الصحافية في العراق بين الإرهاب وسلطة مجتمع متشدد

مراسلة «الشرق الأوسط» مع النازحين
مراسلة «الشرق الأوسط» مع النازحين
TT

الصحافية في العراق بين الإرهاب وسلطة مجتمع متشدد

مراسلة «الشرق الأوسط» مع النازحين
مراسلة «الشرق الأوسط» مع النازحين

ما زلت أذكر تلك العصا الصغيرة التي حملتها وأنا في الثانية عشرة من عمري لأجري بواسطتها لقاء صحافيا مع أخي باعتبارها «مايك» وأمامنا دارت عدسة كاميرا فيديوية صغيرة كانت عائلتي قد اشترتها لتوثق بها ذكرياتها، كل من شاهد الفيديو القصير الذي أنتجته بنفسي وقتها، قال إنها مشروع صحافية ناجحة، وهذا ما كان عندما اخترت دراسة الإعلام في جامعة بغداد عام 1991، وقت ذاك لم يكن الأمر سهلاً، فقد وضع الإعلامي سعد البزاز رئيس لجنة المقابلة وقتها (ومدير قناة الشرقية الفضائية حاليًا) شروطا صعبة لاختيار المتقدمين.. كما أن طريق الإعلام لم يكن مفروشا بالرمل مثلما يقال بعد انقضاء سنوات الدراسة، وحلم الشهرة والنشر أبعد ما يكون عن أي مستجد في المهنة بسبب شح وسائل الإعلام.. بضع صحف يومية متشابهة، وقناتين محليتين، يسعى كل العاملين فيها لكسب رضا النظام السياسي الحاكم في البلاد، والانقياد لنمط واحد في الكتابة، لكني أزعم أني كنت محظوظة لأني زاملت وتتلمذت على أيدي أقلام صحافية ماهرة، كان ذلك في جريدتي «الجمهورية» و«نبض الشباب»، ومجلة «ألف باء»، (المجلة الأولى في العراق).
ورغم انحسار حدود الإبداع في تلك الفترة، نتيجة الرقابة والتصحيح على ما يكتب بدءًا من مدير القسم وحتى رئيس التحرير وصولا إلى وزير الإعلام، وشح فرص النشر الذي عادة ما يعتمد على احتساب الدور بين الصحافيين لضمان العدالة بينهم، فإن تجربة إعداد امرأة صحافية في خضم تلك المتغيرات كانت مميزة وتحمل الكثير من الذكريات والعلاقات.
بعد عام 2003 وجدت نفسي مع آخرين من زملائي أمام طقس جديد من العمل الصحافي، عمل يقترب من الصحافة الحقيقية التي أحلم بها، وانفتاح أكبر لممارسة الحريات.. حرية في اختيار المواضيع الساخنة، يعززه شغف الجمهور بالقراءة لمعرفة ما يجري.. قنوات فضائية كثيرة تحاول رصد ما يجري، وصحف تتبارى بوضع مانشيتات أكثر تشويقا وكسبا للقراء، تتنافس معها مواقع إلكترونية إخبارية.
ما زلت أذكر حماستي للعمل ومعي زميلات وزملاء لي رغم ضبابية واضطراب المشهد السياسي والأمني في البلاد، ورغم الترويع الذي زرعته بيننا العبوات والسيارات المفخخة وهي تتنوع في اختيار أماكنها.. ملاحقة الأهل لي بترك الصحافة إلى مهنة أقل خطرًا لم تجد نفعًا.
اقترن اسمي بمواضيع وتحقيقات لها تماس مع البسطاء والمستعفين من الناس، العمل الصحافي آنذاك، خاصة في أعوام العنف الطائفي (2005 - 2009) في العراق، كان المرحلة الأصعب، وأنا أدس السكين بحقيبتي وقنينة صغيرة لماء النار (تيزاب) كبضعة دفاعات عن نفسي فيما لو تعرضت للخطف أو التهديد من قبل عصابات مجهولة ومعروفة أيضًا!
