«دراسات في الهجرة الدولية ونظرياتها» تؤكد حاجتها لبحوث متعمقة

مهاجرون على متن قارب متهالك رسا في ميناء بجزيرة كريت (أ.ب)
مهاجرون على متن قارب متهالك رسا في ميناء بجزيرة كريت (أ.ب)
TT

«دراسات في الهجرة الدولية ونظرياتها» تؤكد حاجتها لبحوث متعمقة

مهاجرون على متن قارب متهالك رسا في ميناء بجزيرة كريت (أ.ب)
مهاجرون على متن قارب متهالك رسا في ميناء بجزيرة كريت (أ.ب)

صدر للباحث د. هاشم نعمة فياض، كتاب «العالم العربي دراسات في الهجرة الدولية ونظرياتها» عن دار غيداء للنشر والتوزيع في عمان بالأردن.
يؤكد الكتاب أن الحاجة تتزايد باستمرار إلى البحوث الأكاديمية المعمقة في مجال دراسات الهجرة السكانية، خصوصاً الدولية منها في العالم العربي، نظراً إلى أن بلدان منطقتنا باتت منذ عقود تشترك بقوة في تيارات الهجرة الدولية، سواء كبلدان مرسلة للمهاجرين أو كبلدان مستقبلة لهم أو تضم الصنفين معاً. وبما أن أصناف واتجاهات ومقررات وتأثيرات الهجرة الخارجية باتت تتصف بالتعقيد، وذلك من خلال ارتباطها بعمليات العولمة على النطاق المحلي والإقليمي والعالمي؛ لذا فحري بنا التعمق في دراستها، لأن ذلك يصب في النهاية في فهم آليات المتغيرات السكانية وتأثيراتها المترابطة في البنى الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويُسهم في رسم وتنفيذ وتقييم أي خطط مدروسة لانطلاق عملية التنمية بأبعادها الشاملة في بلداننا العربية.
يقع الكتاب في 244 صفحة من الحجم الكبير، ويضم الكتاب أربعة فصول، هي في الأساس بحوث أكاديمية كُتبت في أوقات مختلفة، وارتأينا جمعها في كتاب واحد لتكون في متناول المتخصصين والباحثين والقراء عموماً.
يبحث الفصل الأول في المفاهيم النظرية المتعلقة بالهجرة السكانية عموماً، ومدى أهميتها في تطوير فهمنا لآليات الهجرة ومقرراتها وأنماطها واتجاهاتها وتأثيراتها؛ إذ تحلل الدراسة نظريات الهجرة على المستوى الكلي وعلى المستوى الجزئي، وتبين تطورها عبر الزمن، والظروف الاقتصادية والاجتماعية التي نشأت فيها، وخصوصاً نشأة النظام الرأسمالي وتطوره وعلاقته القوية بموجات الهجرة، وعلاقة ذلك بتطور ظاهرة التحضر (توسع المدن). وخلال هذا التحليل تعقد الدراسة مقارنات بين المفاهيم والنظريات، وتبين مواطن قوتها وضعفها، وتنظر لها - ما أمكن ذلك - من ناحية انطباقها على الدول النامية، ومنها العربية. وتجري مناقشة لإبراز أوجه الشبه والاختلاف بين هذه المفاهيم والنظريات.
ويعالج الفصل الثاني تطور الهجرة واتجاهاتها من بلدان المغرب العربي إلى أوروبا، ويحلل ويقارن حجمها وطبيعتها، ويدرس هولندا نموذجاً، نظراً إلى تزايد ثقل المهاجرين القادمين من البلدان العربية فيها، وذلك من النواحي الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً المهاجرين المغاربة؛ إذ يركز البحث على دراسة تطورهم عبر الوقت، ونمط توزيعهم الجغرافي، ومصادر هجرة العمالة في المغرب، ونمط توزيعهم الجغرافي في هولندا، وأسباب الهجرة والاندماج في المجتمع الهولندي، وتصاعد العنصرية، والحد من عملية الاندماج والتحويلات، مع التركيز على العلاقة المتبادلة بين الهجرة والتنمية الاجتماعية - الاقتصادية، وبصورة خاصة بالنسبة إلى البلدان المرسلة للعمالة. أخيراً، تحلل الدراسة سياسات الهجرة وتخرج بخلاصة.
أما الفصل الثالث، فيدرس الهجرة الطلابية من البلدان العربية، إذ يتفحص الدراسات السابقة للموضوع. ويقوم بعرض إطار نظري للاستفادة منه في تفسير هذا النمط من الهجرة وفهمه. ويحلل اتجاهاتها الرئيسة والتحولات التي حدثت فيها زماناً ومكاناً؛ وذلك بالنظر إلى الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، والحروب الداخلية والخارجية، التي يعيشها عدد من البلدان العربية. ويدرس البنية العمرية والجنسية للمهاجرين، والبنية التعليمية، ومقررات الهجرة في بلدان الأصل والاستقبال، ويبرز ارتباطها بنسق عالمي بفعل عولمة الاقتصاد والخدمات وتدويل التعليم، ويركز التحليل على مقرر بطالة الشباب خصوصاً، لما له من تأثير بالغ، ويعالج تأثيرات الهجرة المتبادلة، وأهمية التحويلات. ويطرح مجموعة من المعالجات، وفي سياق التحليل يعكس البحث مقارنات بين البلدان العربية خصوصاً، والبلدان النامية والبلدان المتقدمة عموماً، وأخيراً يخرج باستنتاجات.
ويهدف الفصل الرابع إلى رصد هجرة الكفاءات العلمية العراقية وتحليل حجمها وأنماطها واتجاهاتها، واستعراض تطورها، ومعاينة البنية التعليمية للعراقيين في بلدان المهجر، والتحري عن أسباب الهجرة وأضرارها، وفي الأخير تقترح الدراسة عدداً من المعالجات لهذه الظاهرة للحد منها أو تخفيفها وعكس اتجاهها.



