«أليس في أرض العجائب» بعد قرن ونصف قرن

تاريخها السري في 500 صفحة

بوستر فيلم عن «أليس في بلاد العجائب»
بوستر فيلم عن «أليس في بلاد العجائب»
TT
20

«أليس في أرض العجائب» بعد قرن ونصف قرن

بوستر فيلم عن «أليس في بلاد العجائب»
بوستر فيلم عن «أليس في بلاد العجائب»

تحتفل الأوساط الأدبية في بريطانيا هذا العام (2015) بمرور مائة وخمسين عامًا على صدور رواية الأديب الإنجليزي لويس كارول (1832 - 1898) ولويس كارول هو اسمه القلمي (أما اسمه الحقيقي فهو تشارلز لتدوج دودجسون)، المسماة «مغامرات أليس في أرض العجائب» (1865) وقد أعقبها بجزء ثان عنوانه «خلال المرآة وما وجدته أليس هناك» (1872) وهي تعد من كلاسيكيات أدب الأطفال (والكبار أيضًا). وبهذه المناسبة أصدرت دار «هارفيل سيكر» للنشر كتابًا عنوانه: «قصة أليس: لويس كارول والتاريخ السري لأرض العجائب» في قرابة خمسمائة صفحة، من تأليف روبرت دوجلاس - فيرهيرست، المحاضر بجامعة أكسفورد وصاحب كتاب سابق عن تشارلز ديكنز
Robert Douglas - Fairhurst، The Story Of Alice: Lewis Carroll and the Secret History of Wonderland، Harvill Secker، 2015.
نشرت رواية «أليس» محلاة برسوم من ريشة السير جون كنيل برسون عن دار ماكميلان وشركاه للنشر بلندن في 1865. وهو نفس العام الذي صدرت فيه «أغاني مالدورور» للشاعر الفرنسي لوتريامون، وديوان «فصل في الجحيم» للشاعر الرمزي الفرنسي رنبو، وتشترك هذه الأعمال الثلاثة في أنها ترتاد عوالم الحلم ومناظره الطبيعية، دون أن تخلو من جانب مظلم. لا عجب أن قال الأديب السيريالي الفرنسي أندريه بريتون إن رواية «أليس» تفتح نافذة للكبار على عالم الصغار.
ورواية «أليس» (صدرت لها ترجمة عربية كاملة بقلم د. نادية الخولي عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، كما سبق أن صدرت لها ترجمات مختصرة وكتب د. نظمي لوقا مقالة ضافية عنها في مجلة «تراث الإنسانية») تتضمن محاكاة منظومة ساخرة لبعض الشعراء الإنجليز مثل إسحق واتس وجين تيلور وروبرت صذي وغيرهم، وقد تعددت تفسيراتها ما بين أهجية سياسية ساخرة، واستكشاف للموت والجنس والعقاقير والعدمية، وتعليق على حياة الفتيات الصغيرات في العصر الفيكتوري (أي بريطانيا تحت حكم الملكة فيكتوريا في القرن التاسع عشر). وذهب الناقد الإنجليزي ويليام أمبسون في كتابه «بعض صور من الأدب الرعوي» (1935) متأثرًا بفرويد - إلى أن رحلة أليس تحت الأرض تعبير لا شعوري عن الرغبة في العودة إلى دفء الرحم وأمانه.
إن أليس فتاة في السابعة تغفو على ضفة نهر أيزيس، ثم تبصر أرنبًا أبيض يرتدي سترة وينظر إلى ساعته بقلق فتقرر أن تتجه إلى الحفرة التي ينزل منها إلى باطن الأرض، وأثناء تتبعها له تلتقي مخلوقات غريبة ومواقف محيرة. إنها ترى زجاجة كتب عليها «اشربني» فتشربها. وتقضم فطرًا يجعل حجمها يتضاءل تارة إلى حجم الفأرة ويتضخم تارة أخرى إلى حجم بيت، وينبت لها عنق طويل كعنق الثعبان. وتلتقي بفأر يتواثب في «بركة من الدموع» ويرقانة (دودة فراشة) تدخن نارجيلة، ودوقة ترضع خنزيرًا وقطة ذات ابتسامة كاشرة عن الأنياب، وصانع قبعات مجنون (نحن جميعًا مجانين هناك) وأرنب بري، وبنت الكوبة في أوراق اللعب تلعب الكروكيه، وسلحفاة تعلمها رقصة سرطان البحر. وتحاول أليس في براءتها الساذجة - أن تواجه هذا الجنون بالمنطق.
يسعى دوجلاس - فيرهيرست في كتابه الذي نعرضه هنا إلى أن يدرس رواية «أليس» بجزأيها: كيف كتبها كارول؟ لماذا اتخذت شكلها الحالي؟ كيف غيرت المنظر الطبيعي الأدبي؟ وفى قلب الصدارة يضع أليس ليدل ملهمة كارول الصغيرة. وأليس ليدل - التي اخترع كارول روايته من أجلها - كانت الابنة الثانية (توفيت في عام 1934) لهنري جورج ليدل عميد كلية كرايست تشيرش التي كان كارول محاضرًا بها ومع الزمن شبت عن الطوق وتزوجت وأنجبت. كما يحلل دوجلاس - فيرهيرست شخصية أليس القصصية التي ظلت طفلة - على مدار الرواية - وغيرت من طريقة نظرتنا إلى الطفولة.