كان الفوز بتحقيق ميداني يصور واقعا مأساويًا أو يشرح تفاصيل جريمة ويكشف مفسدين، هو الشغل الشاغل لعملي في جريدة «المدى» البغدادية، على مدى أربع سنوات، قبل أن أنتقل بعدها مراسلة لجريدة «الشرق الأوسط» منذ عام 2011، وما زلت.. هذا التكليف جعلني أمام مواجهة جمهور عربي وعالمي، ومهمة ليست سهلة باعتباري سفيرة لبلدي فيما يجري فيه من أوضاع وأحوال.. في بلد لم يزل يعيش تقاليده الاجتماعية التي تنظر لعمل الإعلامية فيه على أنه نوع من الجرأة المبالغة أو الوقاحة أحيانا! «سأكشف سرًا طريفًا هنا»، وهو أني خسرت في مطلع حياتي بعض فرص جيدة للزواج من عرسان تقدموا كانت مهنتي هي العائق، باعتبار أن الصحافية صاحبة لسان سليط وجرأة لا تحتملها بعض العوائل المتحفظة!
شريط الذكريات يمر أمامي سريعا الآن وأنا أسترجع بعض ما فيه من محطات مهمة، كان أبرزها ما تعرضت له من مضايقات خلال تغطية ميدانية لمظاهرات كبيرة عمت الشارع العراقي في عام 2011، للمطالبة بإصلاح الخدمات والنظام الحاكم، كان ثمنها خسارتي كاميرتي وبضع كدمات في وجهي.
وليس آخرها ما حصل من لبس لدى البعض في موضوع نشرته عن لافتات تشير للجماعات المسلحة في البلاد، الأمر الذي عرضني لموجة سب وشتم وتحريض على القتل من أسماء معروفة ومجهولة، مكثت على أثرها شهرا إجباريا في البيت خشية تنفيذ تهديداتهم. الفهم القاصر لدى البعض لدور الصحافة الحقيقي في النقد وتأشير الخطأ كان سببا في تعرضي لعقوبات إدارية من محل عملي في وزارة الثقافة بعد أن نشرت تقريرا تحدث عن غياب دور العرض السينمائي والمسرحي في البلاد.
عملي النقابي بعد انتخابي عضوة مجلس في النقابة الوطنية للصحافيين العراقيين التي تأسست عام 2012، لا يخلو من مواقف صعبة وتحديات، خاصة ما يتعلق بمتابعة وضع الحريات في العراق، والقوانين والتشريعات التي تعنى بضمان حق الحصول على المعلومة وحماية الصحافي من الانتهاكات التي يتعرض لها كل يوم من قبل السلطات والأحزاب والمتنفذين في البلاد.
ولعل صعوبة العمل الإعلامي في العراق بالنسبة للإعلامية اليوم يؤشر لطبيعة تقبل المجتمع الشرقي لعملها ومدى التعاون معها، إضافة لانتشار ظاهرة التحرش ومحاولة ابتزازها سواء من قبل مسؤوليها في المؤسسات الإعلامية أو حتى كبار السياسيين والبرلمانيين، كما أن الحصول على فرصة عمل مستقرة مهمة ليست سهلة مع عدم تفعيل قوانين الضمان الاجتماعي أو تنظيم عقود العمل بين الصحافي والمؤسسة الإعلامية، الأمر الذي جعل من الشائع أن نسمع عن جريدة تسرح العاملين فيها فجأة أو تطرد عددا منهم دون أن يكون هناك أي تعويض قانوني لهم.



