123 عامًا على صدور مجلة «الهلال» أول مجلة ثقافية شهرية عربية

عددها الجديد يحتفي بذكرى ثورة يوليو و5 سنوات على رحيل نصر أبو زيد

جرجي زيدان  -  غلاف العدد الأول من مجلة «الهلال»
جرجي زيدان - غلاف العدد الأول من مجلة «الهلال»
TT

123 عامًا على صدور مجلة «الهلال» أول مجلة ثقافية شهرية عربية

جرجي زيدان  -  غلاف العدد الأول من مجلة «الهلال»
جرجي زيدان - غلاف العدد الأول من مجلة «الهلال»

من مطبعة متواضعة في دكان صغير بشارع الفجالة بقلب القاهرة صدر أول أعداد مجلة «الهلال» العريقة، خرج ذلك العدد في 32 صفحة، وكان ذلك في أول سبتمبر (أيلول) عام 1892. واليوم تحتفي مجلة الهلال بمرور 123 عاما على صدورها، بل الأحق أن نحتفي باستمراريتها وقدرتها على تجديد أقلامها وخطابها مع التحولات الثقافية المتلاحقة على مدار سنوات صدورها، لتترك أثرها في الحياة الثقافية والأدبية والفكرية المصرية والعربية.
أسس مجلة «الهلال» جرجي زيدان المولود في بيروت عام 1861 والمتوفى بالقاهرة عام 1914، وكان يتولى أمورها بنفسه من إدارة وتحرير ومكاتبات وغير ذلك، ولما لقيت نجاحا عهد بإدارتها لشقيقه. كان زيدان موفقا في اختيار حي الفجالة لإصدار مجلته، خاصة أن موقعه في مواجهة محطة قطارات السكة الحديد، الأمر الذي ساعد على انتشار مجلته في أنحاء وربوع مصر.
خرج العدد الأول بغلاف ورقي تتصدره كلمة «الهلال» بخط بارز، يحمل تعريفا بالمجلة على أنها: «مجلة علمية تاريخية أدبية» لمنشئها جرجي زيدان، وقيمة الاشتراك السنوي بها خمسون قرشًا، وكتبت هذه العبارات باللغتين العربية والإنجليزية. وكانت أبواب المجلة 5 أبواب: «أشهر الحوادث وأعظم الرجال»، و«الروايات»، و«تاريخ الشهر»، و«المنتخبات من الأخبار»، و«التقريظ والانتقاد».
صدر العدد الأول يحمل افتتاحية بقلم مؤسسها جرجي زيدان أوضح فيها سياستها التحريرية، وغايته من إصدارها: «أما فاتحتنا فحمد الله على ما أسبغ من نعمه وأفاض من كرمه، والتوسل إليه أن يلهمنا الصواب وفصل الخطاب، أما خطتنا فالإخلاص في غايتنا، والصدق في لهجتنا، والاجتهاد في وفاء حق خدمتنا، ولا غنى لنا في ذلك عن معاضدة أصحاب الأقلام من كتبة هذا العصر في كل صقع في مصر. أما الغاية التي نرجو الوصول إليها فإقبال السواد على مطالعة ما نكتبه، ورضاؤهم بما نحتسبه، وإغضاؤهم عما نرتكبه، فإذا أتيح لنا ذلك كنا قد استوفينا أجورنا، فننشط لما هو أقرب إلى الواجب علينا».
وأوضح زيدان أسباب اختيار «الهلال» اسما لمجلته في افتتاحية العدد الأول: «وقد دعونا مجلتنا هذه (الهلال) لثلاثة أسباب.. أولاً: تبركًا بالهلال العثماني الرفيع الشأن، ثانيًا: إشارة لظهور هذه المجلة مرة في كل شهر، ثالثًا: تفاؤلاً بنموها مع الزمن حتى تتدرج في مدارج الكمال. فإذا لاقت قبولاً وإقبالاً أصبحت بدرًا كاملاً بإذن الله».
وكان جليا حرص جرجي زيدان على كسب القراء عن طريق الثقة والنزاهة والإخلاص والابتعاد عن التهويل أو الزيف أو الخداع، والسعي إلى الأمانة والإنصاف والاعتدال. حرصت «الهلال» على الحياد التام، وتجنب الخوض في المسائل السياسية المباشرة، والابتعاد عن التيارات السياسية، وتحاشي الاصطدام مع سلطات الاحتلال الإنجليزي، والتركيز على تنمية الثقافة العامة ونشر الموضوعات والأخبار العلمية والأدبية والتاريخية.
