجتماع، فإن التغيرات في سوق الفن هي واحدة من عدة عناصر تعكس كيف تغيرت وتيرة واهتمامات ثقافتنا على مدى أكثر من 100 عام. في عام 1899، أظهرت دراسة «ثورستاين فيبلين» عالم الاجتماع والاقتصاد الأميركي البارز، بعنوان: «نظرية الطبقة المرفهة»، كيف أن وقت الفراغ والوفرة المفرطة، ما نسميه الآن «الترف»، منحا المكانة، أو «السمعة»، لأكثر الأفراد ثراء في أواخر القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة.
شاركت البروفيسورة جيانا إيكهارت، أستاذة التسويق في كلية كينغز بلندن، في تأليف ورقة بحثية عام 2020 بعنوان «حركيات جديدة للمكانة الاجتماعية والتفاوت»، تُلخص محاولات أكاديمية بالقرن الحادي والعشرين لتحديث أطروحة العالم فيبلين. وبالنسبة للسيدة إيكهارت، أسهمت التكنولوجيا في تسريع وتيرة الوجود المعاصر -الظاهرة المسماة «التسارع الاجتماعي»- التي تُغير بشكل عميق من التصورات البشرية لمرور الزمن.
قالت السيدة إيكهارت في مقابلة: «إذا نظرت إلى التنمية البشرية في الماضي، فقد مرت عشرات الآلاف من السنين لم تتغير فيها الأمور إلى هذا الحد. لم يتطور البشر بدرجة كافية حتى يتمكنوا من التجاوب مع التغيير الاجتماعي بهذه السرعة. وهذا من شأنه دفع الناس إلى منح قيمة لكل ما هو جديد بشتى الطرق المختلفة عن الماضي».
إذن، أين موضع فنون الماضي من ذلك؟
من الواضح أن أشهر الأسماء في تاريخ الفن لا تزال تحمل قيمة دائمة. في أمستردام، يحظى معرض «يوهانس فيرمير» المقبل في متحف «رايكس»، المقرر افتتاحه الشهر المقبل، باهتمام عام وكبير. لا تزال لوحة الأستاذ الكبير أغلى لوحة في المزاد في العالم، بعد مبلغ 450.3 مليون دولار الذي مُنح للوحة ليوناردو دافنشي «سالفاتور موندي» عام 2017. وفي العام الماضي، باعت دار «أرتكوريال» للمزادات في باريس لوحة «سلة الفراولة البرية»، من أعمال جان سيمون شاردان الرائعة، والتي يعود تاريخها إلى عام 1761، بقيمة 22.6 مليون دولار. وقد اشترى متحف «كيمبال» للفنون في تكساس تلك اللوحة، وعليه الانتظار حتى ديسمبر (كانون الأول) 2024؛ لمعرفة ما إذا كان من الممكن تصدير اللوحة إلى الولايات المتحدة، والتي صنفتها السلطات الفرنسية بأنها «كنز وطني».
السؤال المطروح في السوق الآن يدور حول ما إذا كانت فنون الماضي البعيد قد تعود من جديد. رغم كل الأحاديث المتفائلة عن هواة جمع الفنون المعاصرة الذين يعيدون اكتشاف الأساتذة الكبار، فهناك في الواقع القليل من الأحاديث حول روبنز، أو شاردان، أو دي تروي، التي سمعناها في معرض «أرت بازل» أو في معرض «فريز».
قالت السيدة إيكهارت: «من حيث فن الشراء الفردي، فإن الفن الذي يعكس الجديد سوف يوفر مكانة اجتماعية أعلى. وسوف ينعكس هذا في السعر أيضاً».
* خدمة «نيويورك تايمز»