مبدعون مغاربة يرصدون إيجابيات النشر الإلكتروني

يرون أن عملية الكتابة معه صارت أكثر ديمقراطية

إدريس الملياني، طه عدنان، ياسين عدنان
إدريس الملياني، طه عدنان، ياسين عدنان
TT

مبدعون مغاربة يرصدون إيجابيات النشر الإلكتروني

إدريس الملياني، طه عدنان، ياسين عدنان
إدريس الملياني، طه عدنان، ياسين عدنان

لأن شبكة الإنترنت صارت اليوم عنوانا للزمن الإلكتروني، إلى درجة أنه يجري تسويقها، كما كتب الشاعر البحريني قاسم حداد، تحت عنوان «الطرق انتهت، فليبدأ السفر»، كـ«إشارة لمستقبل لا يمكن تفاديه»، فقد كان عاديا، ومنتظرا، أن تخفت أصوات عدد من المبدعين المغاربة، الذين أعلنوا، في وقت سابق، تخلفهم عن الركب الرقمي وممانعتهم في التعاطي مع الثقافة الإلكترونية، في الوقت الذي فضل فيه السواد الأعظم ركوب الموجة، إلى درجة أن ألصق ببعضهم لقب «شياطين الإنترنت». لذلك تبدو اليوم كل تلك الأسئلة الساخرة التي اختصر وغلف بها الشاعر إدريس الملياني، مثلا، وجهة نظره، بصدد ثورة التكنولوجيا، شيئا من الماضي، خاصة حين كتب في «سنديانة الشعر»: «قد تكون الكتابة الإلكترونية مفيدة، ولكن ما الذي يتغير في القصيدة؟ هل تخرج عن بنائها القديم عندما تدخل في الموقع الجديد؟ وهل هي من قبيل الكتابة الآلية، السيريالية، بالحلم واللاوعي وما إلى ذلك من اللاءات؟ وما الذي يضفيه الإنترنت على الشعر وما الذي يضيفه إلى الشاعر؟ وما الذي يميز شاعر الموقع والعنوان الإلكتروني عن آخر ليس له إلا صندوق البريد وعنوان البيت؟ وما الإنترنت؟ هل هو نهاية التاريخ؟ أم مجرد وسيط بسيط كالجريدة والكتاب؟».
على عكس الملياني، يبدو الوضع مختلفا، مع غالبية المبدعين المغاربة، في احتفائهم بـ«نعمة» الإنترنت، ومن ذلك أن يكتب الشاعر طه عدنان، في ديوانه «ولي فيها عناكب أخرى»، عن الجانب المشرق للتكنولوجيا والشبكة العنكبوتية، موجهًا للعنكبوت الإلكتروني تحية صباحية، قائلا: «صباح الخير أيها العنكبوت - صباح الرضا يا زقزقة الكهرباء - أنا جاهز فخذيني - إلى عالمي الذي من ضوء - فلدَي جيران طيبون - في هوتمايل - وأتراب ودودون - في ياهو - وعشيقة سرية - في كارامايل - لدي رفاق هنا وهناك - رفاق الدرب القديم - يغرقون بريدي - بالمقالات الغاضبة - والبيانات النارية - وفائض الإدانات - ورفيقات في عمر الزهور - أناضل إلى جانبهن - بشراسة سبرنيتية».
يتغنى طه عدنان بأفضال الشبكة العنكبوتية، إلى درجة يصير معها كل ما يوجد خارجها صقيعًا خانقًا. ولأنه صار مقتنعًا بحقيقة أنه لا حياة خارج الرحم الكهربائي، فإنه يرجو من «الإلكترونات الرحيمة» أن تضمه إلى ذبذباتها، مسلمًا بأنه صار أسيرها المساق برضاه، معلنًا أنه سيأتيها كاملا غيـر منقوص، بما يخفي وبما يعلن، وبما لم يخطر على باله بعد، بل سيأتيها بأحلامه وأوهامه، وبأسماء دخوله كلها وبكلمات السر، فقط، لأنه لم يعد قادرًا على العيش خارج مدينة الكهرباء، قبل أن يتابع، مستحضرًا ومتقمصًا إيقاع القصيدة العربية القديمة: «الويب - والواب - والنيتسكايب تعرفني - أنا أمير الغرقى - وشهيد المبحرين - ابنك البار أنا - أيها العنكبوت - فاحضنني برأفة قبطان - بيتك بيتي - فأجرني - من عتمة هذي البيوت - كل شيء هنا بات يضجرني - يضجرني ساعي البريد - ينبهني إلى أن صندوق بريدي - عششت فيه العناكب - تضجرني زيارات الأصدقاء - يطوقون بابي - دون سابق موعد».
لكن، ورغم احتفائه بالجانب المشرق من الشبكة العنكبوتية، فإن شاعرنا لا يخفي أن الإنترنت ضيعته وبددت دفئه الباقي، بعد أن لم يجنِ منها إلا الوحدة والقلق، إلى درجة أنه صار يحنّ إلى زمن الورقة والقلم؛ حيث نقرأ له: «يا رب، ما لي والتكنولوجيا؟ - كنتُ فيما مضى - أخطُ أشجاني - على صفحة بيضاء مثل هذي - ولم يطل قطُّ يدي العطب - واليوم، - ها زيتونة عمري تثكل أوراقها - في الطريق إلى غابة الثلج».
