قسوة التدابير التقشفية تلاحق معسكري «نعم» و«لا» في اليونان

في شارع سولونوس خلف مبني البرلمان اليوناني وسط أثينا، توقف بنايوتي، الذي يبلغ من العمر (33 عاما) ويعمل صرافا في أحد البنوك، بسيارته ليترك زوجته فاسيليكي (29 عاما)، وهي عاطلة عن العمل، ووالده المتقاعد، لينضما إلى المظاهرات التي تنادي بالتصويت بـ«لا». بينما استكمل هو ووالدته، مديرة مدرسة ابتدائية، طريقه للذهاب إلى ميدان كالومرمارو حيث يتم تنظيم مظاهرة التصويت بـ«نعم» في الاستفتاء!
ربما المراقب للأمر يستعجب كثيرا، ويتساءل كيف لأسرة واحدة مكونة من أربع أشخاص، تنقسم في الرأي ووجهة النظر إلى هذه الدرجة، ولكن اليونان موطن الديمقراطية؛ اثنان منهم انضما لمظاهرة «لا» والاثنان الآخران لمظاهرة «نعم»، وبسؤال الأشخاص الأربعة، تبين أن الاثنين اللذين ذهبا لتجمع «لا» الذي ألقيت فيه كلمة رئيس الوزراء ألكسيس تسيبراس، هما من المتضررين وليس لديهما عمل، فالزوجة فاسيليكي عاطلة ووالد بنايوتي متقاعد وخسر قرابة نصف معاشه الشهري خلال السنوات الأخيرة، ولذا فكلاهما يرفض مطالب الدائنين لأنهما يشعران بأنهما يعيشان عالة على الآخرين، بينما بنايوتي ووالدته من المحظوظين في اليونان ولديهما عمل رسمي يتقاضيان منه راتبا شهري.
هذه هي إحدى الحالات التي رصدتها «الشرق الأوسط» في خضم الأحداث المتلاحقة والمؤسفة التي تلم باليونان واليونانيين في الفترة الأخيرة، وتخلي الشركاء الأوروبيين عن بلد من المعروف أنه ضمن الاتحاد الأوروبي وضمن مجموعة اليورو، وقد تقاس معظم حالات بقية الأسر اليونانية على هذه الحالة. وفي هذا البلد الأوروبي 3 ملايين شخص تحت خط الفقر، وأكثر من مليوني عاطل عن العمل، هم من المتضررين بسبب السياسات التي يفرضها الدائنون والاتحاد الأوروبي على اليونان التي قالت كثيرا إن ديونها غير قابلة للسداد، ولكن لم يهتم بهذا الأمر المستفيدون من الدول الغنية التي تربح أموالا طائلة من وراء سياسة الإفقار التي يتم اتباعها مع الشعب اليوناني.
فعندما انتخب الشعب اليوناني حكومته الجديدة في يناير (كانون الثاني) الماضي، كان طموحه أن تستطيع هذه الحكومة التعامل مع أزمة الديون ومتطلبات الدائنين، وعلى رأسهم الاتحاد الأوروبي، لكن الواقع أنه، وفي أول اختبار لهذه الحكومة، حولت المسألة إلى الشعب ليقرر مستقبله، والغريب في الأمر أن الحكومة إلى الآن لم تقدم للشعب شروط الاتحاد الأوروبي التي وصفتها بالظالمة والمهينة، مكتفية فقط بدعوته إلى التصويت بـ«لا»، خصوصًا بعد تصريح رئيس المفوضية الأوروبية بأن الحكومة اليونانية تكذب على شعبها، وأن الشروط الأوروبية قريبة جدًا مما تقدمت به اليونان.
وحاول رئيس الوزراء اليوناني ألكسيس تسيبراس للمرة الأخيرة مساء الجمعة الماضي وقبل عملية الصمت الانتخابي، تعبئة مواطنيه وحضهم على التصويت بـ«لا» على شروط الدائنين، وذلك على حد مقولة: «للعيش بكرامة في أوروبا»، وقال وسط تصفيق الحضور: «نحن نحتفل بفوز الديمقراطية.. اليونان توجه رسالة كرامة، لا أحد يملك الحق في التهديد بتقسيم أوروبا».
وقال رئيس الوزراء زعيم اليسار الراديكالي في تجمع لأنصار «لا» ضمَّ أكثر من 25 ألف شخص، ووفقا لمراقبين آخرين 35 ألف شخص، احتشدوا في ساحة سيندغما أمام البرلمان: «عليكم أن تذهبوا بهدوء إلى صناديق الاقتراع» وأن تمعنوا النظر في الحجج، لا الشعارات، موضحا أن الاستفتاء الشعبي الذي يجري يتعلق بما إذا كان شعبه سيزداد فقرا وبؤسا أم لا.
وأضاف تسيبراس قائلا: «أدعوكم للتصويت بـ(لا) ضد الانقسام ودعاية ترويج الخوف»، ودافع رئيس الوزراء اليوناني عن الاستفتاء، آملاً في أن تشطب الجهات الدائنة ثلث ديون بلاده وأن تسمح بتأخير إيفاء الدين المتبقي. وقال للتلفزيون الوطني إن الاستفتاء «وقت للمسؤولية والديمقراطية يهدف إلى إسكات صفارات الإنذار بالدمار». وأشار تسيبراس إلى أن «اليونان كانت وستظل مهد الحضارة الأوروبية.. فمن هذا المكان كما تقول الميثولوجيا اختطف زيوس أوروبا.. ومن هذا المكان يريد تكنوقراط التقشف اختطاف أوروبا مرة أخرى.. ونحن سنقول لهم (لا).. لن نترك أوروبا في أيدي من يريدون اختطافها من تقاليدها الديمقراطية».
