«اقتتال الإخوة»... ومؤامرة «بوب» عميل الـ«سي آي إيه» لإطاحة صدام

تنشر فصلاً من كتاب «ربيع الكرد الدامي» لكامران قره داغي

أطفال أكراد أمام جدارية مهشمة للرئيس العراقي صدام حسين قرب مخيم للنازحين الذين فروا أمام تقدم قواته في شمال العراق عام 1991 (غيتي)
أطفال أكراد أمام جدارية مهشمة للرئيس العراقي صدام حسين قرب مخيم للنازحين الذين فروا أمام تقدم قواته في شمال العراق عام 1991 (غيتي)
TT

«اقتتال الإخوة»... ومؤامرة «بوب» عميل الـ«سي آي إيه» لإطاحة صدام

أطفال أكراد أمام جدارية مهشمة للرئيس العراقي صدام حسين قرب مخيم للنازحين الذين فروا أمام تقدم قواته في شمال العراق عام 1991 (غيتي)
أطفال أكراد أمام جدارية مهشمة للرئيس العراقي صدام حسين قرب مخيم للنازحين الذين فروا أمام تقدم قواته في شمال العراق عام 1991 (غيتي)

يروي الكاتب الكردي كامران قره داغي، في «ربيع الكرد الدامي... شاهد وشهادات على الانتفاضة الكردية»، (يصدر قريباً عن دار المدى - العراق)، مشاهداته الشخصية على مراحل مهمة من تاريخ العراق المعاصر، لا سيما ما يتعلق بأكراده والصراعات التي كانت تدور بينهم، وتحديداً الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الراحل جلال طالباني، وبين الأكراد ونظام الرئيس الراحل صدام حسين في بغداد. شغل قره داغي منصب مدير مكتب الرئيس الراحل جلال طالباني نحو عامين ونصف العام بعد انتخابه رئيساً للعراق في أعقاب الغزو الأميركي عام 2003.
«الشرق الأوسط» تنشر اليوم فصلاً من الكتاب يتناول فيه قره داغي ما يصفه بـ«اقتتال الإخوة» في كردستان ودور مسؤول في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) يعرفه الأكراد بـ«بوب» في تدبير مؤامرة لإطاحة حكم صدام.

الاقتتال الداخلي، أو كما سمّاه الكرد وقتها «اقتتال الإخوة»، بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، اندلع في مارس (آذار) 1994. وصفه البعض بأنه حرب أهلية، على رغم أن القتال ظل محصوراً بين المقاتلين خارج المدن والمناطق المأهولة بالسكان.
فجّر القتال حادث بدا أنه كان محلياً في بلدة قلعة دزة، كان سببه خلافاً على أرض بين طرفين ينتمي كل منهما إلى أحد الحزبين، فإذا به ينتشر بسرعة على نطاق واسع بين قوات البيشمركة التابعة للحزبين. هكذا بدأ «اقتتال الإخوة» الذي استمر نحو خمس سنوات، وأسفر عن سقوط آلاف الضحايا من الطرفين بين قتيل وجريح وترحيل عائلات من بعض المناطق التي يسطر عليها هذا الحزب أو ذاك وبعض هذه العائلات لم تستطع أو لم ترغب لاحقاً في العودة إلى مناطقها الأصلية.
يجوز القول إن هذا الاقتتال الكردي – الكردي كان الثاني بعد 1991. أما الأول فكان في 1992 بين قوات مشتركة لبيشمركة الحزبين من جهة ومقاتلي حزب العمال الكردستاني من جهة أخرى. لكن الفرق أن الآخر اقتصر على مناطق جبلية على الحدود مع تركيا، وانتهى وفقاً لصفقة بين حزبي (عبد الله) أوجلان و(جلال) طالباني، وقد أدى إلى تداعيات زادت الخلافات بين حزبي طالباني (الاتحاد الوطني) وبارزاني (الديمقراطي الكردستاني).
حادث قلعة دزة، على رغم محليته، تحوّل الشرارة التي أشعلت اقتتالاً كانت أسبابه كامنة منذ أجريت الانتخابات في مارس 1992 وأسفرت نتائجها عن اتفاق بين الحزبين الرئيسيين على تقاسم السلطة مناصفة، أو «فيفتي - فيفتي» وفقاً للتسمية المشهورة التي انتشرت على كل لسان في كردستان؛ الأمر الذي أدى في النهاية إلى شلل تام تقريباً في إدارة شؤون المنطقة، ضاعفته خلافات حادة على تقاسم موارد الجمارك والاستئثار بالعمليات التجارية في مناطق حدودية مع إيران وتركيا خاضعة لأحد الحزبين، ناهيك بالطبع عن الصراع التقليدي على النفوذ، وهو صراع بدأ عملياً منذ الانشقاق في صفوف «الديمقراطي الكردستاني» في منتصف الستينات من القرن الماضي. «اقتتال الإخوة» اقترن بحملات إعلامية محمومة بين وسائل إعلام الحزبين وصلت إلى حد المهاترات وتبادل الشتائم والتجريح الشخصي، حتى أن أنصار الحزبين صاروا يستخدمون لوني رايتي الحزبين في تحديد الولاءات. فمن يفضّل اللون الأصفر فهو حتماً موال لحزب بارزاني، ومن يفضّل اللون الأخضر فهو، بالدليل القاطع، موال لحزب طالباني.

ما سلف أحداث معروفة كَتب عنها بتفاصيل كبيرة سياسيون وكتّاب ومحللون كرد وأجانب في مقالات وكتب ومذكرات وذكريات شخصيات كردية معنية ومشاركة في الأحداث، وقد أجمع في العموم من كتب عنها على وصفها بأنها «مؤسفة» و«مأساوية» و«كارثية». شخصياً سأتناول في هذه السطور تطورات وقصصاً كنت شاهداً ومطلعاً عليها. أكتفي بتأكيد ما هو معروف عن الاقتتال الدموي الذي كانت تتخلله فترات هدنة قصيرة سرعان ما تنهار.
الحق أن تفاقم الوضع والتوتر بين الحزبين الرئيسيين (في إقليم كردستان) والتمسك بتطبيق مبدأ الـ«فيفتي - فيفتي»، الذي كان ملزماً للجميع من القمة إلى القاعدة، في اتخاذ أبسط القرارات إن على صعيد الحكومة أو مؤسسات الإقليم، كان كله يحمل مؤشرات إلى أن الاقتتال كان سينشب عاجلاً وليس آجلاً. في أحد دفاتري الذي سجّلت فيه ملاحظاتي عن لقاء لي مع أول رئيس للوزراء في الإدارة الموحدة الدكتور فؤاد معصوم في أربيل عام 1993 أنه شكا بمرارة من أن ملء الشواغر الإدارية وصولاً حتى إلى تعيين عامل لحديقة، كان يجب أن يتم باتفاق بين المسؤول المعني ونائبه المنتميين إلى حزبين مختلفين؛ لأن كلاً منهما يشك في أن الآخر قد اختار شخصاً من أنصار حزبه ما كان يؤدي إما إلى نقاش طويل عبثي أو إلى تعيين عاملين يختار المسؤول الأول أحدهما ويختار نائبه العامل الآخر.
في ضوء هذه التطورات المقلقة وبعد عودتي إلى لندن من أنقرة في مطلع ديسمبر (كانون الأول) 1993، وجّهت رسالة إلى بارزاني وطالباني ضمّنتها ملاحظاتي المبنية على لقاءات كنت أجريتها في واشنطن وأنقرة مع مسؤولين أميركيين وأتراك معنيين بالشأن الكردي، وتحليلاً عن الاحتمالات المتوقعة في حال تفاقمت أزمة العلاقات بين الحزبين الكرديين الرئيسيين. ركّزت خصوصاً على موقف تركيا من تورط أو توريط «العمال الكردستاني» في الصراع بين الحزبين الرئيسيين في كردستان العراق. الأتراك، وتحديداً وزير الخارجية حكمت تشيتين (ومن مارس/ آذار 1995 جمع بين الوزارة ونيابة رئيس الوزراء) ووكيل الوزارة أوزدم سانبيرك والمسؤول المباشر عن الملف الكردي في الوزارة جنك دوعاتبة وآخرون، أكدوا أنهم يمتلكون معلومات دقيقة عن استعداد «العمال الكردستاني» للتدخل في أي قتال مقبل في كردستان العراق إلى جانب حزب طالباني ظاهرياً، لكن لتحقيق هدف أبعد يتمثل في الانتشار والسيطرة على مناطق في عمق كردستان العراقية، وشددوا على أن جميع الخيارات بالنسبة إليهم مطروحة بما فيها التدخل العسكري لمنع هذا الاحتمال. الأميركيون، من جهتهم، شعروا بالقلق وحذّروا من التداعيات الخطيرة المحتملة للاقتتال الكردي، وكانوا طبعاً يوصلون رسائلهم في هذا الشأن إلى القيادات الكردية مباشرة.
في رسالتي إلى طالباني وبارزاني (نص واحد ولكن لكل منهما على حدة) أشرت خصوصاً إلى مغبّة استخدام ورقة «العمال الكردستاني» في الصراع بين الحزبين. لم أتلق أي رد فعل من طالباني، لكنني تلقيت بعد أيام رسالة مطبوعة مختصرة من بارزاني وصلتني عبر الفاكس أدناه نصها:
«الأخ العزيز كامران قره داغي المحترم
تسلّمت رسالتكم ولا أخفي عليكم إعجابي بمضمونها وارتياحي من ملاحظاتكم القيّمة وأستطيع أن أقول بأنني لم أجد في الرسالة نقطة واحدة تتعارض مع توجهاتنا.
لقد اعتبرناها وثيقة مهمة ودُرست في اجتماع المكتب السياسي وتم تقييمها بإيجابية عالية.
مع فائق التقدير
أخوكم مسعود بارزاني في 13-12-1993».
وسيمر أكثر من خمسة أعوام أخرى بعد اندلاع القتال - الذي كان قد توقف نهائياً وفقاً لاتفاق بين الحزبين برعاية أميركية في 1998، قبل أن يقول لي «مام جلال» عندما التقيته أثناء زيارة له إلى لندن في منزل عديله الدكتور لطيف رشيد، وكان ثلاثة أو أربعة أشخاص قريبين منه حاضرين في الغرفة بينهم الدكتور فؤاد معصوم «كاك كامران... أعترف بأن رأيك في خصوص تركيا والـ(بي كي كي) كان صحيحاً».
- سنوات الاقتتال في كردستان
في عملي الإعلامي كنت أعد أخباراً وتقارير عن تطورات الاقتتال الداخلي معتمداً على معلومات أحصل عليها عبر اتصالاتي مع مصادر كثيرة في كردستان من أصدقاء ومعارف الحزبين الرئيسيين وصحافيين كرد وأجانب، في مقدمهم الدكتور أحمد الجلبي الذي كان من أهم مصادري، وكان وقتها يقوم بدور الوساطة بين الحزبين ولا يتردد في التوجه إلى مناطق القتال للاتصال مع القادة الميدانيين للطرفين معرّضاً أحياناً حياته للخطر وسط تبادل إطلاق النار. كان هو وعدد من مساعديه في المؤتمر الوطني العراقي مفوضين من الطرفين المتقاتلين بالانتقال دون التعرض لهم بين المناطق التي يسيطران عليها. وكنت أُسهم بين حين وآخر في كتابة عمود رأي كنت أنتقد فيه بشدة الحزبين المتصارعين، وكان ذلك يغضبهما وغالباً ما كان ممثلوهما، وأكثرهم أصدقاء، يتصلون بي للتعبير عن استيائهم من كتاباتي وحتى من كشفي معلومات تزعجهما كنت أحصل عليها من أطراف ثالثة. على الرغم من اندلاع القتال استمر برلمان كردستان في عقد جلساته برئاسة الراحل جوهر نامق القيادي في «الديمقراطي الكردستاني» الذي شغل المنصب فيما كان منصب رئيس وزراء الإدارة الموحدة يشغله الدكتور فؤاد معصوم القيادي في «الوطني الكردستاني»، وفقاً لاتفاق المناصفة. لكن قيادة الحزب الأخير أعلنت أن النواب المنتمين إليه أحرار في حضور أم عدم حضور جلسات البرلمان، فقرر عدد قليل منهم الحضور، بينما كانت الغالبية من الحضور من أعضاء الحزب الأول. ويُشار هنا إلى أن نواباً من الحزبين تركوا مقاعد البرلمان ليرتدوا زي البيشمركة والتحقوا بمقاتلي حزبيهما. لاحقاً عندما سيطرت قوات «الديمقراطي الكردستاني» على أربيل، اعتُقل معصوم وظلّ محتجزاً نحو ثلاثة أسابيع، ثم رفع الحجز عنه فغادر أربيل إلى