تأملات في وقائع موت غامض

«مديح التعازي» لعبد القادر الشاوي

تأملات في وقائع موت غامض
TT

تأملات في وقائع موت غامض

تأملات في وقائع موت غامض

يمكن وصف كتاب «مديح التعازي» لعبد القادر الشاوي (منشورات الفنك، الدار البيضاء، 2022)، بأنه انتقال ذهني من ترقب ما بعد الحياة، إلى استكناه صلة هذا «الما بعد» بالأحاسيس القاتمة التي تخترقه، وتؤجل كل مسعى لفهم أحواله والتصالح مع معناه. وقد لا يكون تزيداً في القول اعتبار هذا الإصدار السير - الذاتي فريداً في منواله ضمن الكتابات العربية المعاصرة، فهو سردية للموت عبر إعادة نسج الصلات بين صفات الوفاة والتلاشي والخروج والفناء والارتقاء؛ تستدعي الغياب بما هو فكرة تسعى المفردات لحصارها في حديث العارفين والبلغاء. من هنا بدت فقرات عديدة من الكتاب وكأنها محاورة لآيات القرآن الكريم، في الآن ذاته الذي تعيد رتق الفجوات بين مقامات النظر في كتب «التفاسير» و«التراجم» و«الطبقات» وفي سرود السير والروايات والمحكيات المعاصرة، العربية والغربية؛ حيث تجلى الجسد في كثير من المقاطع بما هو «بيت» مجبول من «طين» و«ماء»، والروح بما هي «داخل» و«خارج» من ذاك المستقر، وهما معاً بوصفهما جدلية لا تفتر تولد تأويلاتها في وعي الأحياء التواقين لدرء الفناء.
ويمثل «مديح التعازي» في هذا السياق، تنويعاً على سلسلة إصدارات عبد القادر الشاوي المتصلة بذاكرة الاعتقال والمرض ثم السفر عبر أرجاء الكون، بوصفها وقائع وموضوعات مرتهنة بالمسار الشخصي، في أعماله الممتدة من: «كان وأخواتها» (1987) إلى «التيهاء» (2021)، مروراً بـ«دليل العنفوان» (1989) و«باب تازة» (1994)، و«الساحة الشرفية» (1999)، و«دليل المدى» (2003) و«من قال أنا» (2006) ثم «بستان السيدة» (2018) و«مرابع السلوان» (2020). إنها لحظة نثرية مضافة لا تخلو من نزوع فنطازي لحلقات استرجاع تأملي، تتجلى عبرها تفاصيل العمر القديم وكأنما من عمق لحدي؛ وجوهٌ متقلبة لشخص يَمْثُلُ بوصفه «آخر»، بوقائع وأهواء وصلات منتهية، وصداقات تعيد تركيب كلام منسي، ومواقف تنأى عن الحاضر، وعن الشخص الملتفت إلى وقائع الذاكرة البعيدة، والمقلّب لبقايا الاسم الذي كانه. لهذا تقترن الاستعادة التخييلية بنزوع جنائزي، يطبع وعي الجسد والروح، في مجمل فقرات السرد وفصوله، سيما تلك التي تعيد تركيب تفاصيل محن مرزئة، إنه الإحساس الذي ينزغنا، من الوهلة الأولى، وحتى المقاطع الأخيرة من تأملات السارد في وقائع الموت الغامض والسهل والممتحن للفكر والوجدان.
يتضمن «مديح التعازي» ثلاثة فصول وحاشية، مع قائمة مراجع، حمل الفصل الأول عنوان «المناظرة أو المطارحة»، والثاني «المخاتلة أو المراوغة» والثالث «المماثلة أو المطابقة»، في بنية مصاحبة وعطف تولد من المفردات مرادفاتها المتطرفة. في إحدى فقرات الحاشية، يطفر الخيط السري الجامع بين فصول الرحلة الجامعة بين معارف الفناء الجسدي والتحلل العضوي وفقه الدفن وفلسفة الهروب من الموت، ووعي النصوص الدينية والفكرية والصوفية والسياسية بالغياب وتصريفها للموافق منه. يكشف السرد في تلك الفقرة صدور هذا الضمير المأتمي من لحظة الحصار، والحجر الصحي، التي فرضت العودة إلى الذات واستحضار الماضي، والوقوع على عتبات الإصابة، والخضوع لترهيب السلطة من الجائحة الغامضة، يقول: «أعْنَفَ ما قد نُصاب به هو الغموض، المصطلح المُحَقَّر في جميع اللغات، والذي، بِالاتفاق بين الناس، لم يسلم إلا من الوضوح، فَظَلَّ على حاله تائهاً غائباً... ولكَ أنْ تَعْرِفَ أن الغموض في العربية هو إطْبَاقُ الجَفْن والنوم، كما أن غَمض في الأرض غَمْضاً يعني الذهاب فيها والغياب. وهذا ما أرى فيه قرابة في التطابق الذي قد يَستشعِرُه الفرد بين فقدان ذاكرته بِفِعلٍ، وبين مفهوم الغموض بِالشيء. عَمَاءٌ في الحالتيْنِ لم يسبق لهما إن كانا بِالحِدَّة والقُوَّة التي هُمَا عليها أمام فيروس (لا يُرَى بالعين المُجَرَّدة بل بالتحليل في المختبرات)» (ص292).
