«1899»... السفينة الغارقة في الغرابة

مسلسل نتفليكس الجديد يحصد المشاهدات وعلامات الاستفهام

ملصَق مسلسل "1899" (نتفليكس)
ملصَق مسلسل "1899" (نتفليكس)
TT

«1899»... السفينة الغارقة في الغرابة

ملصَق مسلسل "1899" (نتفليكس)
ملصَق مسلسل "1899" (نتفليكس)

ما إن بدأت نتفليكس عرض مسلسل «1899»، حتى دخل قائمة المسلسلات العشرة الأكثر مشاهدةً. وحسب أرقام المنصة العالمية، فإن المسلسل ذات الحلقات الثماني حقق 80 مليون ساعة مشاهدة حول العالم في الأسبوع الأول من عرضه. وخلال أيام قليلة، كان «1899» قد تسلق إلى المرتبة الثانية متربعاً مباشرةً خلف مسلسل «ذا كراون».
في الشكل، يمتلك العمل كل عناصر الجاذبية التي تبرر ذلك التهافت على مشاهدته. يوحي العنوان بأن القصة ستأخذ المشاهدين في رحلة عبر الزمن، إلى حقبة غابرة ملؤها السحر. أما التصنيف فيضع المسلسل ضمن خانة الغموض؛ وبما أن كل غامض جذاب، زاد الطلب على المسلسل. أضف إلى ذلك الإطار العام للأحداث، وهو سفينة لا تشبه باقي السفن. هي أقرب إلى السفينة الشبح المتأرجحة بين الواقع والخيال.

على متن الـ«كيربيروس» تلتقي مجموعة من الشخصيات التي من المفترض أنها مهاجرة من إنجلترا إلى نيويورك. لكن سرعان ما يتضح أن هؤلاء المسافرين يلتقون عند نقطة واحدة؛ هم هاربون جميعاً من ماضٍ ما، يريدون نسيانه أو إخفاءه بأي ثمن. وغالباً ما يعود ذلك الماضي على هيئة كوابيس أو نقلات زمنية مبهمة.
يأتي هؤلاء المسافرون كل من بلد وهم يتحدثون لغات مختلفة. ينطق المسلسل بالإنجليزية والألمانية والفرنسية والصينية والإسبانية والبرتغالية والبولندية والدنماركية. زحمة لغات لا تعالجها الدبلجة الموحدة إلى الإنجليزية، والتي تبدو غريبة وخالية من العفوية. كما أنها تسلب القصة الكثير من فحواها، لذا يفضل الإبقاء على النسخة الصوتية الأصلية واعتماد الترجمة المكتوبة، للحد من الأضرار خلال رحلة المشاهدة.
تخفي مورا، الطبيبة المحرومة من ممارسة مهنتها لأنها امرأة، ماضياً غريباً ومعقداً مع والدها. أما ربان السفينة آيك فيصارع من أجل تخطي ذكرى الحريق الذي التهم منزله وقضى على زوجته وبناته الثلاث. أما الشابة الصينية لينغ يي والتي تدعي أنها «غيشا» يابانية، فتخفي مع والدتها جريمةً ارتكبتاها قبل بدء الرحلة. وينضم إلى مجموعة الشخصيات الغامضة، الثنائي الفرنسي كليمانس ولوسيان العاجزين عن الاستمتاع بزواجهما بسبب ماضٍ دام. أما الإسباني راميرو الذي يدّعي أنه كاهن، فيخفي هو الآخر جريمةً مع رفيق رحلته آنجل. لركاب الدرجة الثالثة حكاياتهم المبهمة كذلك وذكرياتهم الثقيلة، وهم بمعظمهم يتكلمون بالدنماركية.


