التاريخ بوصفه رواية ممتعة

محمد علي وبنوه بعين خالد فهمي

التاريخ بوصفه رواية ممتعة
TT

التاريخ بوصفه رواية ممتعة

التاريخ بوصفه رواية ممتعة

يبدو أن الإقامة في القرن التاسع عشر قد طابت للمؤرخ خالد فهمي؛ فهذا هو كتابه الثالث عن تأسيس الدولة المصرية الحديثة، صدرت ترجمته العربية أخيراً عن دار الشروق بالقاهرة تحت عنوان «السعي للعدالة... الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة». وصدر له من قبل «كل رجال الباشا» عام 2000، و«الجسد والحداثة... الطب والقانون في مصر الحديثة» عن دار الكتب والوثائق القومية 2006، والكتابان من ترجمة الأكاديمي شريف يونس، بينما ترجم الكتاب الجديد الكاتب الروائي حسام فخر.
الكتب الثلاثة مشروع واحد يدرس الحقبة الأكثر إثارة للجدل في تاريخ مصر الحديث تحت قيادة محمد علي وخلفائه، منذ صعود ذلك الضابط الألباني لحكم مصر عام 1805 وانتزاعه استقلالاً نسبياً لمصر وجعلها ولاية وراثية لسلالته من بعده امتدت حتى حركة الضباط عام 1952.
لا تخلو هذه الكتب من طبيعة سجالية مع مدرسة التاريخ الوطنية التي ترى في محمد علي زعيمًا عمل من أجل الوطنية المصرية، وترى في حروبه ومحاولاته ضمّ الشام ومناطق أخرى من الإمبراطورية العثمانية تحقيقاً لدور مصر الحضاري ونشراً لشمسها على ربوع المنطقة، بينما ينظر خالد فهمي إلى محمد علي بصفته والياً عثمانياً كغيره من ولاة الإمبراطورية، أراد أن يحقق استقلالاً نسبياً ويؤسس حقاً متوارثاً لأولاده من بعده في أهم ولايات التاج العثماني، لكنه، في الوقت نفسه، لم يتصور نفسه خارج غطاء الشرعية العثمانية، ولم تكن حروبه الخارجية كلها تحدياً للباب العالي، بل إن بعضها جرى بتكليف من السلطان.
يركز فهمي على تلك الفترة الذهبية لجهود إنشاء الدولة المصرية الحديثة عبر نصف قرن من بداية ثلاثينيات القرن التاسع عشر وحتى أول ثمانينياته، عندما اصطدم مشروعه باندفاعة الاستعمار الرأسمالي والتوسع الأوربي الذي أسفر عن الاحتلال الإنجليزي عام 1882.
جاء ذلك الاحتلال بعد فصول ولحظات مفصلية من الشدّ والجذب الثلاثي بين مصر والإمبراطورية العثمانية وأوروبا، كانت تسفر عن اتفاقات لتحجيم دولة محمد علي، منها ما يتعلق بمنع الاحتكارات وتخفيض التعريفة الجمركية، وحتى تحديد عدد أفراد الجيش المصري بـ18 ألف جندي. وقد شهد نصف القرن المصري تحديثاً كبيراً وزيادة نفوذ مصر إلى حد تهديد عاصمة الخلافة، وكان من شأن هذا أن يداعب أحلام الوطنية المصرية، فخلق ما يشبه الإجماع في مدرسة التأريخ المصرية على اعتبار عصر محمد علي صراعاً بين الظلمات والنور، وامتدت هذه الرؤية لتشمل العلاقة بأوروبا والحملة الفرنسية التي حكم محمد علي في أعقابها، وكانت سبباً لإدخال الحداثة الأوروبية إلى مصر «بعد أن أغشت الظلمات العثمانية بصرها طويلاً».
وليس بعيدًا عن هذه الرؤية الرومانسية لتاريخ مصر العلوية رؤية السلطة المصرية وهواها بعد حركة الضباط عام 1952، حيث الانتصار لفكرة القائد العسكري. وهذا ما يجعل هذه السلطة تحتفي بمحمد علي، وكذلك بأحمد عرابي بوصفه قائداً عسكرياً، رغم كونه قائداً مهزوماً، في مقابل تهميش ثورة 1919 الشعبية وقائدها سعد زغلول.
