مرافقو القوات السعودية في جازان.. العقل والعين والعضلات

مراسل «الإخبارية» على خط الحدود مع أحد القيادات العسكرية السعودية
مراسل «الإخبارية» على خط الحدود مع أحد القيادات العسكرية السعودية
TT

مرافقو القوات السعودية في جازان.. العقل والعين والعضلات

مراسل «الإخبارية» على خط الحدود مع أحد القيادات العسكرية السعودية
مراسل «الإخبارية» على خط الحدود مع أحد القيادات العسكرية السعودية

على هضبة في أعالي جبل من جبال محافظة الداير في جازان أولَمَ «ضابط» ورفاقه لطاقم قناة «الإخبارية»، على بعد أمتار من الأرض التي نفترشها خارج خيمتهم توجد إطلالة على قرية يمنية، يُشاهد فيها تحركات يُعتقد أن بعضها لأنصار الحوثي. درجات الحرارة منخفضة ورائحة الطعام زكية، ولا تخلو الأجواء من احتمال مواجهة قتالية تندلع في أي لحظة.
سألت قائد المجموعة المكونة العسكرية: ما الشعور الذي يختلجكم وأنتم تدركون أن القتال قد ينشب في أي لحظة؟ أجاب: «مرحبا بالشهادة». ثم سرد قصصا من تجربته في الحرب مع جماعة الحوثي عام 2009 قائلا: «قُدت مجموعة في أكثر من مواجهة. أتذكر يوما ما أن جندي الإشارة المرافق لي سلمني جهاز اللاسلكي المحمول على ظهره، وما إن التقطته منه حتى أصيب بطلقة نارية وسقط على الأرض، وأثناء القتال أصيب على مقربة مني جندي آخر بطلقة في عنقه واستشهد على الفور».
كان يتحدث وكنت أعجب من أين لهم بهذا الثبات! لم يمهلني وقتا للتفكر فيما أتساءل فيه بخلدي؛ إذ استطرد قائد المجموعة وهو ضابط في القوات المسلحة برتبة «رائد»: «كلما تحين ساعة الصفر لنخوض مواجهة قتالية، نتوضأ ونصلي ركعتين ونباشر المعركة، أما الخوف فلا وجود له، إذ ينزعه الله من قلوبنا في تلك اللحظات».
في موقع آخر للمدفعية يشرح قائد المجموعة، وهو أيضا برتبة «رائد» في القوات المسلحة، المهام التي يقوم بها في وصف تبسيطي لي بقوله: «إن الأعمال التي يقوم بها الضباط والجنود قائمة على ثلاثة أركان، العقل والعين والعضلات». يصور العين بعمل الملاحظين في الخطوط الأمامية وما يرصدون من مشاهدات للعدو، سواء بالعين المجردة من خلال التقنيات المستخدمة وكاميرات الرصد الحرارية، أما العقل فهو أعمال الضباط وضباط الصف الذين يقومون على برمجة الأسلحة الثقيلة، كالمدفعية، عبر الأعمال الحاسوبية ويتحكمون من خلالها بمدى القذائف وطريقة تفجرها لتحقق أفضل نتائج في إصابة الهدف، فمنها ما يتبرمج لأن يتفجر على ارتفاع عند الهدف، ومنها ما يتفجر لحظة الارتطام بالهدف، والاختلاف مرهون بطبيعة الهدف. أما العضلات فهي الآلة التي يقوم على تشغيلها طواقم متخصصة.
أراد قائد المجموعة أن يصف أعمال القوات العسكرية لصحافي في تصوير يوضح من خلاله أن العسكرية ليست كما يتصورها البعض، مبينا أن العامة من الناس يعتقدون أن أعمال الجندي المقاتل لا تزيد على الحاجة للياقة البدنية والهرولة والامتداد. لكنها في الواقع تحتاج إلى مهارات ذهنية وتتطلب أن يكون الجندي والضابط مسلحين بالعلوم والمعرفة قبل أي شيء.
ويقول إن في بعض الوظائف العسكرية يجب أن يكون المقاتل متمكنا في علوم مختلفة، منها الرياضيات، لأن الأعمال في الأسلحة الثقيلة تتطلب إجراء عمليات حسابية معقدة.
منذ انطلاق عمليات عاصفة الحزم، وجدت كمراسل لقناة «الإخبارية» في الخطوط الأمامية، واستطعت بفضل الله الوجود في مواقع عالية الخطورة. لكني أدركت بعد شهر من التغطية أن المشاهد بات يظن أن جازان بكامل محافظاتها تحولت إلى منطقة عمليات عسكرية خلال الحرب. عندها تراجعت إلى المدينة وتعمدت مراسلة القناة من الأسواق والكورنيش. بعد نحو أسبوع من تعمد الظهور على الهواء في شاشة قناة «الإخبارية» وجدت زملاء في قنوات أخرى أخذوا يمارسون النهج نفسه، ربما لأن الواقع يتطلب ذلك فعلا.
سألني أحد الزملاء: لماذا تراجعت؟! أجبته أن المُشاهد لا بد أن يعرف من خلال الكاميرا كيف هي حياة الناس في الواقع. وجدت في البث من الأسواق ومن داخل المدينة «تقريبا» للصورة الحقيقية؛ إذ إن الناس في المناطق الحدودية «رُغم الحرب» يعيشون حياة طبيعية آمنة. وربما ساهمت وسائل الإعلام بإعطاء صورة غير حقيقية للمشاهد من خلال التركيز على الخطوط الأمامية.
عاصمة منطقة جازان هي مدينة جيزان، قبل عمليات عاصفة الحزم لم أكن أعرف إلا القليل عنها. بعد إيفادي إليها مراسلا لقناة «الإخبارية»، أيقنت أن هذه المنطقة لم تنل حقها إعلاميا، جازان المكان وجازان الإنسان في جمال مُبهر. الناس هنا على درجة مذهلة من الكرم والبساطة، الطبيعة أيضا لا تقل إبهارا عن جمال البشر. بحر جيزان العاصمة لا يقل جمالا عن البحر في جدة أو الدمام. وجازان المنطقة ليست الساحل، إنما الجبل والريف اللذان يشكلان بقية الصورة الأخّاذة.
الناس في جيزان يشتركون في لزمة لفظية، فكلما أرادوا الإشادة بشيء أو إظهار الإعجاب نحوه، تنهدوا بلفظ الجلالة «الله»، ينطقون اللفظة في مدّ يدلّ على القصد. وكلّما تنقلت في المنطقة، كنت أعجب كيف أن الناس حين تأتي سيرة أميرهم، الأمير محمد بن ناصر، أطلقوا تلك اللزمة «الله». بدا لي أن الأمير محمد بن ناصر حظي بحب حقيقي لا نفاق فيه من قلوب أهالي المنطقة. حظي بحُب لافت. الشباب.. الشيوخ.. النساء.. حتى المقيمون باختلاف جنسياتهم، يرون أن الأمير محمد بن ناصر هو الفارس الحقيقي في ميدان نهضة المنطقة وتحولاتها. «الجوازنة» يعشقون منطقتهم، لكنهم في ظني لم يتوصلوا إلى الطريقة المثلى لتسويق جمالها.



إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.