وبنظرة على أعدادها على مدار نحو قرن وربع القرن من الزمان، تعتبر مجلة «الهلال» سجلا وديوانا لتاريخ مصر، فقد عاصرت كبرى الحوادث في تاريخ مصر والعالم، فأصبحت أعداده وثائق تاريخية بالكلمات والصور. فقد واكب صدور مجلة الهلال عام 1892 وفاة الخديوي توفيق بقصره بحلوان وتولي عباس حلمي الثاني عرش مصر الذي حظي بتعاطف الحركة الوطنية. كما وثقت «الهلال» بالأعداد التذكارية التي كانت تصدر احتفالا بأعياد ميلادها لأحداث هامة، فقد واكب الاحتفال باليوبيل الفضي لها عام 1917 حينما كانت الحرب العالمية الأولى تعتصر البشرية، وجاء العيد الذهبي لها سنة 1942، حينما كانت الحرب العالمية الثانية في أخطر مراحلها، وحاصرتها أزمة مالية لكنها لم تتوقف، بل صدرت كل شهرين ما بين أعوام 1940 و1947 ومنذ ذلك الحين لم تتوقف عن الصدور أول كل شهر. أما «العيد الماسي» لها فواكب عام 1967 وكانت مصر تعيش مأساة نكسة 5 يونيو (حزيران). وصادف عيدها المئوي عام 1992 انحسار الحرب الباردة وحزن المصريين على أثر الزلزال الذي ضرب مناطق واسعة منها، وخلف عددا كبيرا من الضحايا، ويأتي احتفالها هذا العام بمرور 123 ومصر تحاول في السنة الثانية بعد تخلصها من حكم الإخوان أن تنفض عنها أيادي الإرهاب التي تودي بحياة الأبرياء وتحاول نزع استقرارها.
تطورت مجلة الهلال لتكون نبتة لمؤسسة صحافية كبرى، فتحولت المطبعة الصغيرة في الفجالة إلى دار كانت تطل على ميدان التحرير، ثم انتقلت إلى موقعها الحالي في شارع «المبتديان» في بداية الأربعينات. صدر عنها عشرات المطبوعات الدورية أهمها: مجلة «المصور»، وسلسلة كتاب «الهلال»، و«روايات الهلال»، ومجلة «الكواكب» الفنية، ومجلة «حواء»، ومجلة «سمير» للأطفال وسلسلة «ميكي جيب».
وعلى مدار 123 عاما، استكتبت المجلة د. زكي مبارك، ومي زيادة، وخليل مطران، وزكي طليمات، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وعباس العقاد، وبنت الشاطئ، وسهير القلماوي، وأمينة السعيد، وأحمد بهاء الدين، ونجيب محفوظ وغيرهم من أعلام مصر والعالم العربي. وتناوب على رئاسة تحريرها أعلام الصحافة والأدب، فتولى رئاسة تحريرها جرجي زيدان من عام 1892 إلى 1914، وبعده ابنه إميل زيدان، ثم الدكتور أحمد زكي، وعلي أمين، وكامل زهيري، ورجاء النقاش، ودكتور علي الراعي، وصالح جودت، ود. حسين مؤنس، وكمال النجمي، ومصطفى نبيل، ومجدي الدقاق، وعادل عبد الصمد، ومحمد الشافعي، ويتولى رئاستها حاليا الكاتب والروائي سعد القرش.
وفي عددها الجديد، يوليو (تموز) 2015، قال رئيس تحريرها سعد القرش: «تحجز مجلة (الهلال)، منذ الآن، مساحة لدى القارئ في الاحتفال معا، بعد عامين، باليوبيل الفضي بعد المائة، قائلة بفخر إن 125 عاما من عمر (الهلال) المجلة الأقدم عربيا، ليس حدثا عابرا في حياتها المديدة، ويجب ألا يمر مرور الكرام. سيكون السؤال عن أسباب استمرار مجلة أرادها مؤسسها جرجي زيدان (علمية تاريخية صحية أدبية): كيف احتفظت بحيويتها، وجددت شبابها، وطورت لغتها؟».
تجيب المجلة عمليا بعدد دسم يضم ملفا وافيا عن «فيسبوك»، بدراسات وقضايا وشهادات لشعراء وسينمائيين ومدونين ونقاد من العالم العربي، وبعضهم يطل من خارجه، فيرى الصورة أكثر وضوحا كما أرادها المخرج والكاتب باسل رمسيس الذي أعد الملف، وشاركت فيه الفلسطينيتان أثير صفا وجنان عبده، واللبناني حسام عيتاني، والعراقية منال الشيخ، والسوري ياسين السويحة، والأردنية لبنى بجالي، والمصريون: خليل كلفت، وخالد أحمد يوسف، ومحمد خير، ومحمد عبد الرحيم، ونجاة علي، ووائل فاروق الذي يكتب دراسة ختامية للملف عنوانها «نصف واقع.. نصف وعي».
يتزامن عدد يوليو مع مرور 5 سنوات على وفاة د. نصر حامد أبو زيد، فتكتب زوجته د. ابتهال يونس عن الوجه الإنساني للإسلام كما قدمه أبو زيد، وفي الملف شهادتان من هولندا لكل من د. عمرو رياض وأرنولد ياسين موي، وهو باحث هولندي، درس الكيمياء البيولوجية ودرس اللاهوت المسيحي في كلية الدراسات الكاثوليكية بجامعة أوترخت، وحاليا يدرس بجامعة لايدن الفكر الإسلامي خاصة حقوق الإنسان في تراث الفكر الإسلامي القديم والحديث، وقد أسلم وكتب شهادة يقول فيها إن أبو زيد «كان معلما حقيقيا لا يحتاج إلى قاعة درس». وترجم شهادة موي الكاتب المصري المقيم بأميركا جمال عمر الذي كتب أيضا شهادة عن نصر أبو زيد.
ومع «ذكرى» ثورة يوليو 1952، تتساءل المجلة: ماذا يبقى من تجربة جمال عبد الناصر؟ ويجيب الكاتب السوري المقيم في باريس د. بدر الدين عرودكي في قراءته لكتاب «الصقر المصري» الذي صدر حديثا للكاتب الفرنسي غيلبير سينويه. في هذا الملف أيضا يكتب د. مصطفى نور الدين «ثورة يوليو.. بقايا ورماد»، ويكتب د. أحمد يوسف «ثورة يوليو والسينما: الامتداد والارتداد»، ويحدثنا مصطفى بيومي عن علاقة نجيب محفوظ بالثورة، بينما تفسر د. ياسمين فراج أسباب بقاء الأغنية الوطنية في مصر عبد الناصر.
وتقدم الكاتبة السورية هيفاء أحمد الجندي تحليلا للمحتوى الاجتماعي للثورة السورية، وتعيب على البعض التعامل بفوقية مع البعد الاجتماعي الذي شمل الجوع والتهميش كعوامل دفعت للثورة مع الوعي بالحرية بالطبع. وعن قضية اليسار أيضا يكتب السعودي أحمد بوقري، كما يناقش محمود عبد الوهاب العلاقة بين «الدين والقومية»، ويكتب د. نبيل حنفي محمود عن ثلاثة أئمة كتبوا شعرا غنائيا، ويترجم العراقي حسين عبد الزهرة مجيد «موكب أورفيوس» للشاعر الفرنسي جيوم أبولينير، وتكتب د. وجدان الصائغ عن تجربتها في قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة ميتشغان، ويترجم حسين عيد مقابلة مع توني موريسون تتحدث فيها عن جوانب من سيرتها، وعن محمد علي كلاي ومارلون براندو والتباس التاريخ الأميركي. أما الكاتب اليمني محمد الغربي عمران فيكتب تحت عنوان «قصة اليمن بين روائح البارود» تعليقا على ملف القصة اليمنية الذي نشرته «الهلال» في عدد يونيو (حزيران) 2015. وفي الفن التشكيلي يكتب محمود الشيخ عن معرض مجدي نجيب، كما تكتب د. سما يحيى عن معرض محمد عبلة.



أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري
TT

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً. وسواء كانت الحروب عبر التاريخ تُشن بفعل الصراعات الإثنية والدينية والآيديولوجية والرغبة بالسيطرة والاستحواذ، أو اتخذت شكل الدفاع عن الحرية والمقاومة ضد الاحتلال، فإن نتائجها الوخيمة لم تقتصر على دمار المنازل والمباني والمعالم المادية للعيش، بل تعدت ذلك لتصيب الدواخل الإنسانية بالتصدع، ولتحدث انهياراً كاملاً في نظام القيم وقواعد السلوك، ولتضع علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر في مهب الشكوك والتساؤلات.

همنغواي

على أن من المفارقات اللافتة أن تكون الحروب الضارية التي أصابت الاجتماع الإنساني بأكثر الكوارث فظاعةً وهولاً، هي نفسها التي أمدت الفلسفة والفكر والفن بالأسئلة الأكثر عمقاً عن طبيعة النفس البشرية، ودوافع الخير والشر، ونُظُم الاجتماع الأمثل، فضلاً عن دورها المهم في تغيير الحساسيات الأدبية والفنية، ودفعها باتجاه الحداثة والتجدد. وإذا كان السؤال حول الآثار التي تخلفها الحروب في مجالي الأدب والفن هو من بين الأسئلة التي لم يمل النقاد والمهتمون عن طرحها مع كل حرب جديدة، فإن الإشكالية التي يتم طرحها باستمرار تتعلق بدور الكتاب والمثقفين في زمن الحرب، وعما إذا كان هذا الدور يقتصر على إنتاج النصوص والأعمال الإبداعية، أم أن على الكتاب والفنانين أن يدافعوا بحكم انتمائهم الوطني والقومي والإنساني عن قضايا شعوبهم بشتى السبل والوسائل الممكنة.

وإذا كان هذا النوع من الأسئلة لا يجد له إجابات قاطعة، لأن كل شخص يرى من وجوه الحقيقة ما يلائم مواقفه وتوجهاته، فقد تمكّننا العودة إلى التاريخ من استجلاء بعض الحقائق المتعلقة بمواقف الشعراء والمبدعين من الحروب والنزاعات الأهلية، وبما قاموا به، خارج النصوص والأعمال الفنية، من أدوار وإسهامات. ولعل أول ما يحضرني في هذا السياق هو التجربة الرائدة للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، خلال الحرب الدامية التي نشبت بين قبيلتي عبس وذبيان، التي عرفت عبر التاريخ بحرب داحس والغبراء. فقد حرص زهير على وصف الحرب بما يليق بها من نعوت، محذراً من نتائجها الكارثية عبر أبياته المعروفة:

وما الحرب إلا ما علمتمْ وذقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

تضْرَ إذا ضرَّيْتموها فتضرمِ

فتعرككمْ عرْك الرحى بثفالها

وتَلْقحْ كشافاً ثم تُنتجْ فتتئمِ

إلا أن زهيراً الذي رسم في معلقته إحدى أكثر اللوحات الفنية دلالة على فظاعة الحروب وهولها الكارثي، رأى أن من واجبه كإنسان وكفرد في جماعة، أن يحرض على نبذ العنف، ويدعو إلى تحرير النفوس من الأحقاد والضغائن. وهو إذ راح يمتدح كلاً من داعيتي الصلح، الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فلم يفعل ذلك تملقاً أو طلباً للثروة والجاه، بل فعله انتصاراً لمواقفهما الأخلاقية النبيلة، ولما قدماه من تضحيات جسام بهدف إطفاء جذوة الحرب، وإحلال السلام بين المتنازعين.

تولستوي

ومع أن الحروب بأشكالها المختلفة قد شكلت الظهير الأهم للكثير من الأعمال الملحمية والروائية، فإن قيمة العمل المتولد عنها لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية في المعارك والمواجهات، بل موهبته العالية وتفاعله مع الحدث، وكيفية الانتقال به من خانة التوصيف السطحي والتسجيلي إلى خانة الدلالات الأكثر عمقاً للعدالة والحرية والصراع بين الخير والشر، وصولاً إلى الوجود الإنساني نفسه.

وإذا كان تاريخ الأدب بشقيه القديم والحديث حافلاً بالبراهين والأدلة التي تضيق الهوة بين الخيارين المتباينين، فيكفي أن نعود إلى هوميروس، الذي لم تحل إصابته بالعمى وعجزه عن المشاركة في الحروب، دون كتابته لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة»، تحفتي الأدب الخالدتين. كما يمكن الاستدلال بتولستوي الذي لم تكن رائعته الروائية «الحرب والسلم» ثمرة مشاركته المباشرة في حرب نابليون على روسيا القيصرية، وهو الذي لم يكن أثناءها قد ولد بعد، بل ثمرة تفاعله الوجداني مع معاناة شعبه، ورؤيته النافذة إلى ما يحكم العلاقات الإنسانية من شروخ وتباينات. ومع أنه لم يجد بداً من الانخراط في الجندية في وقت لاحق، فإنه ما لبث أن تحول إلى داعية للمحبة ونبذ العنف، وتحقيق السلام بين البشر.

أما الجانب الآخر من الخيارات فتمثله تجارب كثيرة مغايرة، بينها تجربة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي قدم عبر حياته الحافلة، النموذج الأكثر سطوعاً عن العلاقة بين الكتابة والحياة، وهو الذي لم يكتف بوصف الحرب عن بعد، كما فعل كتاب كثيرون، بل عمد إلى الالتحام المباشر بميادينها المحفوفة بالمخاطر، الأمر الذي وفرته له مهنته كمراسل حربي للصحف التي عمل فيها. والواقع أن فائض القوة العضلي لهمنغواي، والتزامه الوطني والإنساني، لم يكونا الدافعين الوحيدين لمشاركته في الحروب التي خاضها، بل كان دافعه الأساسي متمثلاً في البحث عن أرض ملموسة لكتابة رواياته وقصصه المختلفة. وإذا كان انخراط الكاتب الفعال في الحرب العالمية الأولى هو الذي يقف وراء تجربته الروائية المبكرة «وداعاً أيها السلاح»، فإن مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية دفاعاً عن الجمهوريين، وجنباً إلى جنب مع كتاب العالم الكبار، هي التي ألهمته رائعته الروائية اللاحقة «لمن تُقرع الأجراس».

وفي السياق نفسه يمكن لنا أن نضع تجربة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي دفعه شغفه البالغ بالطيران إلى الالتحاق بقوات بلاده الجوية، ولم يثنه تحطم طائرته في إحدى الطلعات، عن الإمعان في مغامرة التحليق وصولاً إلى نهايته المأساوية عام 1944. غير أن ذلك التحليق بالذات هو الذي أتاح لسانت إكزوبيري أن يرسم عبر «الأمير الصغير» صورة لكوكب الأرض، بعيدة عن العنف ومترعة بالنقاء الطفولي.

قيمة العمل المتولد عن الحروب لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية فيها

ثمة بالطبع شواهد كثيرة، لا تتسع لها هذه المقالة، على الخيارات المتباينة التي اتخذها الكتاب والفنانون في أزمنة الحروب، والتي يتجدد السجال حولها مع كل حرب تقع، أو كل مواجهة تخوضها الشعوب مع غزاتها المحتلين. وإذا كان بعض المبدعين لا يرون علة لوجودهم سوى الإبداع، ولا يجدون ما يقدمونه لأوطانهم في لحظات محنتها، سوى القصيدة أو المعزوفة أو اللوحة أو سواها من ضروب التعبير، فإن بعضهم الآخر يرسمون لأنفسهم أدواراً مختلفة، تتراوح بين الدفاع عن الأرض، لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبين التظاهر وإصدار البيانات المنددة بارتكابات الاحتلال ومجازره وفظاعاته، وصولاً إلى إسهام الكاتب الشخصي في التخفيف من معاناة شعبه، ورفده بأسباب المقاومة والصمود.

على أن أي حديث عن دور الكتاب والفنانين في زمن الحرب، لن يكون له أن يستقيم، دون الإشارة إلى عشرات الإعلاميين والمصورين والمراسلين في فلسطين ولبنان، الذين أسهمت تقاريرهم الميدانية الجريئة في إظهار الطبيعة الوحشية للاحتلال، وفي فضح ادعاءاته الزائفة عن الالتزام بقواعد الحرب الأخلاقية والإنسانية. وإذا كان من المتعذر تماماً استعادة أسماء الإعلاميين والمراسلين الكثر، الذين أصروا على المواءمة بين الواجبين المهني والإنساني، حتى لو كانت حياتهم نفسها هي الثمن، فيكفي في هذا السياق أن نتذكر الكاتبة والإعلامية اللبنانية نجلاء أبو جهجه، التي قامت بالتقاط صور مختلفة لجثث الأطفال المدلاة من سيارة إسعاف بلدة «المنصوري»، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1996، فيما حرصت في الوقت ذاته على مد يد العون للجرحى المتبقين منهم على قيد الحياة. وفيما غادرت نجلاء هذا العالم، وقد أنهكها مرض عضال، قبل أيام معدودة، لن تكف العيون المطفأة للأطفال، عن ملازمة صوَرها المؤثرة، وتجديد عقدها مع الضوء، وتوزيع نظرات اتهامها الغاضبة بين عدالة العالم المفقودة ووجوه الجلادين.