كانت حرارة باريس خانقة في الأيام الأولى من أسبوع الهوت كوتير لخريف 2015 وشتاء 2016، فقد وصلت إلى أكثر من 36 درجة مصحوبة برطوبة عالية لم تكن في صالح عاشقات الموضة وماكياجهن الذي كان يسيل، باستثناء من كانت ذكية واستعملت منتجات ومستحضرات مضادة للماء. أما بداخل قاعات العرض المترامية في أماكن متفرقة من العاصمة الفرنسية، فكانت هناك حرارة من نوع أخرى. حرارة تدغدغ الحواس وتؤكد أن «الهوت كوتير» بألف خير، وهذا الموسم تحديدا أبدع المصممون وقدموا أجمل ما رأيناه منذ فترة، سواء من حيث الجمال أو التنوع. من دوناتيلا فيرساتشي إلى راف سيمونز والثنائي «رالف أند روسو» مرورا بستيفان رولان، جيامباتيستا فالي، و«شانيل» وهلم جرا، تباينت التصاميم بين الفني والتجاري. وتجدر الإشارة هنا إلى أن انتعاش هذا القطاع فتح شهية بعض بيوت الأزياء التي دخلته لأول مرة مثل «فندي» الإيطالية، التي قدمت أول عرض «هوت كوتير» لها في باريس محتفلة بـ50 عاما على عمل كارل لاغرفيلد معها. هذا الانتعاش شجع أيضا الكثير من بيوت الأزياء والمجوهرات أن تنظم فعاليات جانبية زادت من ضغوطه، وحولته من أسبوع كان إلى عهد قريب أكثر راحة ومتعة مقارنة بموسم الأزياء الجاهزة، إلى أسبوع مضغوط ويصعب إيجاد فرصة للتنفس فيه. فالكل يريد أن يستغل وجود زبونات من العيار الثقيل ووسائل إعلام العالمي، لعرض أفضل ما لديهم وكسب ودهم، سواء بالماس أو بالورود أو بالأفكار المبتكرة التي تؤكد أن الأسبوع هو بمثابة مختبر للأفكار، كما هو الحال بالنسبة لراف سيمونز، مصمم دار «ديور» أو جس نبض للسوق أو فقط مخاطبة زبونات ثريات بلغة سلسلة وأنيقة كما هو الحال بالنسبة لجيامباتيستا فالي والثنائي «رالف أند روسو». ورغم أن موسم «الهوت كوتير» كان ولا يزال دائما عن الفخامة والأسعار النارية التي لا تعترف بما يجري في أرض الواقع بالنسبة للأغلبية من الناس، فإن ما يجري طوال الأربعة الأيام يؤكد أن أزياءه تبيع وتحقق الربح وأن زبوناته في تزايد مستمر. أما من حيث التصاميم، فإن الملاحظ أنه بعد سنوات من التحفظ والتفصيل الهندسي والفني، نشهد عودة واضحة إلى الرومانسية أو الإثارة الحسية من خلال فساتين منسدلة ومنسابة.
وهذا ما أكدته دوناتيلا فيرساتشي التي افتتحت الأسبوع يوم الأحد الماضي في مقر البورصة الفرنسية، حيث غيرت شخصية المكان بأن نثرت على القاعة مئات الورود، وكأنها تتحدى البورصة والأزمة التي تمر بها أوروبا، والقلق الذي كانت تعيشه الأسواق العالمية في الوقت الذي كانت فيه اليونان تقرر مصيرها وتتأهب للخروج من منطقة اليورو، الأمر الذي أصبح حقيقة في اليوم التالي. لا شيء في ما قدمته كان يشي بالقلق أو الخوف، بل العكس تماما، كانت أقوى تشكيلة تقدمها حتى الآن، حيث أعادتنا إلى عصرها الذهبي حين كان جياني فيرساتشي يتحفنا بفساتين أنثوية تعبق بالإثارة الحسية والثقة إلى حد الجرأة. لكن ما يحسب لها أنها إثارة محسوبة وحالمة تطلب بعضها نحو 600 ساعة لإنجازها. بعد العرض نفت دوناتيلا صفة الرومانسية عن التشكيلة وكأنها تنفي تهمة مضيفة: «إنها ناعمة تخاطب الجانب الأنثوي». هذه النعومة تُرجمت في فساتين طويلة من الموسلين بعضها مرصع بالكريستال وبعضها يبدو من الجوانب وكأنه غير مكتمل أو مُحاك، لكنها كلها تعبر عن ثقة عالية بالنفس.
الورود كانت أيضا لغة استعملها راف سيمونز يوم الاثنين، مع فرق أن الورد متجذر في ثقافة وجينات دار «ديور» ولا تكتمل الصورة تماما من دونها، لذلك فإن الفرق بينه وبين دوناتيلا أنه دائما يوظف هذه الورود بشكل أو بآخر، وهذه المرة على شكل حديقة مسحورة ومحرمة، فيها كل الملذات التي تخطر على بال، ليس فقط على مستوى الديكور بل أيضا على مستوى الأزياء والإكسسوارات كما تبين خلال العرض. الجميل في هذا المصمم أنه في الوقت الذي يقدم غيره، من إيلي صعب، جيورجيو أرماني إلى جيامباتيستا فالي، أزياء رائعة بلغة مباشرة تخاطب وتلبي رغبات امرأة مقتدرة تريد التميز بأي ثمن، يبقى هو من المصممين القلائل الذين ينجحون دائما في تقديم أزياء لامرأة من نفس الطبقة لكن من دون أن ينسى أن يعكس لنا ما يجري في العالم من تغيرات ثقافية واقتصادية وفنية بطريقة ما، مؤكدا أن الموضة الراقية، بمعناها الأصلي، هي قراءة للمجتمع وتغيراته، تماما كما فعلت كوكو شانيل في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي والراحل إيف سان لوران في الستينات والسبعينات. ونظرة إلى ما قدمه في متحف «لورودان» يوم الاثنين تشير إلى أن امرأة هذه الفترة تتنازعها القوة والنعومة، الهندسية والفنية الشاعرية، التحفظ والجرأة، والحشمة والرغبة. فبعد أن فرضت نفسها في مجال العمل وحققت النجاح والاستقلالية لم تعد بحاجة إلى إملاءات الغير لتفرض عليها أسلوبا معينا، وبدأت في المقابل تعود إلى معانقة أنوثتها ودورها كامرأة من دون أن تتنازل عن قوتها وثقتها بنفسها. كل هذا ترجمته الأقمشة المتنوعة في القطعة الواحدة، أي الشفاف والسميك، كذلك التصاميم التي تجمع الناعم المنسدل بالمفصل والأكمام الطويلة التي لعب عليها المصمم بشكل مثير للانتباه. طبعا الديكور الذي اختاره جسد هو الآخر هذا التناقض، بألوانه الحية وبعض الفواكه، البطيخ تحديدا، المتناثرة على الأرضية بينما زينت الجوانب والسقف بالزجاج، الذي زاد من حرارة المكان، لكن أيضا شكل لوحة انطباعية جميلة، تشير إلى اهتمام المصمم بفكرة «الفاكهة المحرمة»، أو بالأحرى ذلك الصراع بين البراءة والطهارة وبين الترف والبذخ المبالغ فيه. فحديقته لهذا الموسم ليست عن الورود المتفتحة والحالمة بشكلها الرومانسي، كما كان العهد سابقا في دار «ديور» بل هي عن كل ما هو محرم وممنوع، ونحن نعرف أن الممنوع مرغوب دائما. بلغته، تجسد هذا في فساتين طويلة بعضها بفتحات جانبية أو ببليسيهات تظهر من تحت أورغنزا شفافة، وبعضها موشاة بالسلاسل، بينما جاءت أخرى من الحرير بتطريزات سهرت عليها الأنامل الناعمة لساعات طويلة، غطت صدرها قطع مصنوعة بالمعادن على شكل مربعات، أو مشربيات، وفي بعض القطع الأخرى غطتها حتى الركبة تقريبا. إلى جانب الفساتين الطويلة كانت هناك فساتين يمكن استعمالها للنهار أو أي مناسبات أخرى إلى جانب معاطف بياقات واسعة تمزج التفصيل بنوع من اللامبالاة التي تمثلت في الأحجام الكبيرة، وبنطلونات واسعة، بل حتى في قطع من الجلد والفرو التي زادت الإحساس بالحرارة بداخل القاعة الزجاجية، وربما كانت ستصيب الأغلبية بالإغماء لولا أن تركيزهم على الفنية المتحركة أمامهم وما تحتاجه من تفكير ذهني لتشرب إيحاءاتها، أنساهم لنحو 20 