هزبر محمود: أصبح الشعر حاجة في زمن التوحش

الشاعر العراقي الفائز بجائزة سوق عكاظ.. ورث عن التربة العراقية سحنتها المغموسة بالألم والمعاناة

الأمير خالد الفيصل يعلن أسماء الفائزين بجائزة عكاظ (الشرق الأوسط})  -  هزبر محمود
الأمير خالد الفيصل يعلن أسماء الفائزين بجائزة عكاظ (الشرق الأوسط}) - هزبر محمود
TT

هزبر محمود: أصبح الشعر حاجة في زمن التوحش

الأمير خالد الفيصل يعلن أسماء الفائزين بجائزة عكاظ (الشرق الأوسط})  -  هزبر محمود
الأمير خالد الفيصل يعلن أسماء الفائزين بجائزة عكاظ (الشرق الأوسط}) - هزبر محمود

بهدوئه المعتاد، وسكونه العذب، يخفي الشاعر العراقي الفائز بجائزة سوق عكاظ لهذا العام هزبر محمود غيوما محملة بالحزن والمطر. سجّل حضورا متميزا في فضاء الشعر العربي، وورث من التربة العراقية سحنتها المغموسة بالألم والمشحونة بالمعاناة.
كان لديه حضور بارز في مسابقة «أمير الشعراء»، لكّنه سجل فوزا أخيرا بحصوله على لقب شاعر عكاظ لهذا العام.
هزبر محمود أساسا مهندس مدني، وخريج كلية الهندسة في جامعة الموصل، من مواليد محافظة ديالى، ويعيش ويعمل في شركة «غاز الشمال» في كركوك المحافظة التي تمتزج فيها الثقافات العراقية. وهو عضو في اتحاد الأدباء العراقيين، له مجموعتان شعريتان: «أثر على الماء»، و«تركتُ الباب رهوا»، ومجموعة ثالثة تصدر قريبا «أعشاش لطيور الأربعين».
أجرينا الحوار التالي مع الشاعر العراقي هزبر محمود بعد فوزه بجائزة «سوق عكاظ»..
* ماذا يعني لك الفوز بجائزة سوق عكاظ؟
- الفوز بجائزة سوق عكاظ بالنسبة لي ينقسم إلى نجاح من شقين، الأول لي شاعرا، والآخر لي إنسانا، أما شاعرا فهو الرئة التي شرفتني بها المملكة العربية السعودية في هذه النقطة من ماراثون القصيدة، فجَدَّدتْ الطاقة والنفس الذي سيجعل المواصلة ذات طبيعة مختلفة كونها تستند إلى تأييد تلك الصحراء التي صنعتْ بامتدادها وحرِّ رملها أنفاس رئات فحول الشعراء عبر الأزمنة.
وهذه الرئة ستمنحني شهيقا من دون حشرجة، يوفِّر لي الهدوء الذي يجعلني أصغي لذاتي من جديد، فأسمع بكل وضوح تلك الألحان التي عادةً ما تتداخل وتصبح صعبة التمييز بعد المسافات الطويلة تحت شمس القوافي اللاهبة في جوٍّ فقدنا فيه مظلة النقد العربي إلا قليلا، وبذلك هي تحمل بشارة القادم أكثر من حملها مكافأة الماضي.
أما نجاحي بها إنسانا فهو هذه التهاني من الأحبة الذين وفَّرتُ لهم الفرح - الأسرة، الأقارب، الأصدقاء - حتى الذين لا يعلمون شيئا عن الشعر كان يكفيهم مجدا أن يسمعوا اسمي يلفظ ثلاثيا من شفتي الأمير خالد الفيصل، فعلموا بذلك أن الفوز كان ذا قيمة معنوية كبيرة وأن ذلك المسمى فصيحا، المجهول بالنسبة لهم، قد وجد صداه في قلوبٍ تعوَّدتْ أن تواجه الإبداع بالتشجيع من دون تمييز أن يكون هذا الإبداع محليَّا أو عربيَّا، فالمملكة تملك من الأبوَّة العربية والإسلامية ما يجعلها تعتبر كلَّ مبدعٍ ابنا لها وتعتبر إنجازه إنجازا للعربية سواءً كان هذا المبدع في مكة أو كركوك العراقية.
* لستَ غريبا عن المنابر الشعرية، لكّنك تقف قريبا على منبر كان يقف فيه النابغة الذبياني ليجيز الشعراء.. ماذا يعني لك ذلك؟
- منذ اللحظة التي قررت الاشتراك بها في المسابقة وأرسلت بها نتاجي لسوق عكاظ شعرت بأن واحدا من الذين سيقابلونه بميزان حكمهم هو النابغة الذبياني، ميزان الذهب ذاك الذي يحمل الكثير من المراتب العُشرية من أجل دقة الحُكْمِ بين المتقارب من الإبداع. لقد قال أحفاد الذبياني كلمتهم التي منحوني بها الثقة. أما وقوفي على منبره فسوف يكون تحليقا عبر التاريخ والحاضر والمستقبل، وإذا اتفقنا على الماضي والحاضر فقد تسألني لماذا المستقبل؟ فأقول لأني متفائل بأن هذه الجائزة ستستمر في قادم القرون، وستكون أسماؤنا حاضرة في الأجيال التي ستمر على منبرها بعد أن تغيب أجسادنا، لذلك لن أكتفي بالتحليق بالماضي والحاضر حين أكون على منبره.
* مِمَ تتغذى قصائدك.. ما هي الروافد التي تستقي منها قصائدك؟
- قرأتُ الكثير من الشعراء القدماء والحاضرين كما قرأ الشعراءُ الشعراءَ، لكنِّي أختلف أنني قرأتُ الشعراءَ بقلِّةٍ وبحذر، كنتُ أقرأ الشعراءَ بعقل المهندس وليس بعقل الشاعر، وهذا جعلني أفهم مكانة الشاعر وليس شعره، لذلك بقي شعري بمنأى عن أن يكون نسخة من أحد.
قد لا أكون بحاجة لسرد هذه المقدمة لدى القارئ العادي، لكن القارئ الشاعر يعلم لماذا أتيتُ بها.
* كيف نشأت تجربتك الشعرية.. بمن تأثرت؟
- الشعر في العراق هو يوميات الناس رغم طغيان الشعبي الذي هو بالتالي شعر، فأنت بمجرد أن تمازح صديقا أو تهجره لفترة أو تقصر بحقه يرد عليك بمقطع شعري، وأنا بدأته إلقاءً منذ دخولي المدرسة، إما بإلقاء النصوص الموجودة في المنهج التعليمي أو القصائد الشعبية التي كانت تملأ الشوارع أثناء الحرب مع إيران، هذا الأمر جعلني أعشق المنصةَ باكرا ورسَّخ في عيني مشهد عيون الناس وهم صامتون ينتظرون مني أن أقول، لم أكن أتوقع أن أكتبه، فأنا كنتُ أرى الناس الذين يكتبون الشعر ليسوا من أهل الأرض فهم حتما جاءوا من كوكب آخر أو أنهم بشرٌ مثلنا، لكنهم تعرضوا لصدمة بنوع من الموجات التي لم يكتشف ماهيتها العلم بعدُ، حتى كبرتُ فلم يعدْ يكفيني الشعر الشعبي ولا كلُّ الشعر المكتوب، فظهرتْ الحاجة أن أعبر أنا عن نفسي وتلتْ المحاولات حتى وقفت على ذاتي.
لن أقول إني تأثرت، فكما قلت لك في السؤال السابق إنني قرأت الشعراء بحذر خوف التأثر، لكني أحببتُ شعر معظم شعراء الخط الأول من الماضين والحاضرين. وميَّزتُ السياب في نصوصه التي كتبها ليس بحثا عن الكم الشعري.
* أين يقع العراق ضمن مصادر إلهامك الشعري؟
- العراق كلُّ شعري، بذلتُ جهدا كبيرا حتى جعلت بعض قصائدي تخلو منه، رغم ذلك أشعر بأن قصيدة العراق الحقيقية لم أكتبْها بعدُ، في مرحلةٍ من شعري كنتُ مريضا بالعراق، لا أعرف كيف يمكن أن يُكتب بيت شعرٍ لا يكون ملهمه العراق، مشكلة العراق في شعري أنه الأب، قسوته توجيه وطاعته بِرٌّ والتمرد عليه عقوق، كنتُ أشجِّع الحبيبة أن تتجلى لتأخذ من سطوة العراق في القصيدة فيغيِّبها العراق من حيثُ لا أشعر، وإذا أردت مثالا حيَّا من شعري على ذلك فهو الأبيات الأولى من قصيدتي (آخر الألحان) التي بدأتُها غزلا فلم أعلم كيف خطفها العراق:
«حِضْنِي عَتيْقٌ وﭐحْتِجَاجُكِ مُكْلِـفُ
ولِسَانِي الصَّحْرَاءُ وﭐسْمُكِ مُتْرَفُ
وَوَرَاءَ جُرْحِي أَلْفُ جُرْحٍ، مَا لَهَا
نفس الأَذَىٰ.. فَٱحْتَارَ ماذا يَنْزفُ
وَالسَّاكِنُونَ بِرَاحَتَي قَبَائلا،
بِهِمَا قَضَوْا عُمُرا، عَلَيْـهِ تَأَسَّفُوا!
وَتَنفسوْني في الحُروبِ، فَصِرْتُ
حَفْرا في الـهَوَاءِ، وآيَةً لا تَهْدفُ!
فالجرح هنا العراق والساكنون براحتي أهله والحروب حروبه.
* هل لا يزال العراق ملهما للشعراء.. هل لا تزال القافية العراقية تُشوى على جمر المعاناة؟
- العراق لا يقال عنه «لا يزال» - مع حبي لك - كذلك الأمر مع أي حضارة عظيمة، لأنَّنا بذلك نقيس عمر العراق على أعمارنا أو أعمار القريبين من أجدادنا وأولادنا، وهذا قياس غير منطقي؛ لأن هذه الحضارة حتى إذا غابتْ عن الإلهام لجيل أو جيلين من الشعراء بسبب ظروف اجتماعية أو خلل في منظومة الزمن فإنه سيعود ناصعا في الأجيال التي تلي، لذلك هو الملهم الخالد لشعرائه، أما جمر المعاناة فمعك حقٌّ، يبدو أنه القدر الذي يلازم القافية العراقية منذ العراق وحتى يشاء الله. ما لفت نظري في المنابر الشعرية العراقية هو أن القاعات تضج بالتصفيق لهذه القافية وبطون الكتب كفلتْ لها أن تكون المحطة الأكثر نصوعا، وأي بعد عنها يعدُّ بُعدا عن كمال الشعرية وأشدُّ القصائد خلودا هي التي تكلمت عن الألم.
* كتبتَ قصيدة «غريب آخر على الخليج»، مثلت امتدادا لقصيدة الشاعر بدر شاكر السياب «غريب على الخليج»، ما الذي يجمع بينك وبين السياب؟
- يا سلام!.. ما أحببت سؤالا كما أحببتُ هذا السؤال، والسبب عبارته الأخيرة التي جمعتْ بيني وبين السياب! قصيدة «غريب آخر على الخليج» واحدة من قصائد ديواني «أثرٌ على الماء» التي قرأتها في مهرجان مؤسسة البابطين في الكويت عام 2013 وأحدثت تفاعلا كبيرا لدى جمهور المهرجان.
ما يجمعني بالسياب في هذه القصيدة - ظاهرا - أننا عراقيان في الكويت، ذاك البلد الرائع الذي احتضن السياب مريضا واحتضنني ضيفا، فأنا حين وجدت السياب تكلم بنصه عن حزن عراقي وحزن سيابي حدثا معه أردت الاستفادة من الطاقة التي تركها نصّ السياب في الأدب العربي، فأخبرتُ بنصي عن حزن عراقي آخر حدث معي، هذا ظاهرا، أما ما يجمعني بالسياب عمقا فهو قولاه الشهيران في هذا النص الأول «الشمس أجمل في بلادي من سواها» والثاني «والموتُ أهون من خطية».
* في قصيدتك «غريب آخر على الخليج» تطفو هموم الذات ووجع الاغتراب وأنت لم تكتبها في غربة..
- نعم، للأمانة وللتاريخ أنا لم أكن مغتربا في الكويت بل كنتُ ضيفا عزيزا مُحتفى به، كان الكرمُ فوقَ الوصف وكنتُ بين أهلي، لذلك قلت في القصيدة:
تَجِيءُ بِصَبْرٍ فَوْقَ حَاجَةِ غُرْبَةٍ
إلى غُرْبَةٍ، كُلُّ الذينَ بِهَا أَهْلُ
تَرَى فِي الخَلِيْجِ، الآنَ، قَارِبَ: «مَرْحَـبَـا»
بُمَوْجِ شِفَاهٍ، لَيْسَ يُدْرِكُهَا عَقْلُ
وَأَنْتَ جَلَبْتَ الصَّبْرَ، صَبْرَكَ كُلَّهُ،
فَلَيْتَكَ قَدْ أَبْقَـيْتَ صَبْرَا لِمَنْ ظَلُّوْا
* الحزن سمة الشعر العراقي الجنوبي، لكنك أيضا مسكون بهذا الحزن، فكل من يقرأ قصائدك يجد تيمة الحزن ملازمة، كيف تفسر ذلك؟
- عاش العراق من جنوبه إلى شماله ذات الحزن عبر عصوره، ولولا عدالة توزيع هذا الحزن على مساحته لما وصل للقرن الميلادي الحادي والعشرين واسمه العراق بخريطته الحاليَّة. هو انتهى هكذا بعد أن قطع سبعين قرنا في التاريخ، وهذا دليلُ على أن هؤلاء الناس كان حزنهم واحدا فوحَّدَهمْ، من خلال مشاهدتي للعراق رأيت الحزنَ أقوى عناصر الوحدة للشعوب ولا أعني وجود الحزن بالطبع، بل أعني عمق لونه حتى وإن كان فاتحا. نحن لا يهمنا دين أو قومية، هذا الجار الذي يبكي على نفس ما أبكي عليه أو يفرح لما يفرحني، والدليل ما يحصل الآن من مطالبات في بعض مناطق بالانعزال حين اختلف الحزن.
الذي أعرفه أن القصيدة، لم يختلف حزنها حين حزن العراق ولن يختلف فرحها إذا فرح العراق.
* أين تجد نفسك في فضاء الشعر، هل تميل لجنس أو شكل أو قالب محدد، أم تطلق العنان للقصيدة تصنع قالبها كيف تشاء؟
- أجد نفسي في العبارة التي اقتلعت الإحساس من ذاتي كاملا وأنزلته غير منقوص على الورقة، تلك العبارة التي لا تقبل تبديل كلمة مكان كلمة ولا حرف مكان حرف، وأي تبديل سيجعلها أقلَّ إشراقا. كان يؤسفني دائما أن السامع أو القارئ لم يعِ الفرق بين قلم الرصاص الذي لا يكتب في كل مرة إذا لم يتحمَّل ألم المبراة وبين قلمٍ نسي ألم المبراة (والشاعر لا بدَّ أن يكتب بقلم الرصاص)، لكنَّ «عكاظ» فهمتْ وهي ستجعل الآخرين يعيدون النظر في فهمهم.
* هل يقلقك تراجع الشعر عن حضوره في المشهد؟
- لا مشهد ثقافيا عربيا بلا شعر، مع اعتزازي بكل الفنون الأخرى، ولكن إذا انسحب الشعر من المشهد العربي يوما فإن الفراغ الذي سيتركه سيكون زيتيا لا يبتلُّ بمطر الفنون الأخرى، مَن يقلق على الشعر في الذات العربية يقلق على طفل من حضن أمه.
* هل لا يزال للشعر دور في عالم مسكون بالتوحش؟
- الشعر وُلدَ في أزمنةٍ كان فيها العالم مسكونا بالتوحش، بل ونستطيع القول إنه وُلِدَ لأنه أصبح الحاجة في زمن التوحش، وُلدَ جنينا جائعا عُريانا فكبر في بيئة هي الأقسى حتى أصبح الشَّاب اليافع الأقوى، واجه طقوسا حملتْ كلَّ أنواع التوحش وقام بدوره فيها، فهل من المنطقي أن يفقد دوره الآن؟



انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية
TT

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

صدر حديثاً عن دار «سطور» ببغداد كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» للمؤلّف السعودي محمد رضا نصر الله، الذي عُرف منذ السبعينيّات إعلامياً اتخذ من الصحف والمجلات والتلفزيون وسيلة للتعبير عن أفكاره ورؤاه.

انفتح عنوان الكتاب على لفظ أصوات وهي تلاحق الأَثر المسموع الذي يصل الآذان جرّاء تَمَوُجات قادمة من مصدر ما ينتمي إلى الأدب المكتوب بجنسيه المعروفين الشعر، والنثر، وما يتناسل منهما من أنواع أدبيّة معروفه، وأنماط، فضلاً عن أصوات الفكر التي تعامل معها المؤلّف بروح الأدب، وخفايا أخرى اتخذت من المجتمع ظواهر حاول المؤلّف نصر الله أن يقف عندها موقفاً يبعده عن أسلوب العرض، ليقرّبه نحو ممارسة النقد، وحضور المساءلة المنفتحة على البيئات الحاضنة للأدب سواء كانت تاريخيّة أم جغرافيّة أم اجتماعيّة أم لسانيّة؛ تلك التي تحيل على مقولات عامرة بالمعنى.

وتفضي قراءة الكتاب إلى الوقوف عند ظواهر ثقافيّة تنتمي إلى ثقافة الوطن العربي جميعه من مشرقه إلى مغربه، وهذا دليل على سماحة الفكر الذي حمله المؤلّف واتساع معرفته بالثقافة العربيّة القديمة والحديثة، بل تجد في الكتاب أشتاتاً من الإحالات التي تلاحق ما في آداب الشعوب الأخرى، ولا سيّما تلك التي لها أثر في ثقافتنا المعاصرة.

من هنا وجدتُ المؤلّف منفتحاً على الأدب العربي من دون أن يشعر بعقدة الانتماء إلى أدبه الوطني، فهو يتحدّث عن الأدب العراقي والمصري والمغربي والخليجي والفلسطيني، والسوري، والسوداني بوصف كلّ منها جزءاً من أدب أكبر هو الأدب العربي بتيّاراته المحافظة المعروفة، ومحاولات التجديد فيه. وبالنظر لسعة حجم الكتاب (449 صفحة)، فإنّ هذه المقالة ستلاحق مضمون الكتاب من خلال النافذة التي رأت الأدب العراقي، واتخذت منه وسيلة للقراءة، والتحليل المفضي إلى بيان ما ودّ المؤلّف قوله فحسب؛ بسبب حجم المقالة وحرصها على عدم الاتساع.

بدءاً لا بد من التأكيد على أن المؤلّف امتلك معلومات مهمّة عن الأدب العراقي مصدرها القراءة، والملاحقة الميدانيّة، والانفتاح الثقافي على أحوال العراق، والمشاركة في قسم من فعّالياته التي كانت علامة في تاريخ الثقافة العراقيّة مثل: مهرجان المربد، فضلاً عن علاقاته المتميّزة مع أدباء العراق ممن رحل إلى دار البقاء، أو ممن يعيش الآن منتجاً للثقافة والفكر، وعندي أنّ المؤلّف في انفتاحه الثقافي على الحياة العراقيّة كان جزءاً من حال الثقافة السعودية في جميع عصورها وهي ترنو صوب بغداد، والكوفة والبصرة، والموصل ليكون لها تواصل تامّ، ورغبة حميمة في جمع الشمل لمن يقرأ ويكتب بحروف لها تاريخها المضيء بعمر آلاف السنين، فهو - المؤلّف - متحسّس لتراب العراق، وروحه منغمرة في مياه دجلة والفرات - بحسب قوله - في إشارة كنائيّة إلى قربه من العراق أرضاً وشعباً، وقد زاره في أوائل الستينيّات كما ذكر، ولي أن أشير هنا إلى أنّ الموضوعات العراقيّة في الكتاب ظهرت مستقلة في مقالات سأتخذها مجالاً للقراءة، فضلاً عن ظهورها مختلطة مع مقالات أخرى لا شأن لها بالعراق لكنّ طبيعة الحديث في المقالة أفضى إلى الإحالة على ما في العراق، مثالها مقالة «صور معهم» التي تحدّث فيها نصر الله عن البحرين، وعن والده، والشاعر المصري أمل دنقل، ثمّ كانت الإحالة على ديوان بدر شاكر السياب «إقبال وشناشيل ابنة الجلبي» المُهدى إلى المؤلّف من غيلان ولد السياب البكر، وقد طوّف الحديث بالمؤلّف إلى استرجاع زيارته إلى جيكور في عام 1979.

اخترت الوقوف الأول عند مقالة «خطى المتنبي الهاربة بين ميمين»، وهي مقالة تابعت إشارة د. عبد الرحمن السديري التي مؤداها أن «بسيطة» التي وردت في قصيدة للمتنبي هي على مرمى من عيون ضيوفه، في إشارة إلى مكانها السعودي المعاصر، وهذه الإشارة أوحت إلى د. عبد العزيز المانع أن يتتبّع خطى المتنبي، فعمل أولاً على تحقيق «المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي» للأزدي، ليتمكّن فيما بعد من تحقيق «قشر الفسر» للزوزنيّ، ولم يكتف بذلك فتناول «الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي» لابن جني فحقّقه، ثمّ عكف على السير على خطى المتنبي من مصر إلى حدود العراق مستعيناً بخرائط المساحة العسكريّة في عشر رحلات بين مصر والأردن وسوريّا، ولم يتمكّن من دخول العراق بسبب سوء الأمن يومها.

رأى مؤلّف الكتاب أن يوسف الشيراوي أصدر قبل المانع كتابه «أطلس المتنبي أسفاره من شعره وحياته»، وهو من الكتب الجليلة التي تابعت رحلات المتنبي الشهيرة، ويعود المؤلّف إلى قرن من الزمن مضى ليقف عند ألويز موزيل الرحّال والمستشرق النمساوي التشيكي الذي عاش أربعة عشر شهراً في قبيلة «الرولة»، مكتشفاً امتداد الصحراء وأهلها، فضلاً عن أنه رافق قوافل «عبدة» و«سنجار» إلى النجف، وقد وقف على موقع الخورنق الوارد في قصيدة المنخّل اليشكري، تاركاً كتباً أخرى في وصف مناطق من العراق تتبّع في بعضها طريق المتنبي الهارب من الفسطاط إلى دمشق، وتبوك والجوف والسماوة والرهيمة ثمّ الكوفة في شرح دقيق متعلّق بالأمكنة.

قام د. عبد العزيز المانع بعشر رحلات منطلقاً من أرض مصر ليصل الأردن وسوريا وشمال المملكة العربيّة السعودية وصولاً إلى حدود العراق، وقد ناقش في تلك الرحلات ذوي الخبرة، وهدفه إثبات رحلة المتنبي الحقيقية على الأرض في كتاب أنيق عنوانه «على خطى المتنبي»، وإذ أنتهي من قراءة المقالة أتساءل ما دلالة لفظ الميمين في عنوانها؟ لعلّه أراد بها مصر والمانع وقد شكَّلا فضاء تلك الرحلة عن قرب.

ووقفت ثانية عند مقالة «أسماء متنازع عليها بين المملكة والعراق»، التي أتى فيها على طبيعة العلاقات الثقافيّة التي ربطت السعودية بالعراق من خلال وقائع ماديّة، وثقافيّة مشتركة بين البلدين من خلال أسماء عاشت في العراق وهي تردّ إلى أصول نجديّة معروفة من أمثال: عبد اللطيف المنديل، وسليمان الدخيل، وسلمان الصفواني، ومحمد القطيفي، وعبد الحسين القطيفي، وعبد الرحمن منيف، ومحمود البريكان، وآخرين، وعندي أن أسماء أخرى ربّما غابت عن المؤلّف بسبب دورها المحدود في الحياة الثقافيّة والسياسيّة، ولا عجب من كثرة تلك الأسماء إذا ما علمنا أن أصل القبائل العربيّة في العراق يردّ إلى شبه الجزيرة العربيّة، وأنّ العلاقة بين الأرضين قديمة قدم الإنسان نفسه.

يممتِ الوقفة الثالثة شطرها نحو مقالة «ما لم تنقله الكاميرا... في حديث الجواهري»، وفيها أماط اللثام عمّا قاله الجواهري خارج حدود اللقاء الإعلامي الذي أجراه معه، وقد كشف المؤلّف عن كرم الشاعر، ومعرفته ببعض العوائل السعودية وأحوالها، وفي لقاء اليوم الثاني بعد المقابلة حاول الجواهري التقرب من السعودية مذكّراً مؤلّف الكتاب بقصيدته التي مدح فيها الأمير فيصل بن عبد العزيز حين زار العراق ممثّلاً لأبيه التي منها:

«فتى عبد العزيز وفيك ما في... أبيك الشهم من غرر المعاني»

تلك القصيدة التي مدح فيها الملك عبد العزيز، والأمير فيصل معاً، وقد نشرت في جريدة أم القرى في الثلاثينيات من القرن المنصرم، ثمّ قدّر للجواهري زيارة المملكة مشاركاً في مهرجان الجنادريّة في 21- 7- 1994.

ووقفت في وقفة رابعة عند «جنتلمانية الاستعمار بين الطيب صالح والجواهري»، وفيها أماط المؤلّف اللثام عن رؤية النقد الآيديولوجي الذي عدّ الطيب صالح أنموذجاً للمثقف العربي المنبهر بحضارة الغرب، والمتمثّل لقيمها الإمبرياليّة من خلال روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، فضلاً عن عدّه منيف الرزاز في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» أنموذجاً للمثقف الثوري المدافع عن قضايا الفلاحين، وكأنّ المؤلف أراد أن يكشف عن مضمر ذلك النقد الذي أثبتت الأيام خطله وهو يعتمد الصراع الذي يختزل العالم بين معسكرين لا ثالث لهما: الماركسي والرأسمالي رافضاً أن يكون الفن من أجل الفن نفسه، وقد استعان برأي الشاعر الجواهري الذي تباكى على عصر الملكيّة العراقيّة في مذكراته رغم معارضته الشديدة لذلك النظام بعد أن تخلّص من أهواء الآيديولوجيا.

وفي الوقفة الخامسة قرأت مقالة «مذكرات الجواهري» التي كان متنها مفاجأة للمؤلف، وقد وعى فيها الشاعر طبيعة الحياة السياسيّة التي عاشها في العراق وخارجه، وقد كتبها نثراً ذهبيّاً صافياً مسبوك العبارة بديباجة تكشف عن أسلوب رفيع، وهو الشاعر المطبوع فكأنه - والكلام للمؤلّف - جمع بين الصناعتين: الشعر والنثر، فقد وجد المؤلّف تلك الذكريات سرديّة صادقة انفتحت على تجربة الشاعر الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة التي لاحق فيها حياة قرن كامل وهو يسبر أغوار الأمكنة بين بغداد والمنافي التي اختارها.

وأخذني الكتاب نحو ريادة د. علي جواد الطاهر في تدريس الأدب السعودي وصناعة معجم مطبوعاته، ففي تلك المقالة سرد المؤلّف حكاية الطاهر الذي نزل الرياض أستاذاً في جامعتها في الستينيّات، فكان عليه أن يلمّ مبكّرا بشؤون الأدب السعودي بدءاً من كتاب «وحي الصحراء» لمحمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير، مروراً بكتابي «شعراء نجد المعاصرون» لعبد الله بن إدريس و«أدب الحجاز» لمحمد سرور الصبان، وانتهاء بما وجد من جرائد ومجلّات تسدّ حاجة قلمه، حتى قدّر له الاجتماع بأهمّ أدباء السعودية من أمثال: حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، وعبد الله بن إدريس، وقد طرح عليهم فكرة مشروعه الموثّق لتاريخ النشر في البلاد في معجم يعنى بالمطبوعات السعودية، فكان له أن بدأ بنشر أجزاء من ذلك المعجم في مجلّة العرب التي أحبها أولاً، ثمّ طوّر فيما بعد تلك المقالات كتاباً مستقلاً، فكانت للطاهر يد بيضاء في تاريخ الثقافة السعودية، وليس هذا بالغريب على شخصيّة الطاهر التي كانت دائمة الحضور ثقافيّاً بعيداً عن الإقليميّة والنظر الذي يضيقُ بالمكان.

ووجدتُ المؤلّف في «أيها العراقي هلَّا خرجت من مزرعة البصل؟» ينادي بصوت عالٍ العراقي المعاصر الذي يريده أن يخرج من دائرة الزعامة القاتلة التي يرى فيها نفسه كبيراً في ظل تعدد رؤوس الكبار؛ تلك التي ترى في نفسها ما يراه هو، وقد أحال على قصيدة الشاعر العراقي علي الشرقي «مزرعة البصل»، التي فضح فيها الرؤوس الأولى في أول عهد الحكم العراقي الوطني، وهي تتشابه وحجم رأس البصل!، يبدو أن التاريخ يعيد بعض أنساقه المضمرة كي تكون ظاهرة للعيان، فكانت وقفتي السابعة مع تلك المقالة.

وكانت الوقفة الأخيرة عند مقالة «الجاحظ يحذّر العرب»، التي فضح فيها مبكّرا الخصومات بين العرب والشعوب الأخرى، وبين العرب أنفسهم، وكأنّ المؤلف أراد التأكيد على أن الحياة العراقيّة المعاصرة ترفض رفضاً كليّاً الصراعات القوميّة، والإقليميّة، والقبليّة في ظلّ مجتمع حديث متسامح تتنوع في مقاماته الثقافة، وتتوزّع لتكون في النتيجة وجهاً من وجوه تسامح الإنسان مع نفسه والآخر.

إنّ كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» كتاب ثقافة حاول أن يقرأ عدداً من الموضوعات التي تشمّ من متونها رائحة الأدب بمفهومه الذي يتماس وطبيعة المجتمع العربي، وهو يتساوق والدعوات التي تحيل على أهميّة الممارسات التي تكشف عن وظائف ثقافيّة تتماس وحاجة المجتمع، فضلاً عن إحالته على عدد ليس بالقليل من المتون الأدبيّة ذات النَفَس الثقافي المبهر لتظلّ الحاجة ملحّة لإعادة طبعة في متن جديد بعد أن يقف من الملاحظات الآتية موقف المصحح الوفي لكتابه:

أولاً: جاء في الصفحة 239 أنّ (الأديب العراقي هلال ناجي الذي يعمل لدى د. علاء حسين الرهيمي عميد كلية آداب جامعة الكوفة) والكلام ملتبس بلا شك؛ لأنّ الأستاذ المحقّق الثبت هلال ناجي - رحمه الله - لم يعمل موظفاً في جامعة الكوفة، بل كان ملحقاً ثقافيّاً في القاهرة في الستينيّات، تمّ تفرّغ للتحقيق والمحاماة، فأرجو أن يفكّ ذلك الالتباس لصالح الحقيقة، والمقالة.

ثانياً: جاء في الصفحة 310 من الكتاب عن محمد حسين آل نمر أنه أيّد (ثورة 23 تموز 1958. بقيادة عبد الكريم قاسم)، والصحيح (14 تموز)، وأنها لم تكن ثورة بل انقلاب عسكري ليس غير، وهذا ما أدركه المؤلّف فيما بعد في ص325.

ثالثاً: تحدّث المؤلّف في الصفحة 315 من الكتاب عن اغتيال الشاعر محمود البريكان محدّداً إياه (في منزله بالزبير)، والصحيح الذي لا خلاف عليه أنّ الاغتيال كان في بيت البريكان في البصرة حي الجزائر يوم 28 فبراير (شباط) 2002.

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

* أكاديمي وناقد من العراق.