في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

جيمس بالدوين
جيمس بالدوين
TT

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

جيمس بالدوين
جيمس بالدوين

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ والروائي والمسرحيّ والناشط السياسيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل». وعندما نشر روايته «بلد آخر» (1962)، اختارت «الصنداي تايمز» الأسبوعية اللندنية المرموقة وصفه بـ«الزوبعة».

واليوم، وبينما يحتفل العالم بمئوية ولادته (في 2 أغسطس 1924)، تبدو تلك الأوصاف عاجزة عن إيفائه حقه لدوره اللامع في توظيف أدوات الخيال الأدبي لنقل النقاش حول المسألة العرقيّة في مجتمعات الولايات المتحدة إلى المستوى الشخصيّ لكل الأميركيين؛ ذوي البشرة البيضاء منهم، قبل السود. لقد تجرأ ابن حي هارلم الشعبيّ في نيويورك على نكء جروح مرحلة الفصل العنصري بكل آثارها النفسيّة العميقة، وكشف، بلغة وثيرة، عن مرارات تعتمل في قلوب المجموعتين على جانبي خط التفريق بين بني آدم وفق ألوان بشرتهم.

وقبل وقت طويل من وفاته بسرطان غادِرٍ في 1987، أصبحت كتاباته معياراً للواقعيّة الأدبيّة ومادة لا بدّ منها لفهم خليط الألم والتكاذب والنّدم الذي يملأ تاريخ الحياة الأميركيّة في القرن العشرين.

جاء بالدوين إلى الأدب من الصحافة، لكنّه كان قد حسم مبكراً اختياره لقضيته بانحيازه إلى الإنسان لمحض إنسانيته، فكانت مقالاته مثالاً متقدماً على استحضار روح الجرأة والشجاعة والمنطق الهادئ للتأثير على أهم الأسئلة التي طالما راوغ المجتمع الأميركي لتجنبها، فيما ألقت قصصه القصيرة ورواياته ومسرحياته بالضوء على معاناة الأفراد جرّاء تلك المراوغة المكلفة، مدققاً في كل الزوايا المظلمة التي حفرتها في الحياة الاجتماعية للأميركي العادي. على أن الاستماع اليوم لبعض من خطبه ومقابلاته المصورة تظهر كم وجدت روحه المحلقة صوتها الأعلى في الخطابة. لقد وقف ذات يوم أمام نخبة الأكاديميا البريطانية (بجامعة كامبريدج) كما شامان ينظر إلى ما وراء الأفق، وأنذرهم بأنه «لن يكون ثمة مستقبل للحلم الأميركي ما لم يكن الأفروأميركيين طرفاً فيه. هذا الحلم، إن كان على حسابهم، سيتحطم». لم يكن قلقه المزمن الذي لوّن خطابه نتاج يقينه بالفشل الكارثي للحلم الأميركي فحسب، بل وأيضاً جزعه من ذلك العجز الجمعي للشعب الأميركي عن التعامل مع تلك الكارثة. فأي بصيرة تلك، وأي جسارة على توصيف الظلام.

جمع بالدوين إلى موهبته الأدبيّة الظاهرة، ولغته المضيئة كما بلّورٍ صافٍ، قدرة بتّارة على استكشاف أوجاع ناس المجتمعات المعاصرة، واستقامة تفوق مجرد الصراحة في استدعاء مواضع الخلل المتوارية، وطرحها بكل عريها المخجل على العلن. لقد كان شخصية قلقة بامتياز، ولكن أيضاً مُقْلِقةً ومخلّة بالسلام الخادع الذي يتظاهر البعض به حفاظاً على أوضاع قائمة لمجتمع غارق حتى أذينه في لجة وهم الرضا عن الذات.

إن فلسفة بالدوين الأثيرة العابرة لمجمل تراثه الأدبيّ كانت دائماً وحدة المصير البشري بحكم الإنسانية المشتركة، ولذلك كان يرى أن مهمة المثقف المبدع لا تبتعد عن نطاق اكتشاف حر لمساحات القواسم المشتركة - على الرغم من وجود الاختلافات التي ينبغي عنده أن تكون مصدراً لإثراء الاتصال بين البشر، لا أساساً لخنقه - ليخلص إلى أن العائق الأساسي أمام تلك المهمة في حالة المجتمع الأميركي جبن أخلاقيّ ترسّخ في القطاع الأبيض منه ولم يَعُد يَسهُل اقتلاعه. على أن هذا التخلي، وفق بالدوين دائماً، لا يُلحق فقط أضراراً مدمرة بنفسيات الأفروأميركيين الذين تنكر عليهم إنسانيتهم، وإنما تسقط الأميركي الأبيض أيضاً في هاوية من الاستحقاق الظالم، وفقدان الحس الإنساني الأساسي، والتناقض القاتل.

انخرط بالدوين شاباً بالقراءة، ويبدو أنه لجأ إلى الأدب والأفلام والمسرح لتجاوز بيئته الفقيرة القاسية وهرباً من إغراءات الجريمة والمخدرات التي تفشت بين الشبان الأفروأميركيين بحكم الواقع الموضوعي لظروف عيشهم حينئذٍ فئة منبوذة. وكانت له في بداياته اهتمامات دينية تأثراً بزوج والدته الواعظ الإنجيليّ، لكنه سرعان ما بدأ، مع تفتح وعيه السياسيّ، بالتشكيك في منطق قبول السود للمبادئ المسيحية، التي استخدمت - في توظيف فجّ - لاستعبادهم. لكن تجربته في أجواء الكنيسة كانت مهمة كي يدرك أن لديه سلطة كمتحدث ومَلَكة كخطيب، ويمكنه التأثير على حشد من المستمعين.

بعد فترة وجيزة على تخرجه من المدرسة الثانوية بداية أربعينات القرن الماضي، اضطر بالدوين إلى العثور على عمل للمساعدة في إعالة إخوته وأخواته، بعدما أعجز المرض زوج والدته، لكن قناعة تكونت لديه بأن مستقبله سيكون في الكتابة، فانطلق يدبّج رواية بينما يجمع قليلاً من الدولارات بالعمل في وظائف بسيطة ومؤقتة إلى أن التقى ملهمه الأديب ريتشارد رايت في عام 1944، الذي تدبّر له أمر الحصول على زمالة يوجين إف ساكستون كي يتفرّغ للكتابة. ومع أن بالدوين بدأ يتلقى نوعاً من الاعتراف بموهبته من خلال قبول نصوص منه للنشر في مجلات مهمة، فإنه وبشكل متزايد شعَر بالاختناق والغربة عن المناخ الاجتماعي المسموم في الولايات المتحدة حينئذٍ، لينتهي به الحال إلى العاصمة الفرنسية باريس، حيث تكفلت أموال زمالة أخرى حصل عليها عام 1948 بتكاليف سفره، وفيها نشر روايته الأولى «أعلِنوا مولده من فوق الجبل» (1953) ومعظم أعماله التالية. ويشعر معظم من عرفوا بالدوين أن هذا الانتقال عبر الأطلسي كان جذرياً في مسار تطوره الفكريّ والأدبيّ، وفهم ذاته كأفروأميركي ينحدر من أسرة من المستعبدين تصادف أنه امتلك ناصية أدوات التعبير.

أمضى بالدوين الأربعين عاماً التالية متنقلاً في أرجاء أوروبا؛ حيث تعرّف على أشهر مثقفيها، مع زيارات قصيرة للولايات المتحدة لقضاء بعض الوقت مع عائلته الكبيرة، والمشاركة في المؤتمرات الأدبية المهمة كما نشاطات حركة الحقوق المدنية، فكان شاهداً على مسيرات الحركة الشهيرة في واشنطن (1963) ومونتغمري (1965) وغيرهما. لكن الاغتيالات التي طالت أصدقاءه من القادة الأفروأميركيين السود خلال ستينات القرن العشرين المضطربة (مدغار إيفرز، ومالكولم إكس، ومارتن لوثر كينغ الابن) أنهكته عاطفيّاً، وتسببت بمرضه؛ ليقصد، بداية السبعينات، جنوب فرنسا سعياً للتعافي.

اشترى بالدوين منزلاً له في سانت بول دي فينس الخلابة على أطراف جبال الألب، وتوفي فيه يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1987، بعد معركة قصيرة خاسرة مع سرطان المعدة. وقد دفن تالياً في مقبرة فيرنكليف بنيويورك، وأقيم لراحة روحه قداس مهيب شاركت فيه عائلته ورموز الثقافة الأفروأميركيّة، وكتب أحدهم - أوردي كومبس - في رثائه: «لأن بالدوين كان موجوداً معنا، شعرنا أن المستنقع العنصري الذي يحيط بنا لن يستهلكنا، ولست أبالغ حين أقول إن هذا الرجل أنقذ حياتنا أو، على الأقل، أعطانا الذخيرة اللازمة لمواجهة ما كنا نعرف أنه سيظل عالماً عدائياً ومتعالياً».