يضع خالد فهمي ذلك التيار التاريخي العام من الرومانسية الوطنية والسلطة موضع المساءلة، من خلال تركيزه على التاريخ الاجتماعي للأفراد - أو«الأنفار» بتعبيره - وليس تاريخ القادة، يقرأ الآلام الشخصية للمسخَّرين في المشروعات الكبرى والفلاحين المنتزَعين قسرًا من أعمالهم للتجنيد وآلام الهروب وتشويه الجسد بالسعي إلى العمى وقطع الأطراف وحزن القرى والأرض التي تبور بعد أن يهجرها سكانها ويهيموا على وجوههم في المدن. وهو ليس أول من اشتغل على الوثيقة الاجتماعية، فقد سبقه رءوف عباس ونيللي حنا في ذلك، بما خلخل استقرار سردية ثنائية الظلام العثماني والنور الذي جلبته الحملة الفرنسية ومن بعدها القائد الألباني محمد علي.
لكن جديد خالد فهمي هو أن كُتبه لا تبدو تأريخاً خالصاً، بل هي مزيج من التاريخ والفلسفة والبحث النفسي. وبقدر ما يتبنّى تيار «دراسات التابع» التي عمّقتها مدرسة التأريخ الهندية من بعد أفكار جرامشي وإدوارد سعيد، بقدر ما يستند إلى مفاهيم جاك دريدا حول اللغة والتحليل النفسي والدين والسياسة، وأفكار ميشيل فوكو عن مفهوم السلطة، والعنف والعقاب، فنرى تحت ثياب المؤرخ مفكراً معنياً بمناقشة قضايا السلطة ومحنة الجسد المؤطّر والمحكوم الحركة، يصل في تجريده لهذه القيم إلى استنتاج تشابه وضع الجسد في الجندية وفي السجن.
يرتكز كل هذا على نفَس سردي يجعل هذا الدمج بين التأريخ والفكر الفلسفي ممكناً، ويعيد بناء الوقائع التاريخية من الوثيقة الاجتماعية، ويجعل من التاريخ رواية ممتعة، فنراه يبدأ أحد فصول «السعي للعدالة» هكذا: «شقَّ سكون الليل عيار ناري مدوٍّ. جرى إبراهيم عبد الرحمن إلى الجرن الذي صدر منه الصوت، وهناك وجد أخاه محمداً مُلقى على الأرض نازفاً حتى الموت….».
يتتبع فهمي سير قضايا من هذا النوع بما تتضمنه من تفاصيل مشوِّقة كرواية بوليسية، ومعظمها قضايا قتل استخرجها من سجلات مجلس الأحكام، ليوضح كيف كانت هذه القضايا تجري من خلال نظام قضائي بالغ التنظيم، يقوم على التزاوج بين السياسة والفقه، بين القانون الجنائي وأحكام الشرع.
ومن مراجعته آلاف الوثائق الطبية يجد خالد فهمي نفسه على الجهة الأخرى من المدرسة التي استكانت للصورة التي رسمها «كلوت بك» عن نفسه وعن الخديو، حيث يصور جهوده كمعركة بين النور والظلام، وتعارض بين العلم الحديث وقوة الشرع والفتوى. ويتضمن الكتاب عددًا من الفتاوى، كان الباشا يلجأ لاستصدارها بشأن إجراءاته الطبية كالعزل والتطعيم، ولم تقف تلك الفتاوى موقف المناوئ للتدابير الطبية الوقائية. كما تكشف الوثائق عن تفهُّم شعبي لضرورات العلاج والتشريح ومناظرة الجثث، وكثيراً ما سعى بُسطاء المصريين لاستخراج جثث ذويهم وطلب تشريحها لإثبات سبب الوفاة أو أن وفاتهم كانت جنائية.
نظراً للمكانة المركزية للجسد في دراسات فهمي، يجعل منه وحدة تحليل في «السعي للعدالة»، كما يجعل من الحواس مدخلاً بارزاً لسرديته، نلمسه حتى في عناوين الفصول من مثل: «الأنف تحكي تاريخ مدينة» أو«عدالة بدون ألم». يبدأ سرده من لوحة تصور أول درس للتشريح التعليمي في مصر في عام 1827 بمدرسة الطب التي أُنشئت في «أبو زعبل» شمال شرقي القاهرة. وقد بدأت عسكرية هدفها تقديم الرعاية الطبية للجيش وتقليل خسائره الرهيبة من الوفيات بفعل الأوبئة والأمراض.
في مرحلة تالية انتقلت مدرسة الطب إلى قصر العيني في وسط المدينة، ثم تحولت مع الوقت إلى مؤسسة مدنية طبية. ومع تفنيده سردية «كلوت بك» عن نفسه، يقرر فهمي، من جهة أخرى، أن مدرسة الطب التي أنشأها كانت منذ بدايتها تختلف عن المنشآت الطبية الكولونيالية في الهند؛ لأن كلوت بك، مؤسِّس المدرسة، لم يكن ممثلاً لبلاده، بل كان متعاقداً مستقلاً مع الوالي المصري، كما كان الطلاب في المدرسة من المصريين، وتخرجوا أطباءً وانخرط بعضهم بدوره في التدريس، بخلاف الإقصاء العنصري لأهل البلاد عن تعلم وممارسة الطب الذي يميز الطب الكولونيالي.
وإلى جانب الإجراءات الطبية التي تصاحب الإنسان وتؤطر جسده من مولده إلى وفاته، تأتي الرقابة على الأسواق وتشديد الإجراءات ضد الغش في الطعام. ثم يتوقف «السعي للعدالة» مطولاً أمام التحديث الذي طال إجراءات التقاضي. ولم يكن هذا التحديث ممكناً دون الطب الجنائي الذي أصبحت تقاريره عن الأموات والمصابين ضرورية في سجلات التحقيقات وتُحال إلى المجالس القانونية المعروفة بـ«مجالس السياسة» المستحدَثة في نهايات أربعينيات القرن.
يوضح خالد فهمي مسيرة التطورات القانونية التي قلّصت تدريجياً دور المحاكم الشرعية، وبدأت بدورها تأخذ بالتقارير الطبية في القضايا المنظورة أمامها. وفوق كل ذلك تأتي «التذكرة» وهي نوع من بطاقة هوية تتضمن اسم الشخص وأوصافه ومكان إقامته، ولم يكن من الممكن الانتقال من دونها بين أقاليم مصر.
وهناك قصة شديدة الدلالة على العلاقة بين السلطة والجسد، وبين الشرع والقانون في الدولة، وما تتوخاه الإدارة من إجراءاتها. نقرأ في مطلعها: «صباح يوم ربيعي في 1878، كان طفل يلعب مع أترابه قرب ثكنات قصر النيل المُطلة على النهر غربي القاهرة عندما لاحظ كلباً يشمشم خرقة قديمة مدفونة في الأرض..»، ويمضي السرد بالحكاية عن إبلاغ الأطفال شيخ الحارة بالواقعة، الذي أبلغ بدوره حكمباشي الضبطية، وجرى إرسال الخرقة إلى قصر العيني، وسرعان ما تكشفت القضية، فقد كانت الخرقة تتضمن بقايا جثة وليد شديدة التحلل، وكشفت التحريات غموض القضية، فقد تبيّن أن الطفل لفتاة في الثامنة عشرة تُدعى «فضل واسع» حَملتْ من جندي في مدينة جرجا بالصعيد، وجاءت إلى القاهرة بحثاً عنه، حيث التحق بمعسكر قصر النيل. ولم تتوصل إلى شريكها، فعطف عليها رجلان ومنحاها مأوى، وقد تظاهر أحدهما بأنه زوجها. وبعد مخاض عسير ولدت «فضل» ذلك الطفل، ولم تسجله؛ لعجزها هي وزوجها المفترض عن سداد الرسوم، وعندما مات تخلَّصا منه باعتباره مجهولاً بالنسبة للدولة. ولم تقرر الضبطية توجيه تهمة القتل العمد أو الخطأ للمرأة والرجل، بل وجَّهت لهما اتهاماً بخرق ثلاث لوائح تتصل بالصحة العامة؛ وهي: انتهاك واجب التسجيل الفوري للمواليد، واجب الإبلاغ الفوري عن الوفيات، والحظر التام للدفن داخل حدود المدينة.
على خلاف العلمانيين والإسلاميين المصريين الذين يُدرجون التطورات الطبية والقانونية والإدارية في إطار العلمنة، يضع خالد فهمي المسألة على أرضية التحديث البيروقراطي الذي يخدم مشروع الباشا ودولته، ويضع عمليات الهروب من الإجراءات الصحية ومن التجنيد وغيرها من الأوامر البيروقراطية على أرضية الصراع بين سلطة تمارس عنف الدولة الحديثة لمصلحتها، وجمهور يحاول أن يقاوم هذا العنف ويهرب منه.
هذه الرؤية تستولد خلافاً آخر بين خالد فهمي ومدرسة التأريخ الوطنية، حيث يرى التحديث صيرورة أمْلتها الضرورةُ والمآزق المختلفة التي اعترضت طريق الباشا، بينما ينظر الكثير من المؤرخين إلى ما جرى باعتباره رؤية فكرية واضحة فرضت خطة مُحكمة من الإجراءات كانت تتوخى الوصول إلى نهايات محددة. ولا ينظر فهمي إلى الضابط الألباني بوصفه ذلك الوطني التنويري، بل يراه وافداً آخر لديه طموح شخصي لم يكن يتحقق سوى ببناء جيش قوي، ولم يكن من المعقول بناء جيش من المرضى، ولم يكن من الممكن تنفيذ الأوامر دون إحصاء للسكان وإقرار القانون.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.