السليمانية. وعندما سألته، بعد سنوات، عن فترة احتجازه، قال، إنه لم يكن مسجوناً، بل محجوزاً في بيت وعومل باحترام. في الأثناء، انتشرت إشاعات بأن السيدة هيرو إبراهيم أحمد، زوجة الراحل جلال طالباني، اعتُقلت أيضاً. طالباني شخصياً أبلغني بأنها معتقلة لدى «الديمقراطي الكردستاني». وتعليقاً على انتقادي بإيصال الوضع إلى حد الاقتتال، رد عليّ بعصبية: لماذا لا تنتقد بارزاني الذي سمح باعتقال هيرو؟ في مساء ذلك اليوم استطعت الاتصال شخصياً ببارزاني وأبلغته أن طالباني قلق جداً بسبب اعتقال زوجته من قبل حزبه، فنفى اعتقالها. وتبيّن فعلاً أنها لم تُعتقل واستطاعت مع بدء القتال أن تغادر إلى السليمانية.
- مؤتمر باريس
مع تصعيد الحملات الإعلامية بين الحزبين واستمرار القتال، ازداد قلق الكرد وأصدقائهم وأطراف دولية معنية بالاستقرار في المنطقة الكردية، حيث كانت هذه الأطراف تنفذ مشاريع لإعادة البناء، إضافة إلى تقديم المساعدات الإنسانية. بدأت جهود من أجل إنهاء القتال وإعادة السلام بادر إليها كتّاب ومثقفون ورجال أعمال في أوروبا وأميركا أيضاً. شخصياً حضرت اجتماعين في لندن مع فريق ضم السياسي البارز الدكتور محمود عثمان ورجل الأعمال دارا عطار والأكاديمي القانوني الدكتور نوري طالباني والناشط البارز في أميركا الراحل الدكتور نجم الدين كريم. في كردستان نفسها، انطلق حراك بادر إليه مثقفون غير حزبيين وآخرون من أنصار الحزبين في أربيل والسليمانية، قاده كتّاب وصحافيون وأكاديميون، وذلك في إطار الضغط على الطرفين المتصارعين لإنهاء القتال. أدت الضغوط الخارجية والداخلية، التي لعب أحمد الجلبي دوراً ملموساً فيها، إلى اتفاق بين الحزبين على وقف النار كان عبارة عن هدنة هشة جرت خلالها جهود لإحلال السلام وتفعيل الإدارة الموحدة. في إطار تلك الجهود عُقد في باريس، في منتصف يوليو (تموز) 1994، لقاءً بين حزبي طالباني وبارزاني بمبادرة من السيدة الفرنسية الأولى دانيال ميتران والمعهد الكردي في باريس الذي كان وما زال يرأسه الشخصية الكردية التركية كيندال نيزان، وشارك فيه ممثلون عن وزارة الخارجية التركية. وعلى رغم آمال عقدها كثيرون في كردستان، فإن اللقاء لم يسفر عملياً عن اتفاق جدي بين الطرفين. وكنت وجّهت في 11 يوليو 1994 رسالة إلى أعضاء الوفدين الكرديين الذين كنت أعرفهم ويعرفونني شخصياً ضمنتها اقتراحات لتحقيق اتفاق دائم يعيد الأمن والاستقرار إلى كردستان وتؤدي إلى حكم يعتمد الديمقراطية والتعددية والفصل بين السلطات وفرض سلطة القانون. كانت اقتراحاتي في الواقع نوعاً من التمنيات المفرطة في التفاؤل. هنا فقرات من الرسالة التي علمت أن أعضاء الوفدين تلقوا نسخاً منها:
«اقتراحي الأول كان يدعو إلى الفصل الكامل بين الأحزاب والسلطة وقلت إن هذا يعني: «1) المحاكم، لا الأحزاب، هي التي تحاكم، 2) البرلمان، لا الأحزاب، هو الذي يقرر السياسات ويراقب تنفيذها، 3) الحكومة، لا الأحزاب، هي التي تنفذ».
إلى ذلك، اقترحت التحضير لإجراء انتخابات جديدة خلال مدة أقصاها عام واحد على أساس المناطق وليس التمثيل النسبي. تماديت في التمنيات باقتراح آخر يدعو بارزاني وطالباني إلى أن يقتصر دورهما على زعامة حزبيهما ورسم السياسات، على أن تخضع قوات البيشمركة إلى سلطة الحكومة حصراً. كذلك تضمنت رسالتي اقتراحات على صعيد عمل المؤسسات الحكومية وتوفير الخدمات وتحسين ظروف المعيشة للسكان ومكافحة الفساد، وهي مشاكل رئيسية ما زال إقليم كردستان يواجهها. وفي إشارة إلى تخريب العلاقات بين الحزبين، كتبت «كفّوا عن الحملات الإعلامية السرية والعملية لكن شجعوا الانتقاد البنّاء، بما في ذلك الموجّه إلى زعيمي الحزبين وأعضاء الحكومة والبرلمان، في الصحافة والتلفزيون والإذاعة ولا تعصموا زعماءكم عن الخطأ، وعلّموا الشعب العلانية والصراحة والانتقاد». كذلك كتبت «كفّوا عن التجسس بين الأحزاب والتآمر بعضكم ضد بعضكم الآخر»، و«اشرحوا للناس أن الكيان الكردي هو مشروع مشترك بينهم والقيادات الكردية وليس قائماً على مبدأ العلاقة بين حاكم ومحكوم». وعلى صعيد مشروع الدولة، كتبت «قولوا إنكم عراقيون وابنوا سلطتكم بموجب نصيحة الإمام علي: اعمل ليومك واعمل لغدك. من فضائل هذا الطرح أنكم لا تظهرون بوصفكم الطرف الانفصالي فتستعدون عليكم بعضَ من يمكن أن يكونوا حلفاءكم من العراقيين وسائر العرب. ولهذا الطرح فضيلة أخرى هي إبقاء المجتمع مشدوداً إلى فكرة الدولة حتى ولو كانت دولة سيئة. من دون هذا الانشداد (وفي ظل التجربة شبه الدولتية الكردية اقتصادياً وتكوينياً) لا يجد الكرد ما ينشدّون إليه غير الولاءات القرابية والعشائرية. حتى التنظيم السياسي، في هذه الحال، لا يعدو عن كونه وعاءً عصرياً لهذه الولاءات». كذلك حذّرت من آيديولوجيات غير واقعية، تحديداً آيديولوجية «كردستان الكبرى» التي اعتبرت أنها في تلك الظروف (وحتى الآن كما أثبتت تجربة استفتاء الاستقلال في 2017)، أنها «تباعد بينكم وفهم العالم المعاصر. فهذا العالم لا يحب كثيراً الكلام العاصف عن تغيير الخرائط (وهذا ما يبرهن عليه خصوصاً الواقع منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وما سمّي يوماً بالمعسكر الاشتراكي). بدلاً من ذلك، أكّدوا على همومكم الملحة في كردستان العراق والتطور يجب أن يأتي طبيعياً. انظروا إلى العرب الذين جرّبوا جميع أنواع الوحدة: تقدمية – تقدمية وتقدمية – رجعية ورجعية – رجعية وإلى غير ذلك، وكلها فشلت لأنها تقوم على آيديولوجية الفكرة القومية الكبرى. لم تنجح سوى الوحدة الخليجية (مجلس التعاون الخليجي) لأنها قامت على المصلحة العملية البحت)». في الإطار، شجّعت على مد الجسور في اتجاه دول الخليج البعيدة عن التعامل مع الآخرين على أساس آيديولوجي «ضاعفوا جهودكم من أجل إقامة علاقات مع الدول الخليجية. لا تيأسوا من الفشل مرة ومرتين وأكثر. واصلوا المحاولات على رغم كل شيء. فالمبدأ الذي يجب أن تؤمنوا به هو أننا في حاجة إلى العالم والأصدقاء والحلفاء وليس العكس. لا شيء يأتي من تلقاء نفسه. إنها قضيتكم وليست قضيتهم، وعليكم أن تقنعوهم بأن دعم قضيتنا هو في مصلحتهم».
- بوب يخدع الكرد
في مطلع 1995، تسلّم روبرت بايير، الذي اشتهر بين الكرد باسمه المختصر «بوب»، مهمة محطة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) في كردستان، للتنسيق مع الجماعات العراقية المعارضة لنظام صدام حسين، وأقام مع فريقه في منتجع بيرمام (صلاح الدين). عمل «بوب» في الـ«سي آي إيه» 21 عاماً (1976 - 1997)، قبل أن يترك الجهاز ويمتهن الكتابة والتدريس الجامعي. طوال بقائه في كردستان، سعى بوب دون جدوى إلى إقناع إدارة الرئيس الأميركي وقتها بيل كلينتون بدعم خطة لإطاحة صدام. لاحقاً، استدعي بوب إلى واشنطن، حيث حققت معه وكالة التحقيقات الفيدرالية لتخطيطه لاغتيال صدام حسين من قبل ضباط عراقيين في الجيش، وهي عملية كشفتها الأجهزة الأمنية العراقية التي استطاعت اختراق المجموعة المتآمرة.
على صعيد آخر، كانت خطة بوب تقوم على دعم أميركي لمجموعة من قوات متعاونة في الجيش العراقي وأخرى تابعة للمؤتمر الوطني العراقي والبيشمركة، خصوصاً التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني، لإطاحة صدام حسين. لكن رفض إدارة كلينتون دعم خطته لم يحبط عزمه على تنفيذها بشن هجوم على قوات عراقية عبر خطوط وقف النار بين الكرد وبغداد، واستمر في تقديم خطته على أنها مدعومة من واشنطن. وبحسب روايات سمعتها من شخصيات، منهم الراحلان جلال طالباني وأحمد الجلبي وهوشيار زيباري، كان الاعتقاد في البداية، أن بوب مفوض من واشنطن المفترض، بحسب بوب، أن تقدّم دعماً جوياً يتزامن مع هجوم تشنه قوات مشتركة للحزبين والمؤتمر الوطني العراقي ضد القوات العراقية. أضاف طالباني، في روايته لي، أن اجتماعاً مشتركاً لممثلي المكتبين السياسيين تم فيه الاستماع إلى بوب شخصياً، وإثر ذلك تم الاتفاق على حشد قوات من بيشمركة الحزبين لشن الهجوم. ما حدث بعد ذلك أن الحزب الديمقراطي الكردستاني قرر فجأة، قبل ساعة الصفر، الانسحاب وعدم المشاركة في الخطة. أكد لي هذه الرواية الراحل أحمد الجلبي أيضاً. ومن دون الدخول في تفاصيل القصة وتداعياتها، أكتب فقط ما أعرفه وسمعته من شخصيات مشاركة في تلك الأحداث. وقتها، وكما سمعت من «كاك هوشيار» الذي كان آنذاك مسؤولاً عن العلاقات الخارجية لحزبه ومقيما في واشنطن، أنه أدرك في ضوء اتصالات أجراها في العاصمة الأميركية أن بوب لم يكن مفوضاً من قبلها. وإثر ذلك، أبلغ زيباري قيادة حزبه بالأمر، فكان قرارها الانسحاب من الخطة.