تبدأ الألغاز بالانهمار فوق رؤوس ركاب الـ«كيربيروس» في اللحظة التي تلتقط السفينة إشارةً بضرورة الإسراع إلى إنقاذ سفينة أخرى، تائهة في الجوار منذ 4 أشهر وتدعى «بروميثيوس». ورغم كثافة الأحداث إلا أن الإيقاع يبقى بطيئاً ويلامس الملل في بعض الأحيان. تبدو الغرابة مفتعلة والألغاز غير مقنعة والظلام زائداً عن حده، وسط استثمار في المؤثرات الصوتية والموسيقى المرعبة.
الوصول إلى الـ«بروميثيوس» والدخول إليها يزيد الأجواء غموضاً، لا سيما أن السفينة تبدو خالية كلياً من الركاب، باستثناء طفل تعثر عليه مورا والربان آيك مسجوناً داخل خزانة. بنظرته المخيفة وصمته المطبق، يضفي الولد فوق غرابة المسلسل غرابةً. يحمل معه هرماً أسود صغيراً وترافقه طيلة الوقت حشرة خضراء تفتح أمامه كل الأبواب الموصدة. ومعه يظهر رجل يدعى دانييل يراقب تحركات مورا باستمرار.
تتكرر ثيمة الهرم والمثلث في المسلسل، ومعها تتكرر الأحداث المبهمة كالوفيات الغامضة التي تهز السفينة المهزوزة أصلاً. ثم يدخل إلى السردية التائهة بين الدراما والخيال العلمي والتشويق النفسي، تمرد على متن الـ«كيربيروس» يقسم ما بين الركاب، ويضع جزءاً من الطاقم في وجه الربان.
يمضي المشاهد معظم مسلسل «1899»، وتحديداً حلقاته الست الأولى (من أصل 8)، متسائلاً عن مبررات ما يحدث. لا أجوبة تشفي غليل الأسئلة المتراكمة، ولا أحد يستطيع توقع وجهة سير تلك السفينة الغارقة في حبكة بليدة وسرد مرهق. وفيما انقسمت آراء المشاهدين بين تغريدات الإعجاب وأخرى انتقدت بطء الأحداث والنهاية غير المنطقية، تعاملت «نتفليكس» بطرافة مع ردود الفعل. ففي تغريدة على تويتر، شاركت المنصة المشاهدين استغرابهم بعد متابعة الحلقة الأولى.
https://twitter.com/netflix/status/1593625466534957056?s=20&t=3mRJ_-KYpWdZYYA60K8GuA
مع حلول الحلقة السابعة، يبدأ الضباب بالانقشاع قليلاً فيتضح أن الهدف الأساسي من المسلسل هو الغوص في الدماغ البشري المعقد والمعتم. في «1899» كل الطرقات، مهما بدت ضبابية أو معتمة أو محفوفة باللامنطق، تؤدي إلى بواطن عقول أبطال المسلسل، وهم في غالبيتهم غير مرتاحين داخل عقولهم ونفوسهم. وعلى ما تقول مورا في بداية الحلقة الأولى: «الدماغ أوسع من السماء وأعمق من البحر». لذلك فقد استلزم الأمر سفينة تمخر الأمواج العاتية لذلك الدماغ، محاولةً فك الألغاز.
ورغم ذلك، فإن الألغاز جميعها لم تفك وبقي عدد كبير من الأسئلة عالقاً في أذهان المشاهدين بعد انتهاء الحلقة الثامنة والأخيرة. وقد دفع ذلك بعدد من المغردين إلى المطالبة بموسم ثانٍ، وهو ليس بالأمر البعيد المنال. ففي مقابلة أجريت معهما، أعلن منتجا وكاتبا المسلسل الألمانيان باران بو أودار ويانتي فريزي أنهما في صدد الإعداد لموسمين إضافيين.


ليس أودار وفريزي غريبين عن المسلسلات الغامضة المثيرة للتفكير والتحليل، فهما من وقفا خلف نجاح مسلسل «دارك» Dark الذي كتباه لنتفليكس. وبانتظار الموسمين المقبلين، أعلنت لجنة جوائز نقاد الدراما التلفزيونية ترشيح «1899» إلى جائزة أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية.
وتبقى الطابة في ملعب نتفليكس التي وحدها ستقرر ما إذا كانت مستعدة لخوض تجربة التمديد للمسلسل، هي التي غطت الجزء الأكبر من ميزانيته الإنتاجية. مع العلم أن «1899» هو المسلسل الألماني الأعلى كلفةً في التاريخ، وقد بلغت ميزانيته 60 مليون يورو غطت نتفليكس 48 مليوناً منها.



معرض «المجهول» للتشكيلي المصري أحمد مناويشي يُسقط الأقنعة

يركُن مناويشي إلى نقل مشاعر أشخاص يعيشون المجهول (الشرق الأوسط)
يركُن مناويشي إلى نقل مشاعر أشخاص يعيشون المجهول (الشرق الأوسط)
TT

معرض «المجهول» للتشكيلي المصري أحمد مناويشي يُسقط الأقنعة

يركُن مناويشي إلى نقل مشاعر أشخاص يعيشون المجهول (الشرق الأوسط)
يركُن مناويشي إلى نقل مشاعر أشخاص يعيشون المجهول (الشرق الأوسط)

ما إنْ تدخُل معرض «المجهول» للفنان التشكيلي المصري أحمد مناويشي، حتى تستوقفك وجوه لوحاته، بريشة حرّة تستكشف ملامحَ وأحداثاً غامضة. أعماله تبحث عن مشاعر عميقة وعلامات استفهام تحضّك على التحليل وفكّ الألغاز.

ينقسم معرض مناويشي في غاليري «آرت ديستريكت» بمنطقة الجميزة البيروتية إلى قسمين، من بينها ما يروي حكايات أشخاص اختبأت مشاعرهم تحت الأقنعة الواقية من جائحة «كورونا»، وأخرى رسمها حديثاً لمَن عاشوا الحرب الأخيرة في لبنان.

مع هذا المعرض، يستعيد غاليري «آرت ديستريكت» عافيته. فالحرب منعته قسرياً من إقامة نشاطات ثقافية. ومن خلال «المجهول»، يعلن صاحبه المصوّر الشهير ماهر عطّار انطلاق الموسم الفنّي في الغاليري.

الرسام أحمد مناويشي أمام لوحات معرضه «المجهول» (الشرق الأوسط)

في الجزء الأول من مجموعة أحمد منشاوي، تصطفُّ سلسلة لوحات صغيرة، تصوِّر جميعها وجوهاً يعتريها القلق. فالفنان المصري لفتته ملامح الإنسانية في زمن «كورونا». كان يرى الإنسان يمشي مرتدياً القناع خوفاً من الإصابة بالعدوى. وهو ما حضَّه، خلال إقامته في بروكسل، على تخيّل ملامحه الأصلية. وفي 30 لوحة يئنُّ أصحابها تحت وطأة أحاسيسهم، يُترجم أفكاره. مجموعة من النساء والرجال تصرخ بصمت، فتُخرج غضبها وقلقها وحزنها عابسةً في معظم الوقت.

تقنيته المرتكزة على الأكليريك تتدخَّل فيها أحياناً أنامل الفنان بعيداً عن ريشته (الشرق الأوسط)

يوضح مناويشي لـ«الشرق الأوسط»: «بدأتِ التجربة عندما كنتُ في بروكسل عام 2021. كانت مفاعيل الجائحة لا تزال تسيطر على حياتنا. جميعنا اعتقدنا بأنّ هذه الحقبة أبدية، كأنَّ سوادها لا حدود له. فرحتُ أتخيّل الناس الذين أراهم كأنهم خلعوا أقنعة الوقاية ورسموها. جميعهم كانوا مجهولين بالنسبة إليّ، ولا تربطني بهم أي علاقة. عندما عدتُ إلى لبنان، انتابتني الأحاسيس عينها. كانت الحرب محتدمة، وكان الناس قلقين، لا يعرفون مصيرهم. فرأيتُ بوضوح المجهول الذين يتخبَّطون فيه. حالة الترقب هذه حرّضت ريشتي على التحرُّك من جديد. ومن خلال تلك الحالتين، تناولتُ موضوع (المجهول)، إنْ من ناحية المشاعر أو المصير».

الإحساس بالتأرجُح في طريق لا رؤية واضحة لنهايتها، يُترجمه أحمد مناويشي. ويعترف من خلال ريشته بأنّ الانتظار مخيف، فكيف إذا كانت الأجواء التي يعيشها الناس غامضة؟

تحمل وجوه لوحات مناويشي أسئلة مختلفة تتعلّق بقلق المصير (الشرق الأوسط)

في واحدة من لوحاته، يشير إلى شخصيات مجموعة «أنونيموس» العاملة في مجال «النضال» عبر الاختراق البرمجي. راجت أعمالها المثيرة للجدل عام 2003، فمثَّلت مفهوماً لمستخدمي الإنترنت المجهولين. حينها، عَبَروا من العالم الواقعي إلى الوهمي في أعمال تتعارض مع الرقابة. اخترقوا مواقع حكومية عدّة، وأنظمة كومبيوتر أهم شركات الحماية. وولَّدوا «بلبلة» على أصعدة مختلفة، وهم يرتدون أقنعة تُعرَف بـ«جاي فوكس».