تستمد مفردات السارد وتعابيره دلالاتها من الإيهام بوجوده في محل برزخ بين تبيين الموت وتبديد التباسه، وتضمين الإيحاء بالوجود بين براثنه، فمنذ البداية ثمة ذاكرة تحتال للتخفف من وقع ضاغط، يسعى لتبليغ الأثر العاطفي والحالة الذهنية لحال الذهاب الحتمي، وكأنما كل تلك التفاصيل عن الروح والجسد، بدءاً بتمثيلاتها في الآيات والأحاديث والرؤى والأحلام، وانتهاء بصلة الموت بالتفسير العلمي، مروراً بالوعي اللحدي، وأحوال التعامل مع المقابر والشواهد، وهندسة راحة الأحياء الذاهبين لملاقاة المستقرين في ضجعتهم الأبدية، مجرد سعي لبيان وضع الالتباس الذي تعيشه الذات في استيعاب «الما بعد»، وما يتصل بها من رهاب ومحاولة فهم، وتشبث بتأجيل الوداع.
وتدريجياً توحي سردية الشاوي لقارئها بأن الموت لا ينفصل عن كونه «حداً» لوجود ما، إلا ليعانق إطلاقه ورمزيته. لا ينتهي من إيهامه بالنهاية إلا ليولد تمثيلاته، وصوره، وجمالياته التخييلية. من هنا، قد يكون الموت خاتمة بمعنى ما، بيد أنه حياة في محيط وقوعه. ومنطلق لأشكال شديدة التعقيد من الخطابات والأنساق السجالية، التي لا تعوزها البلاغة وقوة التأثير. بالطبع، فإن نهاية الأشخاص، وسقوطهم في لحظة من لحظات الزمن، وفي جغرافيا إنسانية بعينها، لا تفتقر، بحد ذاتها، للوقع والقدرة على إثارة الخيال. فالموت درامي في جوهره؛ إنما الذي ينفذ تلك الدرامية، ويمنحها جمالية مميزة، هو قدرة الآخرين، الأحياء، على تشغيل رمزية الموت، وشحنه بمعاني حياتهم، «هم»، وجعله مرتكزاً في «بلاغتهم»، وقدرتهم على الإقناع.
غياب الفرد - إذن - نهاية له وحده، ولكنه فرصة استثنائية للتخييل وإنتاج الصور. فهو رفع للحرج الفكري والأسلوبي، وجسر للهوة بين الضرورة والحرية. ذلك ما يفسر تضمين «مديح التعازي» عشرات القراءات والاقتباسات والتحليلات لنصوص شعراء وروائيين وفلاسفة وسياسيين عن الفناء المتخايل؛ منذ سعى أتباع الزعيم الشيوعي «لينين» لتأبيد حضوره بتحنيط جسده، إلى محكية الفقيه المغربي «محمد سليطن العلوي» ووصفته عن «دواء الموت»، مروراً بمواقف «آلان باديو» و«فيرناندو سافاتار» و«حنا ارندت» و«جاك ديريدا» و«فرانسوا شانغ» و«فيرناندو بيسوا» و«بول ريكور»... وغيرهم، ثمة في كل مرة تأمل في وقائع موت غامض، ومحكية عن فناء بنسغ نثري، تدور أحداثها عند عتبة «الجاهزية» لصعود الروح، بوصفها فاصلاً وجودياً، وانقطاعاً في الصلات بالناس والأهل والصداقات، وتحولاً في المشاعر، ولحظة في سيرورة لا يمكن انتزاعها عما قبلها، أي عن ذاكرتها الملتصقة بمتوالية العقل والإدراك والتخيل، التي تمنح إمكانية وصل الموت بصفات تمثله الذهني، من «الغياب الغنوصي» إلى «الفناء الصوفي» إلى «الموت النيتشوي»، أو بجعل الحياة في سقوطها مجرد مساكنة للموت.
وفي لحظة من التخييل الذاتي المازج بين التحليل والتأريخ والنقد السياسي، يطالعنا صوت السارد المتخذ إهاب جثة لحظة غسلها وتشييعها؛ حيث يتوقف ليضع احتمالات فنطازية ساخرة حيناً وسوداوية حيناً آخر، ومريرة دوماً، عن صلة هذا الميت الذي سيكونه (أو الذي ارتدى قناعه) بالآخرين، في مراتبهم المختلفة، مناضلين حزبيين، وسلطة سياسية، ورفاق مسار، وأصدقاء لا تتخذ الحياة صورها إلا عبر ما ينسجونه من صلاة عذبة أو معذبة مع المنذور للغياب. وسرعان ما يركب الأسلوب السردي نزوع إلى التمسرح في التخاطب بين الجثة وغرمائها الأحياء أو بينها وبين ضميرها المستتر، بقصد تخييل مواقف من العزاء والسلوان والتذكر والوداع وسرعة التخلص من عبء الميت... بتعبير السارد: «كلما كنت أقترب من المكان الذي خصصوه لي من دون استشارة، إلا وكانت تلك الأصوات تجري على اللسان فوق ما جرت أكثر فأكثر، مرحة لا لأننا في مقام الموت، بل من إحساس بالعدم، ورغبة أكيدة في التخلص السريع من ذلك الشعور الثقيل بالعزاء أو مني كذلك، أو هكذا كان يُخيّل إليّ، ويا كم أشك، في تفكير الذين أتوا ورائي مشيعين لجثتي» (ص 250).
هكذا يمكن قراءة «مديح التعازي» بما هو سردية لاستبطان الموت، وكشف القيم والأحاسيس المتقاطبة التي تتفجر بين البدايات والنهايات، بين الذوات (المغادرة) والآخرين (الباقين)، فتنقلب معها المعاني والرؤى المقترنة بالزمن والفضاء والذاكرة والتفصيل اليومي. ويصير الموت الزاحف شيئاً فشيئاً هو الحقيقة الحياتية، الوحيدة، التي تمتلك معنى قدسياً، يُكسب المحيط دلالاته الإنسانية، ويبدد الشعور الضاغط بالعقم واللاجدوى. كما يمكن قراءته بما هو تميمة لدرء الخوف من حقيقة لا فكاك منها ولوعي الانتقال إلى عتباتها، قبل المستقر الأبدي، كتبت بلغة روائية ترقى أحياناً لمقام النثر، في عمقه الفلسفي وسخريته المبطنة، وجنوحه لتقويض القناعات المستقرة.
*كاتب وأكاديمي مغربي