وزيادة في تأكيد هذه الروايات، أجريت في أثناء كتابة هذه السطور، وتحديداً في 9-6-2021، اتصالاً مع «كاك هوشيار» فأكدها، مضيفاً تفاصيل وافق على نشرها. قال، إن بوب زار وقتها مسعود بارزاني ليشرح له خطة إطاحة صدام حسين ومفادها شن هجوم من كردستان على مواقع للقوات العراقية ليتزامن ذلك مع تحرك لقوات عراقية متعاونة في الداخل تستخدم الدبابات للهجوم على القوات الموالية لصدام، في حين يقوم الطيران الأميركي بقصف دبابات القوات الموالية لصدام. ورداً على سؤال بارزاني كيف ستميّز الطائرات الأميركية بين الدبابات الصديقة والدبابات المعادية، قال بوب، إن الأولى ستستخدم لوناً مختلفاً لتمييزها. زيباري أشار أيضاً إلى أن الجلبي واللواء وقتها وفيق السامرائي، الذي شغل منصب نائب رئيس الاستخبارات العسكرية في العراق وفرّ مع عائلته لاحقاً بمساعدة الكرد إلى كردستان وانضم إلى المعارضة العراقية، كانا أكدا أيضاً أن قوات عراقية في الداخل متعاونة ومستعدة للتحرك ضد صدام. تابع زيباري أن بوب، بعدما عرض خطته على بارزاني، أكد ضرورة الحفاظ على السرية وشدد تحديداً على عدم «إبلاغ هوشيار بالأمر». وزاد زيباري، أن طلب بوب الغريب أثار شكوك بارزاني. وما أن غادر بوب حتى «اتصل بي بارزاني وروى ما قاله بوب وطلب مني أن أجري اتصالات مع الجهات المعنية في البيت الأبيض والبنتاغون والخارجية لمعرفة الحقيقة. إثر ذلك اتصلت بشخصية في فريق مجلس الأمن القومي، فقال، إنه سيستفسر ويعود إليّ. وبالفعل بعد نحو ساعتين تسلّمت رسالة مكتوبة مختصرة في سطور قليلة باسم أنتوني ليك الذي كان وقتها مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس كلينتون مفادها أن الإدارة الأميركية لا علاقة لها بالموضوع وأن أي تحرك في هذا الإطار تتحمل مسؤوليته الجهات التي تقوم به وليست مسؤولية الإدارة الأميركية. أضاف زيباري، أنه «في ضوء هذا التطور اتصلت بكاك مسعود وأبلغته برسالة ليك التي علمت لاحقاً أنها أُرسلت إلى طالباني والجلبي أيضاً. إثر ذلك، اتخذ كاك مسعود قراره بالانسحاب من العملية».
لكن ذلك لم يثنِ قيادة «الوطني الكردستاني» عن المضي في تنفيذ الخطة. وبالفعل قامت مجموعة من قواته بقيادة كوسرت رسول علي وقوات المؤتمر الوطني بالهجوم على مواقع الجيش العراقي. لم تستغرق المواجهة وقتاً طويلاً، قبل أن تنتهي بهزيمة هذه القوات واستسلام أو أسر عدد من الجنود. وطبعاً لم تتحرك أي قوات «صديقة» داخل العراق لإطاحة صدام. وذات صباح في أحد أيام فبراير (شباط) 1995، كنت في مكتبي في الجريدة عندما تلقيت اتصالاً من الجلبي الذي كان يستخدم جهاز «ثريا». قال مبتهجاً إنه يكلمني من مواقع تمت السيطرة عليها قبل قليل تابعة للجيش العراقي عبر خط وقف النار، وإن ضباطاً ونحو 600 جندي استسلموا إثر مواجهة لم تبدِ القوات العراقية خلالها مقاومة تُذكر. وتابع، أن «كاك كوسرت» يقف إلى جانبه، فأعطاه جهاز الهاتف ليتكلم معي. أكد «كاك كوسرت» لي ما قاله الجلبي، مضيفاً أن المعركة حُسمت بسرعة وأظهرت انهيار معنويات القوات العراقية. سألته ماذا بعد ذلك، فقال، إنهم لم يقرروا بعد. وقتها نشرت الخبر وأشرت فيه إلى الاتصال الذي تلقيته من الجلبي وكوسرت. العملية لم تستمر، وعاد الطرفان لاحقاً إلى مواقعهما السابقة. وهكذا انتهت مغامرة بوب العميل «المارق» للاستخبارات المركزية الأميركية!


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.