يتابع الرسام المصري: «قناع (الأنونيموس) كان الأشهر في القرن الحالي، فرغبتُ بالربط بينه وبين عنوان معرضي، لتُولد هذه اللوحة الوحيدة عن تلك المجموعة. مبدأ هؤلاء يرتكز على الثورة ورفض حُكم الدولة العميقة والسلطات العليا».

لم يعنون مناويشي لوحاته بأسماء معيّنة، فتركها مجهولةً. يقول: «رغبتُ في أن يسمّيها ناظرها كما يشتهي. أرنو إلى هذا التفاعل المباشر بين المُشاهد واللوحة». وهو يميل إلى المدرسة التعبيرية في الفنّ التشكيلي: «أحبُّ حالة الحركة في لمسات اللوحة وموضوعها، وأرغب في التواصل معها القائم على الشعور بأنها حيّة، فلا تكون باهتة تمرّ من دون تَرْك أثرها على ناظرها. لذلك، تسير ريشتي بشكل غير مُنتظم باحثةً عن نَفَس لا ينقطع؛ ومرات تتدخَّل أناملي مباشرة، فأبتعدُ عن ريشتي لتخرُج أعمالي من رتابتها، وتكسر تلك القدرة على التحكُّم التقليدي بمشاعر مُشاهدها».

تؤلّف الألوان التي يستعملها مناويشي حالةً بذاتها. فهو جريء باختيارها زاهيةً مرّات؛ ودافئة أخرى. يُحدِث زوبعة بألوان تبدو ثائرة، فتُعبّر عن الظلم والقلق والعنف: «مشاعر الإنسانية لا يمكن حصرها في بوتقة واحدة. وهذه الألوان تعبّر عن المشهدية المدفونة في أعماقنا، فتُبرز التنوّع في أحاسيس تنتابنا وفيها كلّ الاحتمالات. وهنا يأتي دور المتلقّي الذي يرى اللوحة من وُجهة نظره، ويُلاقي ما يمثّل تفكيره ومشاعره في أحد هذه الألوان».

ينقسم «المجهول» إلى قسمين من الأعمال التعبيرية (الشرق الأوسط)

في قسم لوحات الحرب، تأخُذ أعمال الرسام أحمد مناويشي منحى آخر، فيكبُر حجمها بشكل ملحوظ لتضع تفاصيل الوجه تحت المجهر. يعلّق: «هذه المساحات الكبيرة تزوّدنا بفرصة للتوضيح بشكل أفضل. فالعبور من زمن (كورونا) إلى زمن الحرب، كان لا بدَّ أن يحمل التطوّر. واعتمدتُ هذا التغيير؛ لئلا أقع في التكرار والتشابُه».

وأنت تتجوَّل بين أقسام معرض «المجهول»، تستوقفك ملامح وجه رجل حائر، ووجه امرأة تنظر إلى الغد بعتب. وأحياناً تلمس صلابة وجه آخر على شفير هاوية. وفي أخرى، تحملك ملامح رجل تلقّى صفعات الحياة بعينين حزينتين. لكنَّ جميع الشخصيات لا تبدو مستسلمة لقدرها، كأنها تقول: «وماذا بعد؟» على طريقتها.

يبرُز العنصر الأنثوي بوضوح في مجموعة «المجهول». وهنا كان لا بدَّ للرسام التشكيلي أن يعترف: «النساء لا يعرفن إخفاء أحاسيسهن ببراعة. مشاعرهن تخرج بقوة. لذلك نكتشفها بصورة أسهل من تلك الموجودة عند الرجل. فالأخير يحاول أن يُظهر صموداً تجاه مشاعره. ويفضّل ألا تُقرأ بسهولة».

يؤكد أحمد مناويشي أنه لا يحبّ تقييد نفسه بأسلوب رسم واحد. ويختم: «أفضّل التنويع دائماً، وعدم طَبْع لوحاتي بهوية واحدة كما يحبّ بعضهم. أُشبّه نفسي بروائي يؤلّف القصص ليستمتع بها القارئ، فلا يكرّر نفسه أو يقدّم ما يتشابه. ما أنجزه اليوم في عالم فنّ (البورتريه)، لم أقاربه مِن قبل. هو نافذة للتعبير. وهذا الاختلاف في الأسلوب يُحفزّني على دخول مدارس فنّية مختلفة. ما يهمّني هو تقديمي للناس أعمالاً يستمتعون بها فتولّد عندهم حبَّ الاكتشاف».