ولدت قصة أليس في 4 يوليو (تموز) 1862 عندما قام لويس كارول بنزهة في قارب مع بنات ليدل: لورينا وأليس وإديث. ولكي يسليهن أثناء الرحلة اخترع القصة ثم وسعها فيما بعد وأهداها إلى أليس. وهي تقدم للصغار متعة خالصة دون وعظ صريح أو نزعة تعليمية، مما يفسر حبهم لها.
كانت القصة في صيغتها الأولى تحمل عنوان «مغامرات أليس تحت الأرض». وكان أهل العصر الفيكتوري الذي يعيش فيه كارول مولعين بالذهاب إلى ما تحت الأرض (قارن أيضا في نفس الفترة الزمنية، في فرنسا، رواية جول فيرن (رحلة إلى مركز الأرض) 1864) فمع الثورة الصناعية امتدت أنابيب الغاز ومترو الأنفاق تحت الأرض. لقد كان هذا العالم السفلي مكانا مزدحمًا يمتلئ بالناس والمركبات وظهرت قصص كثيرة تدور أحداثها في هذا العالم السفلي، ربما بوحي من «أوديسية» هوميروس و«إلياذة» فرجيل و«الكوميديا الإلهية» لدانتي، وكلها تتضمن رحلات إلى الآخرة وإلى هاديز أرض الموتى وإلى باطن الأرض. وشخصية صانع القبعات المجنون في الرواية نسخة كوميدية من تلك الأرواح التي أبت أن تتعلم من أخطائها، ومن ثم أودعها دانتي دوائر الجحيم عقابًا لها.
وتقول فرانسيس ويلسون في مقالة لها عن الكتاب بصحيفة «التلغراف» (4 أبريل - نيسان 2015) إن الحياة الفكرية في بريطانيا في ستينات القرن التاسع عشر كانت مشغولة بصدور كتاب تشارلز داروين «أصل الأنواع» (1859) الذي يتناول ضمن ما يتناول - ديدان الأرض ويصور الحياة الحيوانية والنباتية على أنها صراع على البقاء وعلى الغذاء، وحيث أغاني الطيور أو ريشها الزاهي دعوات جنسية إلى التكاثر - وقد أثر هذا الكتاب في رواية «أليس» حيث نجد الأزهار في أرض العجائب تتكلم، وكل موجود يخشى أن يلتهمه غيره من المخلوقات ويجعله غذاء له. إن عالم الرواية (التي تبدو بريئة في ظاهرها) عالم عدوان دارويني وانتخاب طبيعي يفوز فيه الأصلح. أو هي كما قال الناقد الإنجليزي المعاصر جون بيلي «محاولة من أجل البقاء».
وينفي دوجلاس - فيرهيرست ما يراه بعض النقاد وعلماء النفس من أن انجذاب كارول إلى الفتيات الصغيرات كان انجذابًا جنسيًا. لقد كن - على العكس من ذلك - يمثلن عنده حالة البراءة في الفردوس قبل السقوط، ويمثلن تراجعًا عن الرغبة الجنسية. فهن عنده رمز للنقاء، وأقرب إلى الله. ويرى دوجلاس - فيرهيرست أن كارول ذاته كان عاطفيًا وليس جنسيًا، وأقصى تعبير جنسي صدر عنه هو قوله ذات مرة إنه يتمنى لو مر بيده على شعر رأس الممثلة إلين تيري.
ويبرز الكتاب ولع كارول باللغة والجناس والألاعيب اللفظية (على نحو ما نجده لدى الروائي الآيرلندي جيمس جويس في روايته الأخيرة «يقظة فنيجان في ليلة مأتمه» 1939).
وكما أن أليس ينمو لها، على نحو لا يصدق، عنق طويل أو تنكمش إلى حجم فأرة، فإن اللغة بين يدي كارول تنكمش وتتمدد. ويتضمن قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية قرابة مائتي كلمة نحتها كارول أو ركبها تركيبًا مزجيًا أو أضفى عليها معاني جديدة.
ويتزامن صدور هذا الكتاب مع عرض مسرحي (يقدم أيضا بمناسبة مرور مائة وخمسين عامًا على رواية «أليس») على مسرح «ذا فولتس» (الأقبية) The Vaults بلندن حيث تقدم فرقة «الأطفال الأشقياء» Les Enfants Terribles إعدادًا مسرحيًا للرواية، يستمر حتى 30 أغسطس (آب) من العام الحالي، قام به أوليفر لانسلي وأنطوني سبارجو، تحت عنوان «مغامرات أليس تحت الأرض» Alice’s Adventures Underground.
إن كتاب دوجلاس - فيرهيرست دليل جديد - إن أعوزنا الدليل - على أن الآثار الأدبية الخالدة لا تبلى ولا تزول جدتها، وإنما هي - على العكس - مصدر متجدد للمتعة والتأمل، وبوسع كل عصر أن يجد فيها شيئًا جديدًا في ضوء المعطيات الجديدة للعصر.



العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي
TT
20

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

إذا كانت نقاط التقاطع بين صخب الحياة العباسية المدينية، وبين بوادي الحجاز التي كانت مأهولة بالحرمان وشظف العيش في العصر الأموي، هي من الندرة بمكان، بحيث يصعب أن نعثر في العصر العباسي الأول على نسخ عذرية مماثلة لمجنون ليلى، وجميل بثينة، وكثيّر عزة. إلا أن ما تقدم لا يعني بالضرورة الغياب التام لحالات التتيم العاطفي وتجارب العشق الصادقة في ذلك العصر. ذلك أن الإشباع الجسدي لا يوقف وجيب القلوب، والحصول على المتعة لا يروي عطش الروح، ولا يوفر للشخص المعني ما يحتاج إليه من الحب والعاطفة الصادقة. وهي الفرضية التي تجد ضالتها المثلى في حالة العباس بن الأحنف، الذي لم تحل حياته المترفة ووسامته الظاهرة، وظرفه المحبب، دون وقوعه في حب «فوز»، المرأة التي شغلته عن كل ما عداها من النساء.

ومع أن الرواة قد اختلفوا حول نشأة العباس ونسبه، حيث ذكر الأصفهاني أنه نشأ في بغداد وينتمي إلى بني حنيفة العرب، وقال الأخفش إنه كان من عرب خراسان، ورأى آخرون أنه نشأ في البصرة ثم وفد إلى بغداد، فقد أجمع المبرّد والصولي والأصمعي على تقريض شعره، ورأى الجاحظ أنه كان شاعراً غزِلاً شريفاً مطبوعاً، وله مذهب حسن ولديباجة شعره رونق وعذوبة، وأنه لم يتجاوز الغزل إلى مديح أو هجاء. لكن اللافت أن الأصفهاني لم يولِ العباس وأخباره الكثير من الاهتمام، ولم يركز إلا على أشعاره الصالحة للغناء، دون أن يأتي على ذكر فوز، أو أيٍّ من معشوقاته الأخريات.