وأوضح تسيبراس: «نريد أن تعود أوروبا للقيم التي أسست عليها والتي تجاهلتها طوال السنوات الماضية لأجل تطبيق برامج التقشف التي تقود إلى طريق مسدود وتجبر الشعوب على خيارات لا تريدها».
وحث تسيبراس اليونانيين على أن يقولوا «باعتزاز (لا) للإنذارات و(لا) لمن يحاولون ابتزازهم وإرهابهم»، مؤكدا: «إننا لن نقرر يوم الاستفتاء ما إذا كنا سنبقى في أوروبا أم لا، وإنما سنقرر ما إذا كنا سنعيش بكرامة وعلى قدم المساواة في أوروبا».
وأضاف تسيبراس قائلا: «يوم الاثنين، أيا تكن نتيجة العملية الديمقراطية والإرادة الشعبية التي تخوف البعض منها، سنقول أيضا (لا) كبيرة وواضحة للانقسام.. أيا كان قرارنا يوم الأحد لن يوجد يوم الاثنين أي شيء يفصل بيننا»، وأشار تسيبراس إلى تقرير صندوق النقد الدولي الذي يؤكد أن الدين العام الضخم لليونان غير قابل للسداد دون شطب نسبة كبيرة منه، الأمر الذي يؤكد صحة دعوته الناخبين لرفض شروط المقرضين.
وفي الوقت ذاته، تجمع أكثر من 22 ألف مناصر للتصويت بـ«نعم» ومراقبون آخرون، يقولون أكثر من 30 ألف «نعم» أمام الملعب الذي شهد أول ألعاب أولمبية في العصر الحديث في 1896، مرددين شعارات مؤيدة لأوروبا وسط أعداد كبيرة من الأعلام اليونانية.. وأكد كثير من المتحدثين من فوق منصة التظاهر سواء من الفنانين أو المثقفين أو الرياضيين إن «(نعم) سوف تمنح مستقبلاً أفضل للشعب وللأجيال الجديدة».
وقال فاسيلي فاسلوبولوس، وهو محلل اقتصادي: «الأمر يحتاج إلى تضامن عالمي ومساعدات دولية، التي تفتقدها أثينا حاليا، حتى تكون هناك إعادة بدء للاقتصاد اليوناني، ولا يوجد أي تقدم في المفاوضات أو تنازلات من الاتحاد الأوروبي، لأن في استطاعة الاتحاد المساعدة ببرنامج لسنوات أكثر وبأرباح أقل أو فوائد ثابتة حتى تستطيع أوروبا ضمان بقاء هذه الدولة على قيد الحياة داخل الاتحاد». وأجرت «الشرق الأوسط» لقاءات متفرقة مع المواطنين اليونانيين حول الاستفتاء والأزمة التي تعيشها اليونان سواء سياسيا أو اقتصاديا في الفترة الأخيرة، وقالت خريستينا باباداكيس (29 عاما) وهي مدرسة: «هذا الاستفتاء شيء جيد لأنه يمنح الفرصة للمواطنين أن يعبروا عن رأيهم، وأعتقد أن الأفضل التصويت بـ(لا) لأن كل هذه الإجراءات التقشفية لا يمكن أن تمر، لأنها لو تم إقرارها فسوف يتم تخفيض المعاشات والأجور، ويجب علينا منع ذلك، لأن الشعب اليوناني عاني كثيرا خلال السنوات الأخيرة من جوع وحزن ولا يمكن أن يستمر على هذه الحال».
وقال يانيس ثيوظورس، وهو مهندس اتصالات، لـ«الشرق الأوسط»: «لا أعتقد أنه يمكن التوصل لاتفاق في الوقت الراهن يرضي جميع الأطراف، خصوصا يرضي مصلحة الاتحاد الأوروبي وتطلعات الشعب اليوناني»، فيما قال ديمتريس مازوناكيس، وهو مهندس متقاعد: «حتى هذه اللحظة لم أحدد بماذا سوف أصوت في الاستفتاء، لأنني لا أعرف الحقيقة حتى أقرر، والخطأ أن الحكومة تركت الوقت يمر من دون الاستفادة منه والتوصل للاتفاق المطلوب، وللأسف الحكومات السابقة أيضا ارتكبت أخطاء، وأنا الآن ليس مع أحد، ولكن أحاول أن أتبين الأفضل».
كما قال بانيوتيس ثوذوراكي، وهو صاحب محل تجاري: «الأزمة كبيرة جدا، الناس لا يأتون إلى السوق للشراء، البنوك مغلقة، المواطنون ليست معهم أموال، هناك خوف مما نسمعه من وسائل الإعلام، والناس تأخذ أموالا قليلة وتحاول الحفاظ عليها. أنا أريد أن أسدد فواتير الكهرباء والمياه، ولا أستطيع سحب أموال من البنك، كما أنني أعاني كثيرا من الانتظار لسحب 60 يورو مصاريف يومية، ولكن أتمني التوصل لاتفاق حتى نستيقظ من هذا الكابوس».
ويقول المراقبون إن اليونان تحب أن تضع نفسها في موقف الضحية، لكن الواقع يقول إن حكومات اليونان دأبت على حل مشكلاتها وإرضاء شعوبها عن طريق القروض وترحيل دفعها إلى الحكومات اللاحقة، واليوم نرى أن المواطن اليوناني يتم استفتاؤه على رغبته في الحصول على قروض جديدة أم لا، وتحمّل تدابير تقشفية جديدة أم لا.