مقالات ذات صلة

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

كتب دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

يضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
كتب بعض واجهات المكتبات

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

الصيف الماضي، عندما روادت ماي تنغستروم فكرة فتح مكتبة لبيع الروايات الرومانسية بمنطقة فنتورا بكاليفورنيا

ألكسندرا ألتر
كتب الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

يتناول الناقد والباحث اليمني د. فارس البيل نشأة وجذور السرد الإبداعي في منطقة الخليج وعلاقة النص بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة

رشا أحمد (القاهرة)

إيميلي هنري... كتب تحقق أعلى مبيعات من دون ترويج ولا «تيك توك»

إميلي هنري
إميلي هنري
TT

إيميلي هنري... كتب تحقق أعلى مبيعات من دون ترويج ولا «تيك توك»

إميلي هنري
إميلي هنري

لم يسبق لإيميلي هنري قط أن أجرت جولة للترويج لأحد كتبها أو قرأت مقاطع من كتبها داخل إحدى المكتبات بهدف الترويج. أضف إلى ذلك أنها لا تملك حساباً على «تيك توك». أما حسابها على «إنستغرام»، فيتميز بصور أغلفة كتبها، بينما يخلو من جولات في خزانة ملابسها أو محاولاتها إنقاذ بعض القطط، أو صور لتناولها وجبة شهية مرتبة في الأطباق على نحو أنيق.

