استدعاء تراث المساجلات الفكرية... وانفتاح أوسع على الرواية والشعر

قراءات المثقفين والكتاب المصريين خلال 2022

استدعاء تراث المساجلات الفكرية... وانفتاح أوسع على الرواية والشعر
TT

استدعاء تراث المساجلات الفكرية... وانفتاح أوسع على الرواية والشعر

استدعاء تراث المساجلات الفكرية... وانفتاح أوسع على الرواية والشعر

ترصد «الشرق الأوسط» في هذا الاستطلاع السنوي أبرز ملامح وعناوين الكتب والأفكار التي شغلت المثقفين والمبدعين العرب، وشكلت زاداً فكرياً لهم خلال عام 2022 الحافل بالأحداث العاصفة، التي لا تزال تهز العالم على شتى الأصعدة.
ففي مصر، وما بين المعارك الأدبية الكبرى التي تحتل موقعاً مركزياً في التراث العربي إلى أفكار وهواجس وهموم المرأة، مروراً بروايات الحب وكتابات التفاصيل الصغيرة، تنوعت قراءات المثقفين والكتاب والشعراء المصرين على مدار 2022... هناك من قرر أن يستعيد المساجلات الفكرية التي اتسم بها عصر النهضة العربية منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ودورها في إثراء الحوار الأدبي وتعميق البعد الثقافي في المجتمع، بينما ارتمى البعض في أحضان ديوان شعر مرهف اللغة، فيما أبحر كثيرون بين ضفاف الرواية بأمواجها العاتية وجزرها المتشعبة.
هنا، آراء كوكبة من الشعراء والكتاب المصريين في هذا الاستطلاع:

دكتور حسين محمود، مترجم وأستاذ الأدب الإيطالي: متعة قراءة المساجلات الفكرية في تراثنا العربي
- قراءاتي في هذا العام بدأت بكتاب «الكليات في الطب» لابن رشد، وفيه تعليقات المؤلف على نظريات الطبيب الإغريقي القديم جالينوس الذي عالج أشهر أباطرة الرومان، وكيف اختلف معه في العديد من وجهات النظر، وانطلقتُ منه إلى الاهتمام بابن رشد عموماً كفيلسوف يحتل موقعاً مركزياً في التراث العربي. من هنا قرأت كتابه المهم «تهافت التهافت»، الذي يرد فيه ابن رشد على كتاب «تهافت الفلاسفة»، لأبي حامد الغزالي ويهاجم فيه الفلاسفة، خصوصاً ابن سينا، وبعده بثمانين عاماً رد عليه ابن رشد في مساجلة فلسفية شهيرة. تلك المساجلة التي تكررت بين أحد رموز النهضة العربية وهو فرح أنطون (1874 – 1922) في كتابه «ابن رشد وفلسفته»، وبين الإمام محمد عبده، ونشرت المساجلة على صفحات مجلتي «الجامعة» التي كان فرح أنطون صاحبها ومديرها، و«المنار» التي كان صاحبها ومديرها رشيد رضا، وكلاهما جاء من لبنان إلى القاهرة على المركب نفسه، لكنهما بعد صداقة قديمة تحولا إلى خصمين فكريين. وقد نُشرت «المساجلة بين محمد عبده وفرح أنطون» فيما بعد في كتابين مهمين قرأتهما، أحدهما للكاتب اللبناني ميشيل جحا (1930 - 2022) والآخر للمفكر السوري طيب تزيني (1934 - 2019)، وكلاهما رتب المناظرة ونظر إليها بمنهجية مختلفة، وكتب مقدمة كاشفة ومهمة عن القضايا التي تناولتها المساجلة، وإن كان طيب تزيني أكثر ميلاً إلى نقد الفكر العربي، وليس مجرد العرض.
مثل هذه الكتب تظل - برأيي - كاشفة للبعد الفلسفي العميق للفكر العربي، والفلاسفة العرب الكبار مثل ابن سينا والكندي والرازي والغزالي نفسه الذي كان تكوينه فلسفياً ناقلاً عن ابن سينا في البداية، ثم مهاجماً إياه لأسباب سياسية وآيديولوجية، كما كانت كاشفة أيضاً عن الوهم الذي ساد طويلاً عن تردي مستويات الكتابة النثرية العربية، فقد كان أسلوب هؤلاء جميعاً في الكتابة النثرية علمياً موضوعياً هادئاً خالياً من الزخرف والبديع. والقضايا المطروحة في تلك الكتب جميعاً يصح استعادتها اليوم لأنها تجيب عن أسئلة جوهرية في علاقة الدين والإيمان بالعقل والفكر.

الشاعر أحمد الشهاوي: أقرأ فرويد وعيني على المتصوفة المسلمين المقتولين
- شهدت قراءاتي العودة من جديد إلى بعض رموز علم النفس الحديث مثل فرويد (1856 – 1939) وكارل يونغ (1875 – 1961)، حيث أرى أنه من الضروري النظر إلى الواقع الذي نعيشه عبرهما، كما شُغلتُ بقراءة الرواية أكثر من أي سنة مضت، سواء أكانت العربية أم العالمية، مثل رواية «عزيزي صديق المرحوم» للروائي الأوكراني أندري كوركوف ترجمة الكاتب التونسي وليد سليمان، وقد صدرت في تونس.
وتوقفت في قراءاتي أيضاً عند المتصوفة المقتولين مثل الحلاج والسهروردي وعين القضاة الهمداني وسواهم، وهو حقلٌ أقرأ فيه بشكلٍ منتظم منذ صباي، كما عدت بشكلٍ قوي إلى تاريخ وحضارة وأدب وديانة مصر القديمة، خصوصاً في كتب المتون المقدسة عند قدماء المصريين مثل «الخروج إلى النهار» ويتكون من مائتي فصل وله أكثر من ترجمة، ويحتوي نحو ثمانمائة تعويذة.
وأعتقد أنه على المرء أن يقرأ تراثه المصري القديم ويعيه بشكل عميق، مثلما يذهب نحو التراث العربي في الشعر والنثر والتصوف والأدب الجغرافي. كما توقفت طويلاً أمام النتاج الشعري الجديد في الوطن العربي، لكن هناك كتباً شعرية أحبها على نحو خاص مثل مختارات من شعر يونس أمرة ترجمة البروفسور التركي محمد حقي صوتشين وقد صدرت في إسطنبول.

الكاتبة شيرين سامي: الروايات ودفء المشاعر والحب
- أعتبر أن الرواية القصيرة «احتضان» للكاتبة الآيرلندية كلير كجين، مواليد 1968، أفضل ما قرأت في عام 2022 الذي بدأت شمسه في الغروب. الرواية نص مرهف ندخل من خلاله في وعي فتاة صغيرة تنتقل للعيش مؤقتاً مع أسرة ريفية. نراقب معها العالم وهو يتغير ونكتشف معها الاكتشافات الصغيرة الصادمة عن حقيقة الدفء والحب والاهتمام على نحو يجعلك تعيد تفكيرك في الأبوة والبنوة، ويجعلك تشعر بعمق الحكايات الصغيرة العفوية المباشرة، وكيف يمكن أن تغيّر العالم.
وتوقفت كذلك عند رواية «لا تمت قبل أن تحب» لمحمد الفخراني، التي تروي قصة حب حالمة ومختلفة بين رجل وامرأة لم يتقابلا إلا مرة واحدة، قصة مكتوبة بشكل بسيط وحلو. أجمل ما في كتابة محمد الفخراني أنها تأخذ من يقرأها لعالم غير العالم حتى وهو يقصد أن يطعم كتابته بالواقع ومواجعه، تبقى هناك دائماً هذه الرائحة المميزة لقلم مليء بالمشاعر والتساؤلات والفلسفة الجميلة التي تلمس شيئاً داخلك لأنها لا تنتمي إلا لصدق الحكاية.

* الكاتبة عزة سلطان: الكتاب الصوتي أصبح خياراً مريحاً
كنت قديماً لا أفضل الاستماع، أحب القراءة وأجلها كثيراً، حتى أنني كنت أحافظ طيلة عمري على عادة القراءة قبل النوم مهما كانت الظروف، لكن هذا العام كان مختلفاً، هل لزخم الإنتاج الإبداعي، أو ارتفاع أسعار الكتب، أو الكتب التي تزاحمت في مكتبتي وخرجت من الغرفة المخصصة لتحتل حجرات أخرى؟ ربما هذه الأسباب مجتمعة هي ما جعلني أذهب إلى خيار جديد هو «الكتاب الصوتي»، ربما أيضاً لأن تطبيقات الكتب المسموعة استطاعت أن تقتطع مساهماتها من سوق القراء باختيار معلقين وقراء أكفاء حولوا بأصواتهم الكتب المقروءة إلى حكايات مسموعة وأعادوا الحنين إلى الأذن.
عن طريق تطبيق الكتب المسموعة، استطعت إذن سماع الكثير من الروايات، التي جاءتني كحواديت مثل «صالة أورفانيلي» لأشرف العشماوي، و«خرائط التيه» لبثينة العيسى، و«كاتيوشا» لوحيد الطويلة. وأعترف أنني رغم قدرتي على تحييد مشاعر المحبة والصداقة عند قراءة عمل أدبي، إلا أنني منحازة بالطبع للكاتبات مثل ريم نجمي بروايتها «تشريح الرغبة» التي تأخذ القارئ لعوالم عديدة عن المرأة، والعلاقات بتعقيداتها، ومعارك تقررها النساء لأنفسهن، وكقارئ بطيء وجدت أن ذلك البطء يُكسبني مُتعة جديدة، فلا أغادر بسهولة، حيث تكمن خصوصية المرأة في إضاءة مناطق أحياناً لا نعرفها عن أنفسنا.

القاص والروائي سمير الفيل: رعب «بوكو حرام» وتراث ابن دانيال
- يحتل كتاب «المختطفات - شهادات عن فتيات بوكو حرام» موقعاً مهماً في حصاد قراءاتي لهذا العام. الكتاب تأليف فولجانج باور، ترجمة د.علا عادل. وهو يستعرض شهادات عن حكايات اعترفت بها سيدات وفتيات من نيجيريا اختطفن لفترات متفاوتة، من خلال جماعة «بوكو حرام» الإرهابية، بعضهن من المسلمات أجبرن على ارتداء النقاب، ثم الزواج من أعضاء الجماعة، وبعضهن تعرضن لعميات غسيل مخ ليتحولن إلى إرهابيات يفجرن أنفسهن من أجل رضا الولي.
وهناك أيضاً مسرحية «ابن دنيال والأمير وصال» للكاتب محمد أبو العلا السلاموني، وهي كوميديا شعبية تتناول تراث ابن دنيال في القرن السابع الهجري، حيث عاصر أكبر محنتين قوميتين مرت بهما المنطقة العربية، وهما السقوط المروع للخلافة العباسية في بغداد على أيدي جحافل التتار، فضلاً عن استهداف التطرف الديني للفنون والثقافة.

الكاتب د. محمد إبراهيم طه: «همس العقرب» و«وادي الكون»
- من بين قراءاتي العديدة، طوال عام كامل، أتوقف عند رواية «همس العقرب» لمحمد توفيق، حيث أرى فيها عملاً على درجة عالية من الجودة الفنية، نموذج للرواية المرتكزة على أحداث تاريخية لكنها تظل مفتوحة على عالم الفن، لا تسقط في فخ التسجيل التاريخي، وتخلص أكثر لتقنيات وجماليات الفن الأدبي، نص شيق وجاذب يجر التاريخ إلى الأدب ولا يذهب إليه، مفعم بالتأمل والتحليل، يحتل تصوير الشخوص من الداخل القسط الأكبر من السرد.
وهناك كذلك رواية «وادي الكون» لهالة البدري التي أصفها بأنها رواية الأسئلة المستمرة التي تدفع إلى إعادة التفكير في قصة الوجود، كما تولي المؤلفة الحضارة المصرية أهمية كبرى، يطغى المعرفي فيها على المتخيل الروائي، لكنها تظل رواية جريئة ومحفزة على القراءة وإعادة التفكير في الكون والوجود بتناقضاته الشرهة الفارقة.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!