ورغم أن العباس يعرض في ديوانه للكثير من النساء، مثل ظلوم وذلفاء ونرجس ونسرين وسحر وضياء، ومعظمهن من الجواري، فإن فوز هي التي احتلت النصيب الأوفر من شعره الغزلي. ومع ذلك، فقد ظلت هويتها الحقيقية في دائرة الغموض واللبس. وحيث ذهب البعض إلى أنها والجارية ظلوم تسميتان لامرأة واحدة، إلا أن قصائد الشاعر تؤكد أن فوز لم تكن جارية، بل امرأة من الأشراف ذات نسب عريق. وفي مواضع عدة يشير العباس إلى أنه أخفى اسم حبيبته الحقيقي خشية على نفسه وعليها، كما في قوله:

كتمتُ اسمها كتمان من صار عرضةً وحاذر أن يفشو قبيح التسمُّعِ

فسمّيتها فوزاً ولو بحتُ باسمها

لسُمِّيتُ باسمٍ هائل الذكْر أشنعِ

وفي بحثها النقدي الاستقصائي عن العباس بن الأحنف، ترى الكاتبة العراقية عاتكة الخزرجي أن حبيبة الشاعر لم تكن «كائناً متخيلاً، بل امرأة من لحم ودم، وأن ديوانه الشعري كان سيرته وقصة قلبه». إلا أن الخزرجي تذهب إلى أبعد من ذلك، فترجح أن تكون فوز هي الاسم المعدل لعليّة بنت المهدي، أخت هارون الرشيد، وأن العباس أخفى هويتها الحقيقية خوفاً من بطش الخليفة، الذي كان الشاعر أحد جلسائه.

وقد كان يمكن لاجتهاد الخزرجي حول هوية فوز، أن يكون أكثر مطابقة للحقيقة، لو لم يشر الشاعر في غير موضع إلى أن حبيبته قد انتقلت للعيش في الحجاز، في حين أن عليّة، ظلت ملازمة لبغداد ولقصر أخيها الرشيد بالذات. وأياً تكن هوية حبيبة العباس الحقيقية، فقد بدت المسافة الشاسعة التي تفصله عنها، بمثابة النقمة والنعمة في آن واحد. فهي إذ تسببت له بالكثير من الجروح العاطفية والروحية، إلا أنها منحته الفرصة الملائمة لإحالتها إلى خانة الشعر، ولتحويلها نداءً شجياً في صحراء الغربة الموحشة، كقوله فيها:

أزيْنَ نساءِ العالمين أجيبي

دعاء مشوُقٍ بالعراق غريبِ

أيا فوز لو أبصرتِني ما عرفْتني

لطول نحولي دونكم وشحوبي

أقول وداري بالعراق، ودارها

حجازيةٌ في َحرّةٍ وسهوبِ

أزوّار بيت الله مُرّوا بيثربٍ

لحاجة متبولِ الفؤاد كئيبِ

ولو تركنا هذه الأبيات غفلاً من الاسم، لذهب الظن إلى أن ناظمها الفعلي هو جميل بثينة أو مجنون ليلى. وليس من قبيل الصدفة أن ينسب الرواة إلى العباس، ما نُسب قبله إلى المجنون، ومن بينها مقطوعة «أسرْب القطا هل من يعير جناحه؟» المثبتة في ديوانَي الشاعرين. وإذا كان لذلك من دلالة، فهي أن هاجس العباس الأهم، كان يتمثل في إعادة الاعتبار للشعر العذري بوصفه الحلقة المفقودة في الحب العباسي، إضافة إلى أنه أراد في ظل القامات الشاهقة لأبي نواس وأبي تمام وغيرهما، أن يحقق عبر الحب العذري، ما يمنحه هويته الخاصة ويمهد له الطريق إلى الخلود. وهو ما يظهر في قوله إن التجربة التي اختبرها سوف تكون «سنناً للناس»، أو قوله: «وصرنا حديثاً لمن بعدنا، تحدّث عنا القرونُ القرونا».

وإذ يقارب المستشرق الفرنسي جان كلود فاديه في كتابه «الغزل عند العرب»، تجربة العباس من زاوية كونها خروجاً على التجارب الحسية البحتة لمعاصريه، يتوقف ملياً عند حبه لفوز، متسائلاً عما إذا كانت الأخيرة قد وُجدت حقاً، أم أن الشاعر قد ألفها من عنديات توقه للمرأة الكاملة. وإذا كان فاديه قد رأى في فوز المعادل الشرقي لبياتريس، حبيبة دانتي في «الكوميديا الإلهية»، فإن النموذج الغزلي الذي راح العباس ينسج على منواله، هو نموذج عربي بامتياز. وحيث كانت البيئة الحاضنة لشعره خالية من البوادي المقفرة والفقر المدقع، فقد استعاض الشاعر عن الصحراء المحسوسة، بصحراء الحب المستحيل الذي يلمع كالسراب في أقاصي العالم، موفراً له ما يلزمه من بروق المخيلة ومناجم الإلهام.

ومع أن العباس كان يسير عبر قصائده الغزلية والعاطفية، في اتجاه معاكس لنظرائه ومجايليه من الشعراء، فإن من يقرأ ديوانه لا بد أن ينتابه شعور ما، بأنه ليس إزاء شاعر واحد متجانس التجربة والمعجم والأسلوب، بل إزاء نسختين أو أكثر من الشخص إياه. فهناك القصائد الطويلة المترعة بالحسرة والوجد، التي تحتل فوز مكان الصدارة فيها، وهناك بالمقابل النصوص القصيرة ذات المعاني والمفردات المستهلكة، التي يدور معظمها حول مغامرات الشاعر العابرة مع القيان والجواري. إلا أن ما يدعو إلى الاستغراب هو أن يكون بين المنظومات المهداة إلى فوز ما هو متكلف ومستعاد وسطحي، كمثل قوله:

أيا سيدة الناسِ

لقد قطّعت أنفاسي

يلوموني على الحبّ

وما في الحب من باسِ

ألا قد قدُمتْ فوزٌ

فقرَّت عينُ عباسِ

رغم أن العباس يعرض في ديوانه للكثير من النساء، ومعظمهن من الجواري فإن فوز هي التي احتلت النصيب الأوفر من شعره الغزلي

ولعل الأمر يجد تفسيره في كون العباس لم يحصر اسم فوز في المرأة التي محضها قلبه، بل استعاره لغير واحدة من نسائه العابرات. إضافة إلى أن رغبته بأن تصدح بهذا الاسم حناجر المغنين والمغنيات، جعلته يتنازل عن سقف شعريته العالي، لمصلحة النصوص السهلة والصالحة للغناء، خصوصاً أن احتفاء عصره بهذا الفن، لم يكن موازياً لاحتفاء الأمويين به فحسب، بل كان متجاوزاً له بفعل التطور والرخاء واختلاط الشعوب والثقافات.

وعلينا ألا نغفل أيضاً أن النزوع النرجسي للعباس، قد دفعه إلى أن يصيب بقصائده ومقطوعاته أكثر من هدف. فرغبته في أن يحاكي التجربة الفريدة لعمر بن أبي ربيعة، والتي جعلته يكرس بعضاً من النصوص لسرد فتوحاته ومغامراته العاطفية التي يواجه فيها المخاطر ليظفر بامرأته المعشوقة، لم تحل دون رغبته الموازية في التماهي مع تجارب العذريين الكبار، وما يستتبعها من بوح صادق وشفافية مفرطة.

إلا أن المقارنة بين النموذجين الحسي والمتعفف في تجربة الشاعر، لا بد أن تصبح في مصلحة هذا الأخير، حيث يذهب العباس بعيداً في الشغف وحرقة النفس، وفي الأسئلة المتصلة بالحب واللغة والفراق والموت. وهو إذ يحول العناصر والمرئيات مرايا لروحه الظامئة إلى الحب، تتراءى له فوز في كل ما يلوح له من الأشياء وظواهر الطبيعة، حتى إذا أبصر السيل منحدراً من أعالي الهضاب، تذكر أن ثمة في مكان قريب، حبيبة له «مسيلة» للحنين والدموع وآلام الفراق، أنشد قائلاً:

جرى السيلُ فاستبكانيَ السيلُ إذ

جرى وفاضت له من مقلتيّ سروبُ

وما ذاك إلا حيث أيقنتُ أنه

يمرُّ بوادٍ أنتِ منه قريبُ

يكون أجاجاً دونكمْ فإذا انتهى

إليكمْ تلقَّى طيبكمْ فيطيبُ

أيا ساكني شرقيّ دجلةَ كلُّكمْ

إلى النفس من أجل الحبيب حبيبُ