ووفق تعبير هنري، فإنها لا ترغب في أن تتحول إلى «كاتبة وشخصية شهيرة بعض الشيء في الوقت ذاته». إنها «روائية رومانسية»؛ وهنا انتهى الأمر. وبالتأكيد يعدّ هذا نهجاً غير مألوف، بل حتى ربما يعدّ جريئاً، في عصر يتوقع فيه قراء أعمال الخيال الشعبي مستوى من العلاقات شديدة الحميمية مع كتّابهم المفضلين.

ورغم ذلك، فإن هنري، التي تشتهر في أوساط محبيها باسم «إم هن»، نجحت في إطلاق خامس كتاب لها يحقق أعلى مبيعات في غضون 4 سنوات. واستمرت أحدث أعمالها؛ التي حققت نجاحاً مدوياً، «قصة طريفة (Funny Story)» في قائمة أفضل الكتب مبيعاً طوال 9 أسابيع. وفي أول شهرين من صدوره، حصد الكتاب نحو 60 ألف مراجعة من القراء عبر موقع «غود ريدز»، ناهيك بإطلاقه صناعة كاملة من القمصان والشموع والملصقات على صلة به.

ووفق الأرقام، باعت هنري، في المجمل، 7 ملايين نسخة داخل الولايات المتحدة منذ عام 2020. ويجري العمل على تحويل 3 من رواياتها إلى أفلام. وأعلنت هنري، الثلاثاء الماضي، أن رواية أخرى؛ هي «مكان سعيد (Happy Place)»، سيجري تحويلها إلى مسلسل على «نتفليكس».

عن ذلك، تقول هنري: «كان الأمر سريعاً للغاية. أشعر كأن السنوات الأربع الأخيرة لم تكن في حقيقتها سوى 35 ثانية فقط».

في أثناء تبادل أطراف الحديث مع هنري داخل مقهى «كوفي إمبوريم» في سينسيناتي المليئة بالأشجار، بدا من الصعب تخيل انسحابها نحو حالة من الهدوء. من جهتها، قالت هنري، وسط هدير جزازات العشب الدائرة في الحي: «أنا أحب الناس حقاً. عندما أكون وسط مجموعة كبيرة أميل إلى رفع صوتي لمستوى أعلى، لكن بعد ذلك سأعود للمنزل في صمت تام. وقد لا أتحدث مع أي شخص على امتداد أيام عدة».

بدأت هنري مسيرتها في مجال الكتابة عبر تأليف روايات موجهة للشباب، وكانت تعكف على كتابة أول رواية لها بعنوان «الحب الذي قسم العالم (Love That Split the World)»، في الصباح قبل أن تذهب للعمل بصفتها كاتبة فنية لدى شركة للهاتف والإنترنت والتلفزيون، وكانت مسؤولة عن اللغة الغامضة فوق صناديق الكابلات، ولم يكن هذا العمل ممتعاً لها.

وعليه؛ استقالت هنري بمجرد حصولها على سلفة كتابها الافتتاحي؛ وهو كتاب متواضع، وفق ما ذكرت، ثم كتبت أو شاركت في تأليف 3 كتب أخرى للجمهور الأصغر سناً.

تقول: «وصلت إلى لحظة في أثناء كتابتي لجمهور البالغين الأصغر سناً شعرت عندها بالإرهاق. لم يكن لديّ أي شيء جديد لأقوله».

أما كتابها الأول للبالغين، «بيتش ريد (Beach Read)»، فكان فرصة لها كي تكتب من دون ضغوط الجمهور صغير السن. ورغم أن كثيرين رأوا هذا أبسطَ مشكلة يمكن أن يواجهها أي كاتب، فإن هنري تنصح اليوم الكتاب الطموحين بالاستمتاع بخصوصية العمل على مشروع ما دون إقحام القراء في الأمر. وقالت: «من المتعذر أن نعود يوماً إلى هذا الشعور نفسه من المتعة».

صدرت رواية «بيتش ريد» في 19 مايو (أيار) 2020، تقريباً قبل أسبوع من تجاوز أعداد ضحايا جائحة «كوفيد19» داخل الولايات المتحدة عتبة المائة ألف. وبطبيعة الحال، كان أقرب إلى المستحيل تنظيم فعاليات تتضمن التفاعل مع الجمهور. وبدا الموقف منطوياً على مفارقة بالغة، بالنظر إلى أن الرواية كان المقصود منها أن يستمتع القراء بمطالعتها على رمال الشاطئ.

ومع ذلك، ورغم استمرار إغلاق كثير من الشواطئ العامة، فإن الرواية حققت نجاحاً ساحقاً عبر «تيك توك». ويوماً بعد آخر، زحفت الرواية نحو قائمة أفضل الكتب مبيعاً حيث ظلت لأكثر من عام.

في هذا الصدد، قالت أمادنا بيرجيرون، مسؤولة التحرير لأعمال هنري لدى «بيركلي»: «في ذلك الوقت، كان كثيرون يتطلعون إلى شيء يضفي على حياتهم شعوراً بالإشراق والراحة والدفء، وفي الوقت نفسه لا يخجلون من التعبير عن الحزن. وبالفعل، وفرت رواية (بيتش ريد) للقارئ كل هذه الأشياء».

وشكل ذلك سابقة جرى الحفاظ عليها عبر الروايات الثلاث التالية لهنري: «أشخاص نلتقيهم في الإجازة (People We Meet on Vacation)»، و«عشاق الكتب (Book Lovers)» و«مكان سعيد (Happy place)». وبمرور الوقت، زادت المبيعات؛ كتاباً وراء كتاب، بينما ظلت هنري داخل كنف منزلها في سينسيناتي.

تقول: «أعتقد أنني لو كنت قد قمت بجولة ترويجية للرواية، أو لو أن (بيتش ريد) لم تصدر في فترة الجائحة، لكان فريق العمل قد اعتقد أن المبيعات تزداد بفضل الجولات التي أقوم بها. وبالتالي، كانوا سيطلبون مني إنجاز مزيد منها. إلا إنه بالنظر إلى أن كل شيء كان ناجحاً من دون اضطراري إلى تنظيم جولات، فقد تعاملوا بمرونة مع رغبتي في البقاء داخل المنزل».

يذكر أنه في وقت مبكر من عملها الأدبي، واجهت هنري ضغوطاً للخروج إلى العالم عبر نافذة «تيك توك». وعن هذا، تقول: «أعلنت رفضي الفكرة. عندما يموت (إنستغرام)، سأموت معه. هذا آخر حساب لي عبر شبكات التواصل الاجتماعي».

وتضيف: «بدأت تداعب خيالي أحلام؛ لو أنني بدأت مشوار الكتابة قبل عصر شبكات التواصل الاجتماعي. في تلك العصور، لم أكن لأعلم كيف يبدو كاتبي المفضل، ولم أكن لأعبأ أو حتى أفكر في الذهاب إلى فعالية يشارك فيها. من الغريب أن تحلم بالكتابة وهي في صورة ما، ثم تكبر وتبدأ مسيرة الكتابة بالفعل لتجد أنها تحولت إلى صورة أخرى مختلفة تماماً».

وتنسب هنري وبيرجيرون ودانييل كير، مساعدة مدير شؤون الدعاية لدى «بيركلي»، جزءاً من الفضل في النجاحات التي حققتها روايات هنري إلى تصميمات الأغلفة العصرية والبراقة التي صممتها ساندرا تشو، خصوصاً الاهتمام الذي توليه للألوان ولغة جسد الشخصيات.

في رواية «قصة طريفة»، بذلت تشو مجهوداً كبيراً للوصول إلى الوضعية المثالية لجسد الشخصية الرئيسة بالرواية. وشرحت تشو أن «دافني»، أمينة مكتبة أطفال، بدت «متعجرفة بعض الشيء في البداية». في النهاية، نجحت تشو في تصويرها على نحو يعكس التوازن الصحيح بين الذكاء والحذر. وبناءً على طلب هنري، اختارت تشو أن ترسم «دافني» بملابس بسيطة، مع ارتدائها حذاء «كروكس» أصفر.

