«مطبخ زرياب».. وصفات من العصر البابلي وصولاً إلى القرن الحادي والعشرين

دراسات أنثروبولوجية تستجمع دلالات الحياة الغذائية للشعوب ومطابخها وأطباقها

من معرض أبوظبي للكتاب حيث وقع مردوم بك نسخا من الكتاب
من معرض أبوظبي للكتاب حيث وقع مردوم بك نسخا من الكتاب
TT

«مطبخ زرياب».. وصفات من العصر البابلي وصولاً إلى القرن الحادي والعشرين

من معرض أبوظبي للكتاب حيث وقع مردوم بك نسخا من الكتاب
من معرض أبوظبي للكتاب حيث وقع مردوم بك نسخا من الكتاب

إذا كنت تود أن تأكل طبقًا من العصر البابلي أو من العهد الأموي، وربما على الطريقة الأندلسية المدللة، فكتاب «مطبخ زرياب» للكاتب المعروف المختص بالتاريخ الاجتماعي والسياسي، فاروق مردم بك الذي ترجم أخيرا من الفرنسية إلى العربية يؤمن لك هذه المتعة. ففي المؤلّف البديع الصادر عن «مشروع كلمة» في أبوظبي وترجمه الدكتور جان ماجد جبور بعربية سلسة، دراسات أنثروبولوجية تستجمع دلالات الحياة الغذائية للشعوب ومطابخها وأطباقها، مع تركيز على المنطقة العربية.
في الكتاب أيضا وصفات قديمة وحديثة، أقدمها ربما هي التي جمعت ثلاثة ألواح مكتوبة باللغة الأكادية تعود إلى مطلع الألفية الثانية، من بينها فطيرة بالعصافير الصغيرة التي تذبّل في مرجل نحاسي قبل أن تطبخ على نار هادئة في قدر من الفخار. ويعلق الكاتب على هذا الطبق بالقول: «إنه طبق في غاية الروعة يستحق حتى اليوم أن يتربع على أفضل الموائد شريطة ألا نكثر من البصل والكراث والثوم».
تأتي هذه الوصفة في القسم المخصص لـ«العراق مهد كل الفنون» حيث يعرج الكاتب على أطباق عصر النهضة الإسلامية كما يسميها في القرنين الثامن والعاشر للميلاد، حيث يحيلنا إلى كتب بعضها فُقد والآخر لا يزال موجودًا. في هذا الباب الممتع المعنون «مذكرات الرحلة» نقرأ عن «إيران حضارة الأرز»، «سوريا الأذواق مجتمعة»، «لبنان الابتكار على السفر العامرة»، «فلسطين برتقال يافا»، «الأردن حيث الخروف ملك المائدة»، «الخليج العربي قصر التوابل»، و«اليمن دمعة على المخا» وعناوين أخرى من تونس والجزائر و«ملوخية مصر» والمغرب وإسبانيا وفرنسا وغيرها.
ويفرد فاروق مردم بك بابًا للحمص هو الذي قام بوضع مؤلف كامل سابقًا عن «المطول في الحمص». كما يفرد صفحات طوالا للباذنجان «الذي أهين تاريخيًا من قبل عظماء العالم لكثرة ما سخروا منه وتحاملوا عليه باعتباره ثمرة الفقراء»، وآخر للفول الذي يعتبر «عالميا من حيث أصوله وتاريخه وما يختزنه من أسرار وربما يحتوي على (سر الحياة والموت)». كذلك نقرأ عن الزعفران أنه نبت بحسب الأسطورة بعد أن جرح الإله هرمس وهو يلعب الرماية مع صديقه كروكوس، ومات وخضبت دماؤه الأرض لتنبت أزهارًا صغيرة ذات عطر غامض نفاذ ولون فاقع باتت من أثمن التوابل. أما المشمش فرغم أن الأرمن ينسبونه لهم والفرنسيين والإيرانيين أيضًا، «إلا أن هذه الشجرة تنعم بالراحة والهناءة كما ينعم بها المرء في بيت أهله إلا في تركيا وسوريا». وثمة أسطورة لعل الدمشقيين هم الذين ابتدعوها تقول إن «شجرة آدم وحواء التي خلقها الله ليعلمنا التمييز بين الخير والشر ليست شجرة تفاح أو تين بل شجرة مشمش».
وتحت عناوين تحمل أسماء لثمر أو مأكولات أو مشروبات، نقرأ حكايات وأساطير، وأسماء لكتب أجادت في التعمق في دراسة مذاقات الشعوب ونكهاتهم وأمزجتهم الغذائية، كما نعثر على وصفات من كل عصر ومنطقة.
