«الشتاء بارد على من لا يملكون الذكريات الدافئة»، مقولة مؤثرة للأديب فيدور دوستويفسكي، لكن يبدو أن التشكيلي المصري محمود حامد، قد أراد أن يُشعر رواد معرضه الجديد ببعض الدفء عبر استدعاء لحظات أثيرة من الماضي في أحدث أعماله الفنية، ما يدفع الزائر إلى استحضار جوانب من أرشيفه الخاص أو ذاكرتنا المنسية.
خيالات الظل تعيش داخل الإنسان وحوله (إدارة غاليري بيكاسو إيست)
من خلال 28 لوحة يضمها معرضه المقام بعنوان «خيالات الظل» في قاعة «بيكاسو إيست» بالقاهرة، يبث الفنان الذي يشغل حالياً منصب عميد كلية التربية الفنية جامعة حلوان، الإحساس بالنوستالجيا، ويثير الشغف الإنساني بالصور المتخيَّلة عن الماضي، ويصوغ أشكال الحنين المختلفة بحس مرهف مستعيناً بنقوشه ورموزه ومفرداته الخاصة.
يقول محمود حامد لـ«الشرق الأوسط»: «عندما تسير الحياة ويمر العمر، يفتش الإنسان في الماضي، يبحث عن نفسه، يجتر أحلامه ولحظات السعادة والدفء البعيدة، محاولاً أن يستعيد إحساسه القديم بحكاياته ومشاعره الجميلة التي سيطرت عليه ذات يوم».
استخدم الفنان رموزاً مأخوذة من الفولكلور المصري الشعبي
كانت الذكريات دوماً محط اهتمام الأدباء والفنانين، عكفوا طويلاً على محاولة فهم ذاك الشيء الغامض الذي يُسمى الذاكرة، ومن جانبه سجل حامد ذكرياته في إطار ماتع يكتنفه خيال ثري ويسوده العمق والرصانة؛ فنجد على مسطح لوحاته من الأكريلك والخامات المختلفة على الخشب ملامح من حضارات كثيرة، تنقلنا إليها المعالجات التشكيلية للرموز والعلامات القريبة من شكل الوشم والطلاسم والشفرات فضلاً عن الأشكال الهندسية وعناصر الطبيعة المتنوعة.
تتمتع اللوحات بالبنائية والتركيبية و«التشابكية» حيث استخدم الفنان طبقات من شرائح ورقية قوية وسميكة متداخلة، ما يقوّي إحساس المتلقي بمرور الزمن، لا سيما أنه منحها أيضاً الكثير من الخربشات والنقوش والعناصر المحفورة بعناية، ما يوحي بالقدم وتراكم الذكريات، مستخدماً بالتّة لونية تتناغم مع الحنين وتتوافق مع استدعائه الرومانسي للذكريات، ولأرواح الماضي، حيث اللون البني أو الأصفر الرملي، الذي يرمز إلى الأرض، أو الوطن والمنشأ، وحيث أيضاً اللون الذهبي، الذي يعظّم من قيمة الماضي من خلال ثرائه وأناقته، كما أنه يتمتع بسمة الخلود والقداسة في الفن المصري القديم، أما اللون الأحمر فقد طوّعه ليرمز إلى المشاعر المتدفقة التي تسيطر على المرء حين يغلبه الشجن والحنين.
في السياق نفسه قدم الفنان شخوصه بأحجام كبيرة وفي صورة يسودها الشموخ والهيبة، كما جاءت لتحتل مساحات لافتة من اللوحات، ويعلو بعضها أو يجاورها الخطوط والنقوش والكتابات، كأن الماضي يأبى أن يغادر هذه الشخوص، أو يكفّ عن محاصرتها من كل الاتجاهات.
اعتمد الفنان على العنصر الزمني في بناء اللوحة
وفي بعض لوحات معرضه المستمر حتى 31 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، يستغرق الفنان في التوغل في الزمن؛ ليؤكد فكرة الحاجة إلى العودة للماضي، إلى حد أنه قدم ملامح من الحياة البدائية، عبر محاكاة رسوم الكهوف بالإضافة إلى استخدام الكثير من الرموز المأخوذة من الفلكلور المصري الشعبي، مثل الشجرة والقطة والطائر والحصان والدمية القماش والسمكة والتمساح، وقدمها كعناصر رمزية ومفردات أصيلة على العجائن التي مزجها بحروف وكتابات ظهرت كما لو كانت تعاويذ سحرية يستخدمها ليداوي بها إخفاقات وأوجاع الزمن!
حاول الكثير من العلماء والمؤرخين تفسير علاقة الإنسان بالماضي ورؤيته له، لكن ربما كان المؤرخ الشهير تقي الدين المقريزي في تفسيره لهذه العلاقة هو الأقرب لما يقدمه حامد في لوحاته؛ فقد رأى المقريزي أن من أهم أسباب استدعاء الماضي والعيش فيه هو حالة التأزم مع الحاضر واللحظة الآنية، وهو نفسه ما تشعر به حين تتأمل أعماله حيث استعادة الذكريات تصبح بلسماً لوجع الفراق ومشاعر أثبتت أنها عصية على الاندثار: «قد تشغلنا الحياة وتؤرقنا الأحلام لكن نظل متطلعين إلى الإحساس بالراحة والأمان والسعادة»، على حد تعبيره.