والآن، هل ثمة احتمال أن تخوض هنري جولات للترويج لأعمالها الجديدة، خصوصاً مع عودة الجولات الترويجية من جانب كتاب آخرين؟

عن هذا الأمر، تجيب كير: «ندرس دوماً هذه الفكرة، لكننا نركز اهتمامنا، في نهاية المطاف، على سبل مثيرة ومبتكرة للترويج لإيميلي ورواياتها، والتفاعل مع الجمهور والوصول إلى قراء جدد».

بمعنى آخر؛ نوقش الأمر بالفعل، لكن لم يُقَر جدول زمني محدد لأية جولات ترويجية بعد.

من ناحية أخرى، ظهرت هنري في 3 برامج تلفزيونية ـ «غود مورنينغ أميركا» و«توداي» و«تامرون هول». واستلهاماً من تجربة روائيين آخرين غالباً ما ينظمون حفلات في ساعات متأخرة من الليل، احتفالاً بإطلاق كتاب جديد، ساعدت «بيركلي» في تنظيم أكثر عن 200 فعالية احتفالية بإصدار رواية «قصة طريفة» عبر مكتبات بمختلف أرجاء البلاد. ونُظّم أكثر من 50 منها عند منتصف الليل.

في هذا السياق، عبرت ليا كوك، مالكة دار «ذي ريبيد بوديس»، المختصة في الأعمال الرومانسية، عن اعتقادها بأن «قراء الأعمال الروائية الخيالية يشكلون فئة مميزة بحد ذاتها، من حيث الولاء. وقد نفدت نسخ الرواية لدينا في 3 أيام فقط».

في 22 أبريل (نيسان) الماضي، تدفق أكثر من 100 من القراء المتحمسين على متجر الدار في حي بروكلين بنيويورك. وكانت هناك أطباق من الشوكولاته، ومطبوعات فنية مستوحاة من رواية «قصة طريفة» ومحيط بحيرة ميتشغان الذي تدور أحداث الرواية في أجوائه... وفجأة، ظهرت هنري نفسها تتجول وسط الحشد مثل ضيف آخر مبتهج. وكانت ترتدي ملابس بسيطة براقة تعكس أجواء الشاطئ والبحر.

وفي مقطع فيديو، ظهر القراء وهم يستقبلونها بسعادة غامرة وحماس وتصميم على التقاط هذه اللحظة بهواتفهم الخاصة. وتعالت صيحات إحدى المعجبات: «يا إلهي! يا إلهي!». أما هنري، فرحبت بالقراء، بينما حمل وجهها شعوراً بالانتصار والارتياح.

تقول لنا: «كان هناك أشخاص تعرفت عليهم بعدما تابعتهم سنوات وهم يروجون لكتبي عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كانت تلك لحظة مميزة ورائعة للغاية، لكن الشيء الجميل حقاً في قرائي أنهم شيء خارج عني؛ إنهم مجتمع قائم بذاته».

يُنسب جزء من الفضل في النجاحات التي حققتها روايات إيميلي هنري إلى تصميمات الأغلفة العصرية والبراقة

يذكر أن النسخة ذات الغلاف المقوى لرواية «قصة طريفة» باعت نسخاً أكثر بنسبة 850 في المائة خلال الأسابيع الأربعة الأولى من إصدارها، مقارنة بالنسخة ذات الغلاف الورقي في الفترة ذاتها، رغم أن تكلفتها تبلغ نحو الضعف. وبحلول أواخر مايو (أيار)، كانت لا تزال في مقدمة الكتب داخل كثير من مكتبات سينسيناتي.

ومع ذلك، فإنها عندما همت بمغادرة مقهى «كوفي إمبوريم» برفقة زوجها للعودة إلى المنزل، لم تكن هنري تتبختر في مشيتها مثل شخصية مهمة أو بارزة أو حتى شخص تجذب كتبه القراء إلى المكتبات في منتصف الليل؛ وإنما كانت تسير بجدية تليق بكاتبة عاقدة العزم على العودة إلى العمل.

خدمة «نيويورك تايمز»