لقد أصبح الأمر طقساً عصيباً غير محبب للمرور بالنسبة إلى السياح في باريس، وهو محاولة مشاهدة لوحة «الموناليزا»؛ تلك المرأة الجميلة المستغرقة في التفكير المحفوظة في زجاج مضاد للرصاص، عبر حشود من الأذرع المتصارعة والرؤوس، ووسط أجهزة من طراز «آيفون»، في متحف «اللوفر» الشاسع.
لم يعد الأمر كذلك، أو على الأقل هذا ما تسعى إليه إدارة المتحف، كما يبدو، بعدما كشفت خلال الأسبوع الحالي، أنها قررت تحديد أعداد زائريه يومياً بمقدار الثلث تقريباً؛ أي نحو 30 ألف شخص، وهي سياسة متبعة على أرض الواقع بهدوء منذ أشهر عدة. وكان المتحف يجذب نحو 45 ألف شخص يومياً خلال أكثر الأيام ازدحاماً قبل انتشار وباء «كورونا» حسب تصريح المتحف.
في عام 2022 استقبل متحف «اللوفر» 7.8 مليون زائر (نيويورك تايمز)
وفي محاولة لشرح وتوضيح القرار، أقرّت لورانس دي كار، مديرة المتحف المعيّنة حديثاً، بأن الزيارات إلى «اللوفر»، الذي جذب نحو 10 ملايين سائح عام 2019، وهو ما يجعله من أشهر متاحف العالم؛ لم تعد هادئة ومفعمة بالسكينة مثل المشي بجوار نهر السين القريب منه. وحتى قبل ظهور الوباء، كان ينظر المتحف عن كثب في أمر إدارة الحشود؛ لأن الكثير من قاعات العرض كانت تعجّ بالمجموعات السياحية. كذلك كان المتحف يحاول تحسين تجارب الزائرين من خلال تقديم جلسات يوغا بالقرب من الأعمال الرائعة لكل من جاك لوي ديفيد وروبنس، إلى جانب أشياء أخرى. قالت دي كار: «أودّ أن تكون الزيارة إلى متحف (اللوفر) لحظة من المتعة، خصوصاً بالنسبة إلى الأشخاص الذين يكتشفون المتحف للمرة الأولى؛ أي ما يعادل نحو 60 في المائة من زائرينا».
وأضافت دي كار أن عدد الحضور في المتحف عام 2022 قد عاد إلى 7.8 مليون شخص؛ أي أكثر بنسبة 170 في المائة عن الحضور عام 2021، الذي تأثر كثيراً بانتشار الوباء، لكنه أقل بنسبة 19 في المائة عنه في عام 2019، قبل ظهور الوباء. كانت تلك النهضة، التي يعزوها مسؤولو «اللوفر» إلى السياح القادمين من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، رمزاً لمدى تعافي «اللوفر» بعدما ضربت القيود، التي فُرضت على السفر بسبب فيروس «كورونا»، المتاحف في باريس وحول العالم.
يأتي قرار متحف «اللوفر» بتقييد وتحديد الحضور مع إعلان متاحف في أنحاء العاصمة الفرنسية خلال الأسبوع الحالي، ارتفاع أعداد الزائرين نسبياً بعد تراجعها عام 2020 مع انتشار الفيروس، وابتعاد السياح خصوصاً من آسيا. مع ذلك، لا يزال عدد الزائرين لمتاحف أخرى مثل متحف «قصر فرساي»، ومتحف «أورسيه»، منخفضاً عن العدد خلال فترة ما قبل الوباء، وهو ما يوضح أيضاً وضع المؤسسات الثقافية في الولايات المتحدة الأميركية.
في الوقت الذي تواجه فيه متاحف كثيرة حول العالم صعوبة في استعادة معدلات الزيارة السابقة، ذكر مراقبون ثقافيون أن قرار «اللوفر» تقييد عدد الزائرين كان متأثراً على الأرجح بالسيدة الإيطالية المؤثرة التي عاشت خلال القرن السادس عشر. أشار جيمس غاردنر، مؤلف كتاب «اللوفر: الحيوات الكثيرة لأشهر متحف في العالم»، إلى أن المتحف لديه «مشكلة الموناليزا»، وهي التي جعلت زيارة هذا الصرح، الذي كان في الأساس حصناً يعود إلى القرون الوسطى أُعيد إنشاؤه ليكون قصراً ملكياً خلال القرن السادس عشر، «غير محتملة ولا تطاق». وأضاف أن حل المشكلة كان ضرورة قومية، بالنظر إلى أن «اللوفر» يمثل جزءاً رئيسياً وجوهرياً من الهوية الثقافية الفرنسية، ويمثل على الأرض قلب عاصمة ترى نفسها مركز العالم، سواء كان ذلك حقيقياً أو لا. وأوضح قائلاً: «سيحسّن تحديد عدد الزائرين تجربة زيارة (اللوفر). لديك الآن حشود تحاول مشاهدة لوحة (الموناليزا)، والاختناق قد يكون غير محتمل. على بعد بضع خطوات منك تجد 40 عملاً فنياً رائعاً آخر؛ إذ توجد 4 لوحات لدافنشي في القاعة الكبرى على بعد بضع أقدام، لكن ينظر الجميع إلى لوحة (الموناليزا)، التي تصور سيدة إيطالية رسمها الفنان الإيطالي الذي أصبح فرنسياً تماماً».
وأضاف أنه لو أُزيلت لوحة «الموناليزا»، ونُقلت إلى قاعة عرض خاصة، ربما في «جو دو بوم» القريب، سيساعد ذلك في حل المشكلة للأبد. في عام 2019، اقترح جيسون فاراغو، ناقد في صحيفة «نيويورك تايمز»، بناء سرادق لها ربما في تويليري.
مع ذلك، عارض غيوم كينتز، الذي عمل لمدة 9 سنوات أميناً للأعمال الفنية الإسبانية وأعمال أميركا اللاتينية في متحف «اللوفر»، ويعمل حالياً مديراً لمتحف ومكتبة جمعية أميركا اللاتينية في نيويورك، الأمر بقوله إن تحديد عدد الزائرين اليومي يخاطر بإبعاد الناس وإقصائهم، من خلال جعل الرحلات إلى «اللوفر» مصدراً للمشاحنات والنزاعات. مع ذلك، قال إنه كان من الضروري، ربما نظراً لأن مدخل المتحف، الذي يقع بجوار الهرم الشهير للمعماري آي إم بي، أصبح مليئاً بالاختناقات، ويشهد أحياناً فترات انتظار طويلة. وقال: «في عالم مثالي لا يُعدّ من الجيد وضع قيود على عدد زائري أي متحف؛ إذ ينبغي أن يكون الذهاب أمراً عفوياً وطبيعياً لا يتطلب جهداً كبيراً». وأضاف: «لا تُعدّ إضافة حاجز معرقل آخر فكرة سديدة».
كذلك قال إدموند وايت، روائي أميركي عاش في باريس لمدة 15 عاماً، وكان من الزائرين المنتظمين لمتحف «اللوفر»، إنه يأمل أن تبعد تلك السياسة الجديدة الأشخاص المضجرين من مقدسي الأيقونات. وقال في مقابلة، إن وضع لوحة «الموناليزا» أصبح يذكّر المرء بالمعرض العالمي في نيويورك عام 1964، عندما كان الزائرون ذوو الحماسة المفرطة يشاهدون تمثال «بييتا» لمايكل أنغلو من خلال مسار متحرك. وأوضح قائلاً: «يجب أن تتوقف عبادة وتقديس الأيقونات؛ إذ يهبط السياح الأميركيون على متحف (اللوفر) دون أن يعلموا حتى ما الذي ينظرون إليه».
* خدمة «نيويورك تايمز»