منذ عقود من الزمن، يلاحظ كثير من المسافرين المصريين إلى بريطانيا ظاهرة ضابط الجوازات من الأصل الهندي الذي يستقبلهم في مطار هيثرو. كثير منهم لم تعجبهم هذه الحال، كانوا يفضلون وجود «بريطاني حق» في انتظارهم. هناك بالطبع وجهة نظر مقابلة تقر بإيجابية ظاهرة موظفي الجوازات من أصول مهاجرة، فالمقصود منها ربما الترحيب، من خلال الإيحاء بأن المسافر يصل إلى مكان يتقبل الآخر وإمكانية اندماجه بالكامل، إلى درجة منحه قرار دخول الناس إلى البلد الذي تبناه. لكن وجهة النظر هذه لم تقنع كثيرين من المصريين المستائين.
ثم جاء على قمة الحكومة البريطانية نفسها رئيس من أصل هندي (ريشي سوناك)، وقبل ذلك رئيس أميركي من أصل أفريقي (باراك أوباما)، الظواهر التي لا يسهل استيعابها في مجتمعات يتصور معظم الناس فيها هويتهم على أسس قومية مرتبطة بالعشيرة أو الملة الدينية. ثم أتى منظر الفريق الفرنسي في كاس العالم، المكون تقريباً كلياً من أجيال من المهاجرين الأفارقة، ليصدم المصريين؛ على الرغم من أن بلادهم تقع في أفريقيا. وعلى الرغم من أن كثيراً من لاعبي الفريق الفرنسي «يشبهوننا»، فإن بعض التعليقات هنا عن الأصول «الغريبة» للمنتخب الفرنسي لم تختلف جذرياً عن التي يطلقها اليمين المتطرف في أوروبا، والذي ينظر إلى معنى الانتماء القومي من منظور ثقافي مشابه.
لكن هناك طريقة أخرى للنظر إلى الجماعة القومية، طريقة تسمح بقدر كبير من التعددية في ظل عقد اجتماعي بانٍ للهوية. وهذه نشأت بداياتها الفكرية منذ قرون، حتى وإن لم تتضح تداعياتها بالكامل في الغرب إلا خلال عقد الستينات؛ أي بالتحديد الفترة التي احتدت واكتملت خلالها عزلة معظم العرب عن العالم المعاصر، وبداية السريان الصريح في الاتجاه المعاكس للتطورات الطارئة على الغرب الليبرالي، مع اكتمال سيطرة التسلط السياسي والخطاب القومي القبائلي ثم الأصولي الديني. فاتسعت سريعاً خلال عقود معدودة الفجوة التي كانت قد بدأت في التبلور منذ قرون.
الأفكار التي فاتتنا بالكامل طوال تلك القرون (إلا ربما خلال حقبة محدودة، سرد جوانب منها ألبير حوراني في كتابه الشهير عن «الفكر العربي في العصر الليبرالي»)، بدأت في التكون في بريطانيا القرن السابع عشر، تزامناً مع اندلاع الثورة العلمية. ويمكن إرجاع تبلورها تحديداً إلى مؤلفات الفيلسوف جون لوك عن نظم الحكم، وعن التسامح، والذي كان كذلك فيلسوفاً مهماً لطرق المعرفة العلمية، وصديقاً مقرباً لنيوتن الذي شكلت اكتشافاته البداية «الرسمية» للثورة العلمية: فإذا كان من الضروري إرجاع بداية تلك الثورة لأحداث بعينها، فيجب أن يكون على رأسها نشر نيوتن كتابه عن «الأسس الرياضية للفلسفية الطبيعية» الذي سرد فيه قوانينه للحركة والجاذبية. أما الحدث الآخر الأهم فيجب أن يكون نشأة الجمعية الملكية التي لعب نيوتن فيها دوراً مركزياً، وكان رئيسها قرابة ربع قرن.
من الناحية الفكرية كان لتبيين نيوتن أن العقل البشري يمكنه استيعاب معطيات العالم الطبيعي -في قوانين عامة تربط بين سقوط الأجسام على الأرض وحركة أجرام الكون- تداعيات ثورية ذات عمق ونطاق واسع: فالعقل القادر على مثل هذه الأشياء يجب ألا يكبته ميراث ثقافي تقليدي، ليس من الواضح أنه يصمد أمام النقد، أو أمام المقارنة بما يحدث فعلاً في العالم.
هذا المنطلق يجسد نقيضاً للنظرة التقليدية للعالم التي تحاول إخضاعه لثوابت لها «قدساتها» المتوارثة لدى الجماعة، وتشكل جزءاً مهماً من هويتها. أما من الناحية الاجتماعية المباشرة، فجسدت الجمعية الملكية نواة ومثالاً ونموذجاً للمجتمع المنفتح الذي يقبل الجدل، ويتشكك ويتحقق في كل شيء عن طريق النقاش المستند -فقط- إلى النقد المنطقي والمقارنة بمعطيات الواقع، بصرف النظر عن أي «ثوابت» مسبقة.
من ناحية أخرى، أدت تداعيات التطورات التقنية للثورة العلمية، في مجالات مثل التواصل والمواصلات، إلى تفاقم حجم التعامل بين الأغراب (على عكس الأقارب وأهل القرية الواحدة). هذا التفاقم (كما شرح أمثال إرنست غيلنر بالتفصيل)، أدى بدوره إلى تبلور الهوية القومية الحداثية، المبنية على التركيز على عقد اجتماعي ينظم التعاملات عن طريق لغة اجتماعية توافقية؛ مستندة إلى ما هو مشترك، وملخصة في مبادئ عامة يتفق عليها الناس، كأساس لهوية الدولة ونظامها السياسي، بصرف النظر عن اختلاف خلفياتهم ومللهم.
هذه المبادئ والحقوق الإنسانية العامة أخذت صوراً أكثر دقة وصرامة خلال القرن الثامن عشر الفرنسي، الذي يعرف أيضاً بعصر التنوير النابع عن الثورة العلمية. ثورة نيوتن أثرت في فرنسا بعمق؛ عملية سرد تداعيات نظرياته الرياضية قادها فرنسيون عظماء، مثل لابلاس، ولاغرانج، ودالومبير، وبعضهم كانت له إسهامات فلسفية وسياسية مهمة، ناهيك عن دور أمثال فولتير الذي تأثر بعمق بنيوتن وإنجازاته، وما نتج عنهما من تطورات اجتماعية وسياسية في بريطانيا.
ظل العالم العربي معزولاً عن تلك التطورات، حتى جاءت إلينا في صورة الحملة النابليونية التي جسدت تداعيات الثورة الفرنسية الفكرية، والتي اصطدمت في مصر بعنف مع واقع فكري واجتماعي مغاير تماماً.
صاحب نابوليون في تلك الحملة كوكبة من العلماء. ويمكن ذكر أمثال مونغ وأراغو، وبالذات جوزيف فوريه الذي قاد البعثة العلمية المصاحبة للحملة، ونظم عملية إتمام موسوعة «وصف مصر» وكتب مقدمتها (وهي عبارة عن كتاب كامل)، بالإضافة لكونه أستاذ شابوليون الذي نجح في فك شفرة اللغة المصرية القديمة.
فوريه الذي عمل أيضاً حاكماً لإحدى مقاطعات مصر، كان من أعظم علماء الرياضيات التطبيقية (والفيزياء)، وكان يرى مثل زملائه أنه في بعثة «تنويرية»، تنقل إلى مصر منطق وطرق العلم والفكر العقلاني، في سبيل «إنقاذها» من أوضاعها «المحزنة». لكن عندما اصطدم ذلك مع واقع أن كثيراً من المصريين (خصوصاً المرتبطين بمؤسسات دينية تقليدية)، لم يتقبلوا أهداف هذه «البعثة الحضارية» لم يتردد فوريه في تأييد قمع المقاومة بالقوة.
في مصر، ظلت تداعيات ذلك الصدام التاريخي ممتدة، خلال محاولات التحديث التي تلت الحملة الفرنسية، وخلال وقوع البلاد تحت السيطرة البريطانية، ومع فشل الحركة الليبرالية في ضمان استقرار البلاد واستقلال كامل عن بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى. وكان رد الفعل السلبي، المبني على أساس قومي أو ديني، فيه شبه كبير من مثيله الألماني فيما قبل: بعد الإعجاب الشديد الذي أبداه مثقفو ألمانيا بمبادئ الثورة الفرنسية، انقلب كثير منهم بعد محاولات الإخضاع الفرنسية لبلادهم؛ حين وقف الفيلسوف فيخت في برلين المحتلة يعطي «خطباً للأمة الألمانية»، وملخصها أنها أمة تتمتع بأساس «روحاني» وأخلاقي اسمي خاص بها، ممتد تاريخياً، ومتواصل عبر الأجيال، ومتفوق عن مبادئ «الكونية» العقلانية التي ترفعها فرنسا، بمنطقها البارد الذي لا يراد منه إلا السيطرة على الآخر، ومحو هويته باسم العقل والعلم.
من المعلوم بالطبع إلى أين أدت مثل ردود الأفعال هذه فيما يتعلق بطبيعة القومية الألمانية، وحتى بعد الإصلاحات الدراماتيكية التي طرأت بعد الحرب هناك رواسب للفكر القومي الألماني تجده حتى الآن في قوانين الجنسية (التي تفضل «عودة» من لديه أصل ألماني لكن أجداده هاجروا منذ أجيال، عمن وُلد في البلد واندمج فيها). على الرغم من أن ألمانيا بها عدد مهول من الهاجرين، فلن تجد كثيراً منهم في فريق الكرة القومي، حتى وإن لم يمنع ذلك الجدل في العالم العربي بشأن الفريق الألماني ونبذه، نتيجة تبنيه مواقف جدلية، على الرغم من «تكوينه التقليدي» نسبياً.
في العالم العربي، انعكست نتيجة التمسك بمفاهيم ضيقة للهوية، تتصور الحاضر امتداداً حتمياً لصدامات الماضي ولصراعات ذات طبع أزلي، في أحكام العزلة المدمرة - فكرياً واجتماعياً ومعلوماتياً- التي أدت إلى أزمات مأسوية، أساسها صدام الإرادة بمعطيات الواقع: المجسدة في الفجوة الفاصلة بين التطلع لاستعادة مكان مناسب في العالم المعاصر، يتناسب مع تصوراتنا عن ماضٍ عظيم، وحقيقة أن لا مجال لذلك في ظل نبذ الأسس الفكرية المحركة له منذ ثلاثة قرون، ومع استمرار استنزاف الموارد باستيراد منتجات الفكر العلمي في ظل العجز المستمر عن استيعاب أسسه النظرية في سبيل توطينه.
لقد أظهرت بطولة كاس العالم الأخيرة كثيراً من الفجوات الفاصلة بين تصور المنطقة العربية للعالم، وما هو سائد في المجتمعات المنفتحة في صور مبسطة، قد تبدو سطحية؛ لكن أساسها يتجذر في مناطق أعمق، تتعلق بأزمتنا التاريخية في العالم المعاصر.
* كاتب مصري
هل الحاضر امتداد حتمي لصدامات الماضي؟
هل الحاضر امتداد حتمي لصدامات الماضي؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة