سطح «الترفيه» العميق

السعودية ستقتحم مجال استديوهات تطوير الألعاب فضلاً عن استضافتها للفعاليات العالمية  (الشرق الأوسط)
السعودية ستقتحم مجال استديوهات تطوير الألعاب فضلاً عن استضافتها للفعاليات العالمية (الشرق الأوسط)
TT

سطح «الترفيه» العميق

السعودية ستقتحم مجال استديوهات تطوير الألعاب فضلاً عن استضافتها للفعاليات العالمية  (الشرق الأوسط)
السعودية ستقتحم مجال استديوهات تطوير الألعاب فضلاً عن استضافتها للفعاليات العالمية (الشرق الأوسط)

الكتابة عن «الترفيه» متعة في حد ذاتها، خاصة أن عبقرية اللغة العربية تقود الأفكار بسلاسة.
المصدر «رفه» في معاجم اللغة، يشير إلى الإمتاع والتسلية واللعب والتنفيس والاستجمام والراحة والرفاهية، ويتجلى في العديد من الأنشطة التي يمارسها الإنسان – والجماعة - بكامل إرادته، في الزمان والمكان المناسبين، ويتحدى الملل والرتابة وضغوط الحياة؛ حتى يستعيد لياقته الذهنية والوجدانية والجسدية.
هذه المعاني والدلالات قلما نجدها «مجتمعة» في لغة أخرى غير لغة الضاد، التي تشير بوضوح إلى أننا كبشر نستحق «الترفيه»، أو قل: أن ننعم «بحق التمتع»، ومن ثم فإنها تأخذ «الترفيه» على محمل «الجد»، وهي أحدث صيحة في العالم اليوم.

(1)
ارتبط الترفيه باللعب منذ البداية، حيث ظهر تعبير «الإنسان اللاعب» في مقابل الإنسان العاقل، مع المؤرخ والفيلسوف الهولندي يوهان هويزنجا في دراساته المختلفة: اللعب هو «مركز» الحضارة، ويسبق الثقافة ويشكل أساسها، ولا يفارق الطفل داخلنا مهما تقدم بنا العمر، ففي اللعب تكمن حرية الإنسان وقدراته ومتعته أيضاً.
تتبع هويزنجا في كتابه «الإنسان اللاعب» – صدر عام 1949 - هذه الظاهرة بدءاً من أفلاطون وحتى أوائل العالم الحديث، بينما كشف نيتشه في كتابه «الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي»، أن هيرقليطس هو أول من ربط بين «اللعب» و«الفن» و«الترفيه» و«الحياة»، فقد فهم الوجود والعالم باعتباره ظاهرة جمالية محورها «اللعب»، وكما يلعب الطفل ويبدع أشكالاً من الرمال على شاطئ البحر، يلعب الرسام بالألوان والنحات مع الحجر.
أهمية هيرقليطس – كما يقول نيتشه – في كونه لم يسقط في شباك اللغة، على عكس من جاء بعده من الفلاسفة؛ لأنه قال في براءة ما رآه ببساطة: في «لعبة المصارعة اليونانية»، يكمن «سر» تفسير «الصراع» في الطبيعة، وفي لعبة الديمقراطية السياسية أيضاً.
هذه الشذرة العبقرية تعيش معنا إلى اليوم، ومن السهل أن نتعرف على «نظام الفكر» في أي عصر من العصور من خلال اللعب (الألعاب) الأكثر شيوعاً. وحديثاً كشف لنا بسكال بونيفاس عن الوشائج بين كرة القدم والعولمة، التي وحّدت الأذواق في العالم وحافظت في الوقت نفسه على الهويات الوطنية، فقد انتشرت في أركان العالم الأربع أكثر من شبكة الإنترنت، ناهيك عن أن قرارات منظمة «فيفا» أكثر احتراماً وإلزاماً للدول من قرارات هيئة الأمم المتحدة!

(2)
الألعاب الرقمية لا تقل جاذبية ومتعة عن الألعاب التقليدية. وخلال ثلاثة عقود اكتسبت أهمية متزايدة بفضل التطورات المذهلة للكومبيوتر الذي تفوق على الاختراعات الأخرى بالقدرة على معالجة أي شيء يمكن رقمنته، من الحروف والأرقام وحتى الأصوات والصور، وما يستجد.
وبفضل هذه الثورة الرقمية تغلغل الترفيه في كل مسام حياتنا تقريباً، من شبكات التواصل عبر الإنترنت إلى الملاهي ومن وسائل الإعلام والاتصال، إلى الميادين والشوارع والمتاجر (والمدن الحضارية الذكية) والمتنزهات العامة وقاعات الأفراح والفنادق والسفن العائمة العملاقة (كروز)، ناهيك عن أنه ألغى «الحدود» بين الفنون المختلفة والأعمال التي تشبه الفنون، والثقافة الشعبية والثقافة الرفيعة، وأزال الفوارق بين الواقع الأصلي والواقع الافتراضي، وصار «ساحة ألعاب كبيرة» محببة للناس، ناهيك عن أن الترفيه أصبح أهم «سلعة» جاذبة لأكبر عدد من المستهلكين حول العالم، استثمارات وأرباح بالمليارات سنوياً.
لقد أعاد بناء وظيفة الواقع نفسه، ووجدنا في فن «العمارة الترفيهية» على سبيل المثال، مكان واحد تتزاحم فيه: عجائب الدنيا السبع مع القلاع والقصور والكاتدرائيات والمساجد والمعابد (المنتشرة في دول العالم المختلفة).
وصارت الأماكن التي تجسد المستقبل وتلضم في خيط واحد ما هو تاريخي وفني، افتراضي وواقعي، ومادي وغير مادي، هي الأكثر إمتاعاً وجاذبية عند الجمهور.
أضف إلى ذلك، أن «المفاهيم الحديثة»، لا تمتحن مصداقيتها إلا عبر مجالات «الترفيه»، مثل، «الحوسبة في كل مكان» – إنترنت الأشياء، «الواقع المعزز» - اندماج الواقعي والافتراضي، و«الميتافيرس» كما صاغه نيل ستيفنسون في روايته الشهيرة «تحطم الثلج» عام 1992.

(3)
أحد المعاني الذهبية لكلمة «الترفيه»: «تجاوز» الروتين والرتابة والملل في الواقع الحقيقي؛ لذا سعى صناع الترفيه إلى توظيف نظام «ترانسميديوم» والألعاب الرقمية والواقع المعزز وغيره، ليس بغرض «تلطيف الواقع وتوسيع مجاله» فقط، وإنما من أجل الرغبة في تجربة «عوالم أخرى بديلة» غير «الحياة اليومية المعتادة» للفرد، بل والانغماس والتفاعل الإنساني الكامل مع هذه العوالم غير المسبوقة.
لم يعد الترفيه اليوم متعة سلبية يمارسها الإنسان عبر الفرجة خلف شاشة للعرض أو لوح زجاجي أو حتى في قاعة للمسرح أو السيرك فقط، وإنما ممارسة تفاعلية يشعر فيها بالمغامرة في الأجواء الطبيعية وربما «المخاطرة» مع انسحاب الجاذبية الأرضية تحت قدميه أو مقاومة جسده للضغط الجوي، سواء في الفضاء الخارجي أو في أعماق المحيطات.
إنها حالة مغايرة وواقع مختلف يتماهى فيه ما هو حقيقي وما هو افتراضي؛ ما جعل من الترفيه المعاصر (يوتوبيا رقمية – وربما ما بعد رقمية - لم تعهدها الحداثة).
فقد أدى انحصار اليوتوبيا في أماكن خيالية لا يمكن وطئها بالأقدام، وإخفاقها في الوقت نفسه عن أن تتحقق «هنا» و«الآن»، إلى وصول اليوتوبيا التي شيدتها «الحداثة» إلى نهايتها.
وصار الترفيه أشبه بـ«حصان طروادة» المستقبل، وأعاد «اختراع مفهوم الجغرافيا» وهو «حدث» في حد ذاته، لا يقل أهمية عن الكشوف الجغرافية قبل أكثر من 500 سنة.
التطور «ما بعد الحداثي» يعني أننا تجاوزنا «الأماكن الواقعية» الخالصة، وأصبحنا نعيش ما يسميه ديفيد تشالمرز «الواقع» وهو عنوان كتابه الجديد 2022.
في المقابل، ظهرت – بالتزامن والتوازي - انتقادات عديدة لهذا الدمج بين «ما هو واقعي» و«ما هو افتراضي»، من قبل فلاسفة كبار، مثل امبرتو إيكو الذي رأى أن هذه «الواقعية المفرطة»، حسب تعبيره - ستكون «أكثر واقعية من الواقع» وهي «الزيف المطلق».
ووصف جان بودريار ما نحياه بـ«المحاكاة» و«السيمولاكر»، حيث لم يعد هناك أي واقع حقيقي، وإنما «ديستوبيا» (على العكس تماماً من «اليوتوبيا» التي يعدنا بها البعض).
الطريف، أن هذه الانتقادات وغيرها مع ميشيل فوكو وآلان تورين وفريدريك جيمسون وكتيبة الماركسيين لم تنصب على الترفيه أو المتعة في حد ذاتها، وإنما نظرت إلى ما حدث ويحدث، من زاوية العناصر الرأسمالية والليبرالية الجديدة والنزعة الاستهلاكية لا من زاوية «الحتمية التكنولوجية».

(4)
«تعزيز الوعي الإنساني» ونشر النموذج الغربي وتعميمه من خلال «الترفيه»، تسبب أيضاً في «قلق» بعض الدول، لا سيما أن العالم يزداد ترابطاً وانكماشاً في آن معاً، وبات النقل الثقافي الأفقي، أشبه بالفيروس أو «العدوى»، التي تنتشر في لحظة عبر الميديا والإنترنت!
بعض الدول قامت بعملية «فرز» لمجالات الترفيه مثل سنغافورة، حيث قام فريق من الباحثين بمحاولة دمج «الترفيه» والفلسفة، عبر تصميم فلاسفة افتراضيين تفاعليين**؛ ما جعل نصوص الفلسفة التقليدية أكثر ملاءمة للإنسان المعاصر الذي يمتلك مستوى أعلى من المعرفة الرقمية. وأدى التفاعل المباشر بين الجمهور والفلاسفة عبر العصور، باستخدام تقنية الذكاء الصناعي والهاتف المحمول، إلى ازاحة صعوبة الفلسفة لتصبح نشاطاً ترفيهياً ممتعاً. اللافت في هذه المحاولة: أن الفلسفة ليست مثل الفيزياء أو الرياضيات، تملك إجابات محددة ودقيقة لكل تساؤلات المستخدمين، وهنا تجلت براعة الفريق السنغافوري.
على النقيض، أثار انتشار «تلفزيون الواقع» ومحتواه الليبرالي الغربي في الصين منذ عام 2015 - أعلى نسب مشاهدة حالياً - مخاوف السلطات؛ نظراً لتعارض ما يقدمه، سواء في الشكل أو المضمون مع التقاليد الشرقية وقيم النظام الاشتراكي. لذا؛ خضعت منصات «الترفيه» الصينية للرقابة بالتزامن مع تنامي النزعة القومية داخل المجتمع الصيني.
على الضفة الأخرى، نشط بعض الباحثين في الغرب لرصد وقياس مدى تأثير «المحتوى الليبرالي» على علاقات القوى في الوضعين السياسي والاجتماعي الصينيَين، من خلال تحليل: التفاعلات والانفعالات والمشاعر بين الجمهور والمتسابقين والمشاهير.
لقد جرت مياه كثيرة ما بين رواية نيل ستيفنسون «تحطم الثلج» عام 1992، وكتاب ديفيد تشالمرز «الواقع» عام 2022، وأصبح التنافس والصراع على أشده في تطوير مجالات الترفيه - لا سيما تطبيقات «ميتافيرس» - بين شركات التكنولوجيا الرقمية في العالم.
لم تعد «الأفكار» قاصرة على المتعة داخل كوكب الأرض، وإنما امتدت إلى الكواكب الأخرى التي يمكن أن تصل الحياة إليها، فهل يقودنا «الترفيه» إلى مغامرة يوتوبية كونية جديدة؟

* باحث مصري
**https://dl.ifip.org/db/conf/iwec/icec2012/WangTSIN12.pdf



السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
TT

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

لا يُعدّ دوي المدافع ولا انفجارات القذائف أو البراميل الناسفة القادمة، أو حتى الرصاصات العمياء، شيئاً جديداً في السودان، الجديد أنه انتقل من «الهوامش» إلى العاصمة الخرطوم، فاضطرت الحكومة وقيادة الجيش للانتقال إلى عاصمة بديلة تبعد نحو ألف كيلومتر على ساحل البحر الأحمر عند بورتسودان.

كان يُنظر للحروب السابقة على أنها تمرد ضد الدولة، لكن أسبابها تكمن في الصراع بين «المركز» الذي يحتكر كل شيء، و«الهامش» الذي لا يحصل على شيء، وأنها «حرب مطالب وحقوق».

لكن الحرب، خلال حكم الإسلاميين بقيادة الرئيس السابق عمر البشير البلاد، تحولت من حرب مطلبية إلى «حرب دينية» بين الشمال «المسلم»، والجنوب «المسيحي» أو «اللاديني»، وانتهت بـ«فصل جنوب السودان»، وإعلان ميلاد دولة جديدة انضمت للأمم المتحدة، فمن أين تأتي الحروب والعواصف لتدمر السودان؟

يرجع المحللون جذور الحروب السودانية إلى الافتقار لـ«مشروع وطني»، وإلى عدم الاعتراف بالتنوع الإثني والثقافي الناتج عن عدم وجود منظومة سياسية ثقافية اقتصادية موحدة تعترف بهذا التنوع.

ورغم أن الحرب الحالية هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع»، التي أدت للتمرد الأول قبيل إعلان الاستقلال 1955 بقيادة قوات «أنانيا 1»؛ وهي تسمية محلية لثعبان الكوبرا.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ملوحاً بعصاه إثناء إلقائه خطاباً في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور في سبتمبر 2017 (أ.ف.ب)

اتفاق «نيفاشا»

انطفأت الحرب الأولى باتفاق أديس أبابا 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في عام 1983، تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الزعيم الجنوب سوداني الراحل جونق قرنق دمبيور، على أثر إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري «أحكام الشريعة الإسلامية».

وانتقلت من كونها ضد متمردين إلى حرب «جهادية»، جيش الإسلاميين المقاتلين على أساس ديني، ورفعوا رايات الجهاد ضد مَن وُصفوا بـ«أعداء الدين»، فاستمرت الحرب سنوات، وراح ضحيتها أكثر من مليونيْ مواطن.

لم يحقق الجيش ومؤيدوه «المجاهدون» انتصاراً حاسماً، فاضطروا إلى الرضوخ للضغوط الدولية، ووقَّعوا اتفاق سلام في ضاحية نيفاشا الكينية؛ «اتفاق السلام الشامل أو اتفاق نيفاشا».

قضى «نيفاشا» بمنح جنوب السودان «حق تقرير المصير»، وخيّره بين البقاء في السودان الموحد أو الانفصال، وحدد فترة انتقالية قدرها خمس سنوات.

خلال الفترة الانتقالية، شغل زعيم الحركة الشعبية الراحل جونق قرنق دمبيور منصب النائب الأول للرئيس لأيام قلائل، قبل أن يلقى مصرعه في حادثة تفجر المروحية الرئاسية الأوغندية الغامض، ليخلفه نائبه رئيس جنوب السودان الحالي سلفاكير ميارديت.

استفتي شعب جنوب السودان 2010 على الوحدة أو الانفصال، وجاءت النتيجة لصالح الانفصال، فولدت من رحِم الحروب جمهورية جنوب السودان، وخسر السودان ثلث مساحته الجغرافية، وربع عدد سكانه، و75 في المائة من ثرواته وموارده.

انتقلت النيران إلى إقليم دارفور غرب البلاد، وتمردت مجموعات جديدة تحت مزاعم التهميش والاضطهاد باسم «حركة تحرير السودان» في عام 2003.

وأخذت طابعاً «عِرقياً»، بعدما استعانت الحكومة في حربها ضد الحركات المتمردة ذات الأصول الأفريقية، بمجموعات قبلية عُرفت وقتها بمجموعة «الجنجويد» ذات الأصول العربية، ومِن قادتها، للمفارقة، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذي أصبح قائد ما يُعرف بقوات «الدعم السريع».

راح ضحية حرب دارفور نحو 300 ألف، واتهمت الحكومة، برئاسة عمر البشير، بجرائم تطهير عِرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أصدرت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات قبض ضد الرئيس السابق عمر البشير، و3 من معاونيه الكبار وهم في الحكم، لا تزال سارية.

مقاتلون من «حركة تحرير السودان» في دارفور في مارس 2024 (أ.ف.ب)

تبضع بين العواصم

في مايو (أيار) 2006، وقّعت الحكومة الإسلامية اتفاق سلام في مدينة أبوجا مع «حركة تحرير السودان»، لكن الحركة انشقت إلى حركتين، يقود التي وقَّعت اتفاق أبوجا حاكم إقليم دارفور الحالي مني أركو مناوي.

رفض تيار عبد الواحد محمد النور الاتفاق، واعتصم بجبل مرة في وسط دارفور، وواصل الحرب ولا يزال، بينما حصل مناوي على منصب مساعد الرئيس عمر البشير، ثم عاد للتمرد زاعماً أنه كان مجرد «مساعد حلّة»، وليس مساعد رئيس، ومساعد الحلة هو معاون سائقي الشاحنات الذي يُعِدّ الطعام للسائق.

تنقلت المفاوضات مع الحركات الدارفورية المتشظية بين عدة عواصم، ففي يوليو (تموز) 2011 وقَّعت مع بعضها في قطر «وثيقة سلام الدوحة»، ونصت على تقاسم الثروة والسلطة، لكن الحرب لم تتوقف.

ثم وقَّعت حركات مسلَّحة مع الحكومة الانتقالية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 اتفاق سلام السودان في جوبا، أبرزها «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، ونصَّ الاتفاق على تقاسم السلطة والثروة، وبموجبها تولَّى جبريل إبراهيم وزارة المالية، ومني أركو مناوي منصب حاكم إقليم دارفور.

جنود سودانيون من «قوات الدعم السريع» في ولاية شرق النيل بالسودان، يونيو 2019 (أ.ب)

الجنوب الجديد

كأنما لا بد من جنوب ليحاربه الشمال، اشتعلت حرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وهما منطقتان منحهما اتفاق نيفاشا حق المشورة الشعبية، للبقاء في السودان أو الانضمام للجنوب، وعادت إلى الحرب «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال».

انشقت الحركة الشعبية الشمالية، التي تُعدّ امتداداً للجنوبية، وتضم مقاتلين سودانيين انحازوا للجنوب إبان الحرب الأهلية، إلى حركتين بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الحالي مالك عقار، الموقِّع على اتفاق سلام جوبا، بينما بقيت الأخرى، بقيادة عبد العزيز، تسيطر على منطقة كاودا بجنوب كردفان، وتَعُدّها «منطقة محرَّرة»، وتخوض معارك متفرقة ضد الجيش السوداني، ولا تزال.

لم يَسلم شرق السودان من متلازمة الحروب السودانية، فقد كان مرتعاً لحروب المعارضة المسلَّحة ضد حكم البشير في تسعينات القرن الماضي، ونشأت فيه مجموعات مسلَّحة مثل «مؤتمر البجا»، و«الأسود الحرة»، قاتلت هي الأخرى ضد المركز في الخرطوم، قبل أن تُوقِّع اتفاقاً في العاصمة الإريترية عُرف بـ«أسمرا لسلام شرق السودان»، ونال هو الآخر حصة في السلطة والثروة.

أطاح السودانيون بنظام حكم الإسلاميين، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، عبر احتجاجات شعبية استمرت أشهراً عدة، وأجبروا قيادة الجيش على تنحية البشير.

ومع ذلك، تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات، حتى قرر «المجلس العسكري الانتقالي»، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، فض الاعتصام باستخدام القوة، ما أسفر عن مقتل المئات من المعتصمين، ما عده كثيرون من «أفظع الجرائم» بحق المدنيين.

واستمر الضغط المدني السلمي، فاضطر العسكريون لتوقيع «وثيقة دستورية» نصّت على شراكة مدنية عسكرية، في أغسطس (آب) 2019، وجرى تشكيل حكومة برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتكوين مجلس سيادة انتقالي برئاسة البرهان، ونائبه حميدتي.

البرهان وحميدتي يحضران حفل تخريج عسكري للقوات الخاصة، في الخرطوم في 22 سبتمبر2021 (غيتي)

حرب الجنرالات

في 25 أكتوبر 2021، أطاح قائد الجيش بحكومة حمدوك المدنية، بانقلاب عسكري، واضطر تحت الضغط الشعبي السلمي مرة أخرى، لتوقيع ما عُرف بـ«الاتفاق الإطاري» مع المدنيين، ونص على «حكم مدني» يعود بموجبه الجيش إلى ثكناته، وإزالة أي فرصة لـ«تمكين نظام الإسلاميين».

لكن أنصار النظام السابق أحبطوا «الاتفاق الإطاري»، واستخدموا آليات «الدولة العميقة» في تأجيج الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع»، فاشتعلت الحرب.

لم تفلح جهود إزالة التوتر والتحشيد العسكري، وفي صبيحة السبت، منتصف أبريل 2023، فوجئ السودانيون بالرصاص «يلعلع» في جنوب الخرطوم عند «المدينة الرياضية»، معلناً الحرب المستمرة حتى اليوم.