دقيقة كل شيء حتى الإحساس بالضيق الناتج عن التعرق. فهذه لم تكن تشكيلة للعين فحسب، بل لكل الحواس، وكأنك تتابع فيلما يمزج الواقع بالخيال في حبكة مثيرة تتطلب كامل قواك الذهنية. تنسى للحظات أنك تتابع أزياء ليست عادية، بمعنى أنها موجهة لامرأة تعيش في عالم موازٍ لا يعيش فيه سوى عدد من النساء تعرف الدار الفرنسية أنهن أصبحن أكثر شبابا وتقديرا لها ولفنيتها، وبالتالي يردن أزياء تروي قصة أو لها تاريخ على الأقل، لا مجرد أدوات لإبراز جمالهن أو أنوثتهن فحسب. وهذا ما منحهن لهن راف سيمونز، من دون أن يتنازل عن أسلوبه الخاص. فقد برهن طوال السنوات التي قضاها في «ديور» أن في جعبته الكثير من القصص التي يريد أن يرويها بطريقتهن وفي هذه التشكيلة أكد أنه حقق أخيرا المعادلة الصعبة بين الفني والتجاري، كما برهن أنه أتقن جانب الـ«هوت كوتير» الذي لم يكن متمرسا فيه عندما دخل «ديور» أول مرة، حين كانت قوته تكمن في الأزياء الجاهزة أكثر. الآن يمكن أن يقول إنه تشرب الرومانسية واكتسب الثقة التي تمكنه من صياغتها بأسلوبه الحداثي.
الرومانسية كانت أيضا عنوان عرض «رالف أند روسو» لكنها رومانسية من نوع آخر تماما. فمصممة الدار تامارا رالف من المدرسة التي تؤمن بقصص الأساطير وبأن المرأة إما أميرة أو تحلم بأن تكون كذلك.
عندما تدخل القاعة في شارع «غامبون» تشعر بالانتعاش وبأنك في واحة تتنفس فيها هواء نقيا بفضل التكييف، الذي لا توفره كل القاعات غير المجهزة للتعامل مع درجات الحرارة تصل إلى أكثر من 36 درجة. ثم تواجهك خلفية على شكل غابة مسحورة في الجهة التي ستطل منها العارضات، تبين أنها جزء من القصة التي نسجتها عن أميرة روسية شابة متمردة تخرج إلى اكتشاف العالم والتمتع به قبل تتويجها.
لكن الأزياء لم تجسد هذا التمرد على الإطلاق. فكل ما فيها يليق بإمبراطورة وليس بأمير بدءا من تقنياتها وتطريزاتها الغنية إلى تفاصيلها الأخرى الغنية، مثل الأقمشة المترفة التي تباينت بين الحرير والمخمل والموسلين أو البليسيهات التي تبدو في بعض التنورات وكأنها مروحات إسبانية، أو الترصيعات التي غطت في بعض الأحيان فساتين بأكملها. أقل ما يمكن القول عن التشكيلة أنها ملكية، أو كما جاء في الورق الموزع فوق الكراسي، قيصرية. وبالفعل فبعض الأشكال البيضاوية مستوحاة من فابرجيه، بينما استوحيت التطريزات الرومانسية في بعضها من أرشيف لوساج. ويبدو أن المصممة لا تؤمن بأن القليل كثير، بل العكس تماما، فحتى البروكار الذي لا يحتاج عادة إلى أي إضافات زخرفية نظرا لترفه، رصعته بالأحجار كذلك المخمل، ليطرح السؤال: هل جاءت الصورة مبالغا فيها، أو أصابت بالتخمة؟ والجواب، ومن دون تردد هو: أبدا. فقد أبهرت وشدت الأنفاس، لأنه من الصعب تصور أن يأخذ البذخ والفخامة إلى حد الإسراف، هذه الصورة الحالمة، ويحتاج إلى خيال خصب وقدرة على الابتكار لا يمتلكها أي كان، وهذا ما يفرق مصمم عن آخر وقطعة «هوت كوتير» عن قطعة جاهزة.
إبداعات تنعش الحواس وتخفف من وطأة الحرارة في باريس
حدائق مسحورة وفخامة غير محسوبة في أسبوع الأزياء الراقية لخريف 2015 وشتاء 2016
إبداعات تنعش الحواس وتخفف من وطأة الحرارة في باريس
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة