هل يجوز لنا أن نتّهم الغرب بالانحلال الأخلاقيّ؟

الأفراح عمّت الميادين العربية وكذلك الأوروبية احتفالاً بتأهل المغرب المونديالي (رويترز)
الأفراح عمّت الميادين العربية وكذلك الأوروبية احتفالاً بتأهل المغرب المونديالي (رويترز)
TT

هل يجوز لنا أن نتّهم الغرب بالانحلال الأخلاقيّ؟

الأفراح عمّت الميادين العربية وكذلك الأوروبية احتفالاً بتأهل المغرب المونديالي (رويترز)
الأفراح عمّت الميادين العربية وكذلك الأوروبية احتفالاً بتأهل المغرب المونديالي (رويترز)

تَنهج المجتمعات الإنسانيّة النهج الذي يلائم طبيعتها ومناخها وبيئتها، ويستند إلى تصوّراتها وحقائقها واقتناعاتها، ويستلهم مثُلَها ومبادئها وقيَمها. ما كان الغرب غرباً لو نُحت على صورتنا ومثالنا، والشرق شرقاً لو نُسج على منوال الغرب. ليست المشكلة في الاختلاف بين الشرق والغرب، بل في إساءة فهم الحضارتَين. من علامات الإساءة أنّ بعضاً منّا يرشق الغرب بتهمة الانحطاط الأخلاقيّ. ما برحتُ حتّى اليوم استفظع مثل التهَم الباطلة هذه، لا سيّما حين تَصدر عن مجتمعاتٍ ابتُليت أيضاً بعاهات وأسقام واضطرابات ينبغي صرف الطاقة القصوى وبذل الجهد الأعظم في سبيل الشفاء منها.
عاين كثيرٌ منّا بسرورٍ فائقٍ التئامَ العيلة العربيّة والأفريقيّة والآسيويّة على مدرّجات ملاعب كأس العالم في قطر. فتأثّرنا بمشاهد الألفة التي جمعت أعضاء الأسرة الواحدة حول ابنها الرياضي الموهوب. غير أنّ بعض المعلّقين ذهبوا مذهباً متطرّفاً؛ إذ عَمدوا إلى مقارنة الدفء الحناني المنبعث من أفئدة العيال المبتهجة على أرض الملعب بما افترضوه من جفاءٍ وصقيعٍ وعزلة في المجتمعات الغربيّة. فإذا بهم يسارعون إلى تقريع الغرب وتأنيبه وتسفيه حضارته، وقد أغفلوا وصفَ المشاهد التي جمعت أيضاً أعضاء الأسَر الغربيّة حول أبطالهم المتفوّقين في مَوقعة الحدث نفسه.
لن أفترض سوء النيّة في هذا الاتّهام، بل الفهم الخاطئ الذي يمنع صاحبَه من إدراك أسباب الاختلاف. أعتقد أنّ أخطر ما تنطوي عليه تهمة الانحلال الأخلاقي القولُ بضياع الفرد الغربيّ، وتفكّك الأسرة الغربيّة، وانحراف الحرّيّة الفرديّة الذاتيّة، وانهيار الأخلاق، لا سيما تلك المتعلّقة بمقام الجسد والمرأة والجنس. وعلاوة على ذلك، غالباً ما نَعيب على الغرب ازدواجيّة معاييره الإنسيّة الدِّيموقراطيّة، خصوصاً في نطاق السياسات الخارجيّة. لا بدّ لنا، والحال هذه، من تدبّر وجوه الضلال في مثل الانتقادات اللاذعة المهينة هذه.
من أفضل سبُل الاستجلاء النظرُ في طبيعة الاجتماع الغربي المعاصر الذي قام على إرثٍ إغريقيٍّ - لاتيني يعترف بمقام الفرد، على تنوّعٍ في المقادير، ويُفرد للمجال العمومي منزلة الصدارة في نظام المدينة الإنسانيّة. معنى ذلك أنّ المجتمعات الغربيّة استوحت، في نهضتها الإنسيّة الناشطة منذ القرن السادس عشر، مثالَ المدينة الإغريقيّة القديمة التي كانت تولي المناقشة العلنيّة المفتوحة العناية الفائقة. ومع ذلك، يعرف الجميع أنّ الغرب اختبر الظلاميّات والجهالات والاحترابات المميتة، لا سيّما إبّان أزمنة تصارع الممالك الغربيّة. غير أنّ القرون الوسيطة ليست حقبة اقتتال فحسب، بل نضجت فيها أيضاً وأينعت وأثمرت أبهى إبداعات الفكر وجمالات الفنّ وارتقاءات الروح.
ما يَعنيني، في المرتبة الأولى، أمران: مقام الفرد الغربي الذي نضج فاستحصل على أفضل الممكن تاريخيّاً من حقوقه الأساسيّة، ومنزلة المدينة الغربيّة التي تطوّرت تشريعيّاً ومؤسّساتيّاً فأضحت الدولة الحاضنة الجامعة الحامية. لا يمكننا أن نفهم الغرب، أي أوروبّا وأميركا الشماليّة وأستراليا ونيوزيلندا، ما دمنا نؤوّل تأويلاً خاطئاً فرديّة الإنسان الغربي الذي يتمسّك بذاتيّته قبل أي أمر آخر. فالذات الفرديّة أصلُ الأصول في الوجود، وفي الحياة، وفي الاجتماع. لذلك تنبثق منها كلُّ القرارات، وإليها تعود كلُّ المرجعيّات، وفيها تنضج كلُّ المسارات. غير أنّ هذه الفرديّة لا تعني بالضرورة الانفراديّة والانعزاليّة والتقوقعيّة. ليس في شرائع الأرض كلّها من تشريعٍ يتدبّر المسؤوليّات القانونيّة الفرديّة والجماعيّة تدبّراً عاقلاً حصيفاً متّزناً كما يتدبّرها التشريع الغربي الذي استفاد من خصوصيّات الأمم الآخر واستلهم نُظُمَها واستدخلها في شرعة حقوق الإنسان الكونيّة. وليس مَن ينظّم العمل الجماعي كما ينظّمه أهلُ الغرب في مؤسّساتهم ومنظّماتهم وجمعيّاتهم ومنتدياتهم ومحافلهم. ليس الغربيّون بأهل التوحّش الانعزاليّ، بل صانعو العمل الجماعي الناجح، بخلاف كثيرٍ من أهل المجتمعات الآسيويّة والأفريقيّة المنتشين بسلطانهم الفردي المطلق. لا بدّ لنا من الاعتراف بأنّ مقام الفرد الغربي أتاح للمجتمعات الغربيّة أن تنهض نهضة ثقافيّة علميّة تقنيّة اقتصاديّة جعلتها في الطليعة. ومع ذلك، يُقرّ أهلُ الغرب أنفسُهم بأنّ التطرّف في الفرديّة يُفضي إلى عزلة الإنسان وتفكّك الأواصر الطبيعيّة العيليّة والروابط الوجدانيّة العاطفيّة. في جميع الأحوال، يعتقد إنسانُ الغرب أنّ الحرّيّة الفرديّة الذاتيّة قيمة أخلاقيّة عظمى لا يجوز التخلّي عنها على الإطلاق.
أمّا مقام الدولة في المدينة الإنسانيّة الغربيّة، فتطوّر تطوّراً مذهلاً جعل الناس يستجيرون بها في كلّ قضايا معيّتهم الاجتماعيّة. ذلك بأنّ التشريع الغربي الشامل في الأحوال الشخصيّة وأخلاقيّات الحياة والطبّ واقتصاديات المعرفة وتقنيات المعلوماتيّة، وما إلى ذلك من حقول إنتاجيّة حيويّة، جعل الفرد يشعر بالاطمئنان الوجودي يرسّخه الاستقرارُ السياسي المبني على تطوّر الأنظمة الدِّيموقراطيّة، ويعزّزه الرخاءُ الاقتصادي الذي واكب نهضة المجتمعات الغربيّة. من جرّاء هذا كلّه، اتّضح أنّ الدولة الغربيّة المعاصرة تستطيع أن تُعفي الإنسانَ الفردَ من التواكل العيليّ، أو حتّى العشائريّ، الذي ما برح سائداً في المجتمعات الآسيويّة والأفريقيّة الأخرى. مظاهرُ شتّى من الحياة الاجتماعيّة الناشطة عندنا مقترنة باختلالات الانتظام العربي العامّ وبضرورات التعويض التضامني المنقذ من الهلاك.
أعلم علمَ اليقين أنّ التضامن العيلي اضطرب في الغرب بسبب من تفاقم الحرّيّات الفرديّة. ولكنّ هذا الاضطراب لا يعني أنّ الغرب لا يشعر بضرورة المحضن الأسري الدافئ. أعرف معرفة دقيقة أنّ الحرّيّة الأخلاقيّة شبهُ مطلقة في المجتمعات الغربيّة. بيد أنّ التخفّف من الرقابة الأخلاقيّة لا يدلّ على انحطاط الأخلاقيّات الغربيّة. أعتقد في هذا السياق أنّ معايير السقوط الأخلاقي والرفعة الأخلاقيّة ملتبسة تتغيّر بتغيّر المرجعيّات الثقافيّة. إذا كان الخفَر والحشمة والتعفّف من سمات الإنسان الشرقيّ، فإنّ الشفافيّة والصراحة وجرأة التعبير واستثمار فضائل التعرية النقديّة الذاتيّة الوجدانيّة الفكريّة، حتّى الجسديّة أيضاً، من ميزات الإنسان الغربي وخصائصه التي تضمن له النجاح والتألّق الابتكاريّ.
إذا عرضت المرأة جسدَها العاري في الإعلان الغربيّ، فهذا لا يعني أنّ نساء الغرب مومسات وأنّ رجال الغرب فاجرون، بل يعني أنّ قيمة الحرّيّة الفرديّة تعلو قيمة الحشمة الجسديّة. هل يصعب فهم هذا الاختلاف في تقويم حقائق الحياة حتّى تُمسك الألسنة عن الاتّهام المتهوّر؟ ما ذنب الذين يفضّلون الشفافيّة في المسلك، والإفصاح السليم عن مطاوي النفس، والتعرية الكيانيّة الصادقة أمام الملأ؟ أفلا يليق بنا أن نعتمد بعضاً من المعايير الأخلاقيّة السليمة، عوضاً عن التلطّي والتستّر بالمبادئ والتظاهر العلني بالاعتصام الكلامي المحض بأحكام الأخلاق، في حين أنّ الباطن يناقض الظاهر، وأنّ الخلوة الفرديّة والجماعيّة في المجتمعات المقهورة اجتماعيّاً غالباً ما تنطوي على أشكالٍ شتّى من الانحراف الجنسيّ؟ للغرب انحرافاته، ولنا انحرافاتنا. والعبرة في تجاوزها تجاوزاً يخدم قضيّة الإنسان الجوهريّة.
يُحزنني أن نسارع إلى تعرية الغرب ونغفل عن تعرية ذواتنا. أفهم الأسباب التي تجعل مجتمعاتنا العربيّة تنتقد الغرب في كلّ شاردة وواردة؛ إذ إنّها عانت الأمرَّين من استبداده. بيد أنّ التاريخ دورة سلطانيّة عبثيّة يتداول النفوذَ فيها مَن يفوز بالاقتدار الأعظم. يمكننا أن ننتقد الغرب ونقبّح أفعاله الاستعماريّة. ولكنّه لا يحقّ لنا أن نتغافل عن سلسلة التضامنات الإنسانيّة العابرة الثقافات، وقد أنشأها الغرب تارة من أجل تعزيز استعماره، وتارة من أجل تعزيز مقام الإنسانيّة وحسب. أذكر في الأزمنة المعاصرة بضعاً من المؤسّسات الإنسانيّة العالميّة التي أظهرت لنا جميعاً قيمة الاقتناع الأخلاقي الذي يزيّن وعي الإنسان الغربي الحرّ: الصليب الأحمر الدوليّ، وأطبّاء بلا حدود، وإعلاميّون بلا حدود، والمؤسّسات القانونيّة الدوليّة على تنوّع مُسمّياتها، ومنها على سبيل المثال منظّمة العفو الدوليّة، ومنظّمة الصحّة والعمل والتغذية والتربية، وما شاكل ذلك. قد تتلاعب القوى النافذة بهذه المنظّمات، ولكنّ أصل نشوئها مرتبطٌ بالمقصد الأخلاقي الشريف. ويبدو اليوم أنّ التلاعب بضمير المنظّمات العالميّة لم يعد يقتصر على الأنظمة الغربيّة، بل طفقت الدوَل الآسيويّة والعربيّة المقتدرة ماليّاً تشارك المتلاعبين في مناوراتهم المفضوحة.
أعود إلى النعوت التي نرشق بها الإنسانَ الفردَ في المجتمعات الغربيّة، ومن أبشعها فردانيّتُه وانعزاليّتُه وجفائيّتُه الطباعيّة. ولكن هل نسينا أنّ عوامل الطبيعة لها تأثيرٌ بالغٌ في نحت الطباع الإنسانيّة؟ من الحقائق الأنتروبولوجيّة أنّ الوجدان يضطرم بأشعّة الجنوب الدافئ، ويتجمّد بصقيع الشمال القارس. كيف لنا أن نحادث جارنا في ضباب لندن الذي يمنعنا من رؤية إصبعنا، في حين نَنعم في بغداد بدفء الشمس يدفعنا إلى الخروج من المنازل والتعاشر في الأحياء والشوارع؟ حتّى في قلب القارّة الأُوروبّيّة، يعجب أهلُ الشمال المتحفّظون، الخشنو المسِّ، المستأنسون بالوحشة، من مسلك أهل الجنوب البشوشين، الجميلي المعشر، اللطيفي المخالطة، اللذيذي المفاكهة. أفليس في ظلمة السماء ما يفاقم تَعبُّس الوجه وتجهُّم الطلعة وانقباض الروح؟ وفي صفاء الأفق ما يعزّز بشاشة الطلعة وإشراق المحيّا وانبساط الصدر وطلاقة اللسان؟ غير أنّ الأخلاق ليست بالعذوبة الكلاميّة الجوفاء، بل بالحسّ التضامني الإنساني العميق.
أوّلُ ردّ فعلٍ تفطن إليه الشعوبُ المقهورة، في ظلمة واقعها المرير، أن تشدّ الرحال إلى الغرب حتّى تنعم بحرّيّة وجوديّة كاملة، وتتّقي شرور السلطان السياسي الباطش. المظلوم عندنا يستجير بالغرب ليحميه، وأيضاً الأصولي منّا يلجأ إلى الغرب، والمخلوع عن عرشه السياسيّ، والمنتفع الطفيليّ. ولكن ثمّة فئة أخرى من ذوي الطموح العلمي والرغبة في المغامرة الحضاريّة تروم أن تختبر الحياة في الغرب اختباراً مختلفاً. فإذا بها تضرب في الأرض بحثاً عن بيئات ثقافيّة مختلفة تهبها إحساساً كيانيّاً آخر، وتذوّقاً وجوديّاً فريداً يستثير في النفس الإنسانيّة طاقاتٍ دفينة من العزم والاستمتاع والإبداع. وحده مثل التلاقي الحضاري الرفيع هذا يجعلنا نكتشف القيَم الأخلاقيّة التي يزخر بها وعي الآخرين. ومن ثمّ، ينبغي لنا أن نحرص على استثمار أفضل ما في الغرب من قيَم أخلاقيّة سامية حتّى نعزّز فينا ما يبدو لنا على ضعف وانحلال وتقهقر. إذا سألَنا الإنسانُ الغربي عن طبيعة إسهامنا الأخلاقيّ، كشفنا له عن كنوزَ الحضارة التي نحيا فيها، ولكن من غير أن نقبّح عليه معتقداتِه وتصوّراتِه وأفعالَه، وقد ضللنا ضلالاً مبيناً في إدراك جوهرها. خلاصة القول، أن الغرب لا يحتاج إلى مَن ينتقده لكي يخرج من سباته. قبل أن نُقبل عليه بالتقريع، أكبّ يستنطق حضارتَه أسرارَها الدفينة وخلفيّاتِها المحجوبة حتّى يقوى على إصلاح ذاتيّته. فالحضارة التي تنتقد ذاتها لا خوف على أخلاقها.
*مفكر لبناني



الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!