وفاروق مردم بك مؤرخ وكاتب معروف، لكنه أيضا ذواقة من الطراز الرفيع وعاشق لفن الطبخ، وقد كتب خلال ست سنوات مقالات باللغة الفرنسية، نشرت في مجلة «قنطرة» الصادرة عن «معهد العالم العربي»، وقعها باسم زرياب، وجمعت في هذا الكتاب الشيق.
وزرياب الذي استعار فاروق مردم بك اسمه، ونهجه وشرح في بداية كتابه استثنائية سيرته هو أبو الحسن علي بن نافع الملقب بالطائر الأسود بسبب دكنة بشرته، وعذوبة صوته وحلاوة شمائله، من أصول فارسية لازم إسحاق الموصلي في بغداد أشهر موسيقي ومغنٍّ في بلاط العباسيين، ثم غادر بغداد وهو في الثلاثين هربا من نقمة أستاذه، ورحل باتجاه الغرب بحثًا عن المجد والثروة، ووصل إلى قرطبة عام 822م، وكان مجددًا في كل شيء، في الموسيقى حيث تنسب إليه المدرسة الموسيقية الأندلسية، وهو الذي أضاف الوتر الخامس إلى العود، وصنع مضراب العود من مخالب النسر.
زرياب يمكن اعتباره «بيترون الروماني أو الممهد للإنجليزي بروميل، علم أهالي قرطبة إعداد المآدب البغدادية، وابتكر أصولا لتقديم الطعام وترتيب المائدة، كما ابتكر أغطية الجلد الناعم بدلا من شراشف الكتان، وبين أن الكؤوس الزجاجية أكثر أناقة على طاولة الطعام من تلك الذهبية أو الفضية، وهو الذي علم الناس في الأندلس فن التبرج وإزالة الشعر واستعمال معجون الأسنان وطريقة قص الشعر قصيرًا بشكل دائري كاشفًا الحاجبين والأذنين، وأرسى قواعد اللبس حسب الفصول من صيفية بيضاء أو ربيعية حريرية وزاهية الألوان أو شتوية مبطنة وداكنة مع معاطف الفراء. وكتب فاروق مردم بك في كتابه «فمن خلال الاحتكام لرأي زرياب الذي لا يرد، بدل أهل البلاط وسكان المدينة لباسهم وأثاثهم وطبيخهم حتى إنه بعد مضي عدة قرون، كان اسم بيترون العرب يذكر في كل مرة يظهر فيها عرف جديد في قصور شبه الجزيرة الأيبيرية».
فاروق مردم بك يكاد يتقمص في مقالاته هذه التي تحولت إلى كتاب، الجانب المطبخي الحضاري من شخصية زرياب، يجول في أنحاء المعمورة باحثًا عن قصص الأطعمة وأصولها ورحلاتها بين البلدان وفي الأزمنة. فشجرة الزيتون، بها تبدأ منطقة المتوسط وبها أيضا تنتهي، وهي التي تقرب سكان هذه المنطقة من بعض وتجمعهم تحت مذاق واحد. لهذا ربما هناك نزاع شرس على أبوتها. أما المفاجأة فتأتي من ثمرة التمر حيث ثبت بعد أبحاث شاقة على المتحجرات أن موطن شجرة النخيل البري ليس الجزيرة العربية ولا تونس وإنما الحوض الباريسي. لكن الحكاية الشعبية تقول غير ذلك. ويضيف: «أما الحكاية الأجمل، فهي التي تقول إن الله خلق شجرة النخيل من الطين الذي خلق منه آدم، ومن هنا نشأ الاعتقاد السائد في جميع أنحاء العالم الإسلامي بأن هذه الشجرة ليست كغيرها من الشجر، فهي أقرب منها كلها إلى البشر، كما لو أن بينها وبينهم صلة رحم. وثمة حديث شريف يقول: (أكرموا عمتكم النخلة)».
وإذا كانت قصص التمر ورحلاته في الحضارات وبين الشعوب ممتعة وتستحق القراءة فهناك قصص أخرى دالّة في الكتاب حول الطماطم واليقطين والتين والعنب والفستق، ومعجم بديع للذواقة فيه أبحاث صغيرة وشيقة عن الخل واللبن والأترج والطاجن والسمسم والقطائف، كما عن الرمان والسبانخ والكزبرة.
لعله من الكتب القليلة الموجودة بالعربية اليوم التي تهتم بالمطبخ كمادة ثقافية تستحق أن نرتفع بها عن اليومي والمبتذل إلى مستوى المعرفة العميقة الحقة.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