يتهم «الدعم السريع» الجيش بمهاجمة معسكراته على حين غِرة، ويقول إن الجيش حاصر مطار مروي شمال البلاد، وإنه كان يخطط للانقضاض على السلطة، بينما «تسود رواية أخرى» بأن «خلايا الإسلاميين» داخل الجيش هاجمت «الدعم السريع»، ووضعت قيادته أمام الأمر الواقع؛ «الاستسلام أو الحرب».

حسابات خاطئة

كان مخططاً للحرب أن تنتهي في ساعات، أو على أسوأ تقدير أيام معدودات، بحساب التفوق التسليحي للجيش على «الدعم السريع»، لكن الأخير فاجأ الجيش وخاض حرب مدن كان قد تمرَّس عليها، ففرض سيطرته على معظم الوحدات العسكرية للجيش، وأحكم الحصار على البرهان في القيادة العامة، بل سيطر على المقرات الحكومية؛ بما فيها القصر الرئاسي والوزارات.

اضطرت الحكومة للانتقال إلى بورتسودان، واتخاذها عاصمة بديلة بعد سيطرة «الدعم السريع» على الخرطوم، بينما ظل قائد الجيش محاصَراً داخل قيادته لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يفلح في الخروج منها وينتقل إلى بورتسودان ليتخذها عاصمة له.

اتسعت سيطرة قوات «الدعم السريع» لتشمل إقليم دارفور، باستثناء مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، ومعظم ولايات الغرب باستثناء بعض حواضرها، ثم استسلمت له ولاية الجزيرة بوسط البلاد، وشملت عملياته ولايات أخرى، وسيطر تقريباً على نحو 70 في المائة من البلاد.

بعد نحو عامين من القتال، استعاد الجيش زمام المبادرة، وحقق تقدماً في بعض المناطق؛ الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وسنار، لكن «الدعم السريع» لا يزال مسيطراً على مساحات واسعة من البلاد، ويقاتل بشراسة في عدد من محاور القتال، وما زالت الحرب سجالاً.

جنوب الخرطوم مسرحاً دموياً للمعارك بين البرهان وحميدتي (أ.ف.ب)

أسوأ كارثة إنسانية

قتلت الحرب عشرات الآلاف وخلقت «أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ»، وفقاً للأمم المتحدة، ونزح أكثر من 11 مليون شخص داخلياً، ولجأ نحو 3 ملايين لبلدان الجوار، ويواجه نحو 25 مليون شخص أكثر من نصف سكان البلاد، البالغ عددهم 45 مليوناً، حالة من «انعدام الأمن الغذائي الحاد».

أطراف الحرب لا يزالون يرفضون العودة للتفاوض، فمنذ فشل «إعلان جدة الإنساني»، فشلت محاولات إعادة الطرفين للتفاوض؛ لتعنُّت الجيش وأنصاره.

سيناريوهات

يرجع عضو مجلس السيادة السابق، ونائب رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» الهادي إدريس، اندلاع الحروب في السودان إلى عدم الاتفاق على «مشروع وطني نهضوي» لحكم البلاد منذ الاستقلال.

ويقول إدريس، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأسباب الرئيسية لحروب السودان هي الفشل في إنفاذ برامج تنمية متوازنة، وتحقيق العدالة، وسيادة ثقافة الإفلات من العقاب، وعدم حسم القضايا الاستراتيجية مثل علاقة الدين بالدولة، والهوية الوطنية، وقضية الجيش الواحد وابتعاده عن السياسة.

ويرى إدريس أن العودة إلى «جذور الأزمة» مدخل صحيح لجعل «الحرب الحالية» آخِر الحروب. ويضيف: «علينا معالجة أسباب وجذور الحروب، في الاتفاق المقبل لإيقاف وإنهاء الحروب».

أما القيادي في «التجمع الاتحادي» محمد عبد الحكم فيرى أن جذور الحروب تتمحور حول «التنمية المتوازنة والمواطنة المتوازنة». ويضيف: «يظل عدم معالجة التهميش والتنمية المتوازنة وحفظ حقوق الشعوب، وتغيير الأنظمة الاستبدادية المتسلطة، بحكم ديمقراطي تعددي، أُسّاً لنشوبِ أعتى وأطول الحروب السودانية».

ويرهن عبد الحكم إنهاء الأزمات المتتالية في السودان بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، عن طريق تكوين جيش مهني قومي موحد بـ«عقيدة قتالية» تُلزمه بحماية الدستور والنظام المدني، وتُخضعه للسلطة التشريعية والتنفيذية، وتُعلي قيم المحاسبة وردع محاولات تسييس الجيش.