على مستوى إبداع وتسويق وتلقي نصوص المبدعين، في زمن العولمة وثورة التكنولوجيا، يتيح «الوسيط الإلكتروني»، بالنسبة للشاعر والقاص والإعلامي ياسين عدنان: «أن ينشر الشاعر قصيدته على شبكات التواصل الاجتماعي أو عبر منتديات الأدب والمواقع الشعرية لضمان مقروئية أقوى وانتشار أوسع»، قبل أن يستدرك: «استعمل الفضاء الإلكتروني لنشر قصائدي. لكن حينما يتعلق الأمر بالدواوين الشعرية فأنا أحترم خطة الناشر في التوزيع. لكن بالنسبة لقراءة الشعر، مثلا، أفضل قراءته في الدواوين والمجلات، وليس على الإنترنت. ونادرًا ما أواصل قراءة شعر على الكومبيوتر لأكثر من خمس دقائق».
أما الشاعر عبد الإله الصالحي، فيرى أن للنشر الإلكتروني «تأثيرات إيجابية بشكل عام على المنتَج الشعري كتابة وتلقيًا وانتشارًا»، غير أنه يشدد على أنه «يجب الإقرار بأن فضاء الإنترنت الرحب يعج أيضًا بالتافه والغث والأجوف»؛ قبل أن يعترف بحنينه إلى «ذلك الزمن الذي كنا نكد فيه كي نعثر على قصيدة في مجلة ما ونصبر شهورًا كي نحصل على نسخة من ديوان لشاعر مشرقي».
وفي نفس سياق المقارنة بين الأمس واليوم، على صعيد التجربة الإبداعية الشخصية، سيكتب طه عدنان أنه «إذا كان القرن الماضي قرن الآيديولوجيا بامتياز، فإن القرن الحالي يُعَدُّ قرن التكنولوجيا عمومًا والتكنولوجيا الرقمية بشكل خاص. وبالإضافة إلى التكنولوجيا كموضوع، فإن تطوّر وسائط الاتصال حوّل العالم إلى قرية شعرية صغيرة. إذ بنقرة سريعة على الزّر تعبُر قصيدتُك نحو جغرافيات نائية دون أن تبرح مكانك بل وقبل أن يرتدّ إليك طرفك».
لكن، هل ساهم الانتقال إلى زمن النشر الإلكتروني في الرفع من قيمة ما يكتب وينشر، أم في تمييع القيم الإبداعية وضياع المحددات الأساسية لمفهوم الشعر، مثلا، وطرق تلقيه؟ بالنسبة لياسين عدنان، يبقى المؤكد أن «عملية الكتابة صارت مع النشر الإلكتروني أكثر ديمقراطية، وهذا مهم جدا. لأن الولوج إلى عالم الكتابة والنشر صار متاحًا بشكل أفضل من السابق. طبعًا من المهم أن تتسع قاعدة الشغوفين بالكتابة. من المهم أن يتضاعف عدد الذين يتصورون أن الكتابة بشكل عام، وكتابة الشعر على وجه الخصوص، ضرورية وأساسية. بمعنى أنها تحقق لهم بعض التوازن أو تمنحهم بعض التميز أو قد تتيح لهم الحظوة والإشعاع. هذا مكسب أكيد. لأن الذين يؤمنون بالكتابة ويجربون حظهم معها يبقون أقلية محدودة جدا أمام الغالبية العظمى التي لا تقرأ ولا تكتب. لكن الجانب الديمقراطي في الموضوع، على أهميته، يفتح الشعر على بعض المزالق، خصوصا حينما يصرّ البعض على الشعر ويتماهى بسرعة مع لقب الشاعر وصورته. فيتمادى في الكتابة تعزيزا لهذه الصورة وترسيخا لهذا اللقب. هكذا ينخرط في الكتابة يوميا مواظبا على النشر الإلكتروني لاهثا وراء حضور كمي، غير مسنود لا بالقراءة ولا بالتأمل. بل حتى التنقيح في حدوده الدنيا صار خارج مدار هذا النوع من الكتابة. ولعل غياب مصافي النشر التي تؤمِّنها هيئة التحرير بالنسبة للمجلة ولجنة القراءة بالنسبة لدار النشر هو ما جعل النشر الإلكتروني يتجه بالتدريج باتجاه المزيد من الإسفاف والتسيب والفوضى. لهذا أتصوّر وضع الشعر الإلكتروني، وأقصد الشعر المنشور إلكترونيًّا، إيجابيا من الناحية السوسيو - ثقافية. لكنه يخلط الأوراق مع الأسف على المستويين الشعري والنقدي ويعمّق حالة الفوضى. وهي فوضى غير خلّاقة عمومًا، لكنّها ليست مضرّة تمامًا.. فللشعر ربّة تحميه».
من جهته، يشدد طه عدنان على أن «الأهمّ هو فعل الكتابة، بما هو فعل خلق ومبادرة وحرّية. أمّا القيمة الأدبية لما يُكتب وَيُتَداول إلكترونيا، فذلك شأنٌ آخر». فيما يرى الشاعر جلال حكماوي أن السند لا يهم، وأن «الواقع واقع رداءة شاملة لا على مستوى الورق أو العالم الافتراضي»، مشيرا إلى أنه «في الغرب، التكنولوجيات الحديثة تنافس الكتب، لكنها تنشر ثقافة نوعية»، وأنك «في الإنترنت، تجد أشخاصا يغزون الفضاء الافتراضي، لكن عندما تقرأ نصوصهم تصاب بالذهول. رداءة في اللغة، في التصور، وفي الرؤية».
ولا يعتقد الكاتب عبد الإله الصالحي أن النشر الإلكتروني مسؤول عن «تسطيح وتمييع القيم الشعرية»، مشيرا إلى أن «كتابة الشعر وتلقيه في تراجع على المستوى العالمي لأسباب كثيرة»، مشددا على أن «النشر الإلكتروني، وهذه ميزته الأساسية، ساهم في التقريب بين الشعراء وسرع من وتيرة التواصل»، من دون أن يرى له تأثيرا حاسما على المضمون.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!