تساؤلات بشأن دور التلفزيون في «استعادة الثقة» بالأخبار

شعار «غوغل» (رويترز)
شعار «غوغل» (رويترز)
TT

تساؤلات بشأن دور التلفزيون في «استعادة الثقة» بالأخبار

شعار «غوغل» (رويترز)
شعار «غوغل» (رويترز)

أثارت نتائج دراسة حديثة تساؤلات عدة بشأن دور التلفزيون في استعادة الثقة بالأخبار، وبينما أكد خبراء وجود تراجع للثقة في الإعلام بشكل عام، فإنهم اختلفوا حول الأسباب.

الدراسة، التي نشرها معهد «نيمان لاب» المتخصص في دراسات الإعلام مطلع الشهر الحالي، أشارت إلى أن «الثقة في الأخبار انخفضت بشكل أكبر في البلدان التي انخفضت فيها متابعة الأخبار التلفزيونية، وكذلك في البلدان التي يتجه فيها مزيد من الناس إلى وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على الأخبار».

لم تتمكَّن الدراسة، التي حلَّلت بيانات في 46 دولة، من تحديد السبب الرئيس في «تراجع الثقة»... وهل كان العزوف عن التلفزيون تحديداً أم الاتجاه إلى منصات التواصل الاجتماعي؟ إلا أنها ذكرت أن «الرابط بين استخدام وسائل الإعلام والثقة واضح، لكن من الصعب استخدام البيانات لتحديد التغييرات التي تحدث أولاً، وهل يؤدي انخفاض الثقة إلى دفع الناس إلى تغيير طريقة استخدامهم لوسائل الإعلام، أم أن تغيير عادات استخدام ومتابعة وسائل الإعلام يؤدي إلى انخفاض الثقة».

ومن ثم، رجّحت الدراسة أن يكون سبب تراجع الثقة «مزيجاً من الاثنين معاً: العزوف عن التلفزيون، والاعتماد على منصات التواصل الاجتماعي».

مهران كيالي، الخبير في إدارة وتحليل بيانات «السوشيال ميديا» في دولة الإمارات العربية المتحدة، يتفق جزئياً مع نتائج الدراسة، إذ أوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «التلفزيون أصبح في ذيل مصادر الأخبار؛ بسبب طول عملية إنتاج الأخبار وتدقيقها، مقارنة بسرعة مواقع التواصل الاجتماعي وقدرتها على الوصول إلى شرائح متعددة من المتابعين».

وأضاف أن «عدد المحطات التلفزيونية، مهما ازداد، لا يستطيع منافسة الأعداد الهائلة التي تقوم بصناعة ونشر الأخبار في الفضاء الرقمي، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي». إلا أنه شدَّد في الوقت نفسه على أن «الصدقية هي العامل الأساسي الذي يبقي القنوات التلفزيونية على قيد الحياة».

كيالي أعرب عن اعتقاده بأن السبب الرئيس في تراجع الثقة يرجع إلى «زيادة الاعتماد على السوشيال ميديا بشكل أكبر من تراجع متابعة التلفزيون». وقال إن ذلك يرجع لأسباب عدة من بينها «غياب الموثوقية والصدقية عن غالبية الناشرين على السوشيال ميديا الذين يسعون إلى زيادة المتابعين والتفاعل من دون التركيز على التدقيق». وأردف: «كثير من المحطات التلفزيونية أصبحت تأتي بأخبارها عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، فتقع بدورها في فخ الصدقية والموثوقية، ناهيك عن صعوبة الوصول إلى التلفزيون وإيجاد الوقت لمشاهدته في الوقت الحالي مقارنة بمواقع التواصل التي باتت في متناول كل إنسان».

وحمَّل كيالي، الهيئات التنظيمية للإعلام مسؤولية استعادة الثقة، قائلاً إن «دور الهيئات هو متابعة ورصد كل الجهات الإعلامية وتنظيمها ضمن قوانين وأطر محددة... وثمة ضرورة لأن تُغيِّر وسائل الإعلام من طريقة عملها وخططها بما يتناسب مع الواقع الحالي».

بالتوازي، أشارت دراسات عدة إلى تراجع الثقة بالإعلام، وقال معهد «رويترز لدراسات الصحافة»، التابع لجامعة أكسفورد البريطانية في أحد تقاريره، إن «معدلات الثقة في الأخبار تراجعت خلال العقود الأخيرة في أجزاء متعددة من العالم». وعلّق خالد البرماوي، الصحافي المصري المتخصص في شؤون الإعلام الرقمي، من جهته بأن نتائج الدراسة «غير مفاجئة»، لكنه في الوقت نفسه أشار إلى السؤال «الشائك»، وهو: هل كان عزوف الجمهور عن التلفزيون، السبب في تراجع الصدقية، أم أن تراجع صدقية الإعلام التلفزيوني دفع الجمهور إلى منصات التواصل الاجتماعي؟

البرماوي رأى في لقاء مع «الشرق الأوسط» أن «تخلّي التلفزيون عن كثير من المعايير المهنية ومعاناته من أزمات اقتصادية، دفعا الجمهور للابتعاد عنه؛ بحثاً عن مصادر بديلة، ووجد الجمهور ضالته في منصات التواصل الاجتماعي». وتابع أن «تراجع الثقة في الإعلام أصبح إشكاليةً واضحةً منذ مدة، وإحدى الأزمات التي تواجه الإعلام... لا سيما مع انتشار الأخبار الزائفة والمضلّلة على منصات التواصل الاجتماعي».