مشروع «كلمة» يترجم «الإينيادة»

مشروع «كلمة» يترجم «الإينيادة»
TT

مشروع «كلمة» يترجم «الإينيادة»

مشروع «كلمة» يترجم «الإينيادة»

عن مشروع «كلمة» للترجمة في أبوظبي، صدرت مؤخرًا الترجمة العربية للعمل الكلاسيكي «الإينيادة» لمؤلفه بوبليوس فورغيليوس مارو، والذي ترجمه عن اللاتينية محمود علي الغول.
ألف فورغيليوس هذا العمل باللاتينية شعرًا ما بين عامي 29 و19 قبل الميلاد، ليحكي القصة الأسطورية لإينياس الذي أمرته الآلهة أن يرحل من وطنه طروادة إلى إيطاليا ليضع هناك الأسس الأولى للدولة الرومانية. وقد أراد المؤلف الذي كان مقربًا من الإمبراطور أغسطس (آب) قيصر أن يجعل للدولة الرومانية أساسا حضاريًا رفيعًا ضاربًا في القدم، وذلك عندما نسب أصولها إلى اليونان الذين كانت لهم المنزلة الحضارية الأعلى حتى في نظر الرومان أنفسهم. كما جعلت «الإينيادة» رحلة اليونان إلى إيطاليا مرهونة بأمر إلهي، موحية بذلك بأن نشأة الإمبراطورية الرومانية نتجت عن مشيئة إلهية سامية.
وتحكي «الإينيادة» في الكتب الستة الأولى قصة رحلة الطرواديين من مدينتهم المهزومة حتى وصلوا إلى إيطاليا حيث قدرت الآلهة لهم أن يؤسسوا الدولة الرومانية. ويستعرض فورغيليوس في هذه الكتب ما واجهه هؤلاء من مصاعب، وما لقوه من شعوب، وخصوصا في قرطاجة، حيث التقى إينياس ملكتها ديدو وتحابا، إلا أن الآلهة أبت عليهما استمرار هذه العلاقة، مذكرة إينياس بالمهمة التي ندبته إليها.
وتحكي الكتب الستة التالية عن المصاعب التي لقيها الطرواديون في إيطاليا، وما لقوه فيها من صد ومحاربة من لدن أهل البلاد اللاتينيين، وجسد فورغيليوس هذا الصراع على هيئة منافسة بين إينياس وخصمه اللاتيني، تورنوس، على حب الأميرة لافينيا، والذي انتهى بانتصار إينياس ومقتل غريمه، لكنه لم ينته بهزيمة اللاتينيين أهل البلاد، وإنما بالتعايش السلمي بينهم وبين الطرواديين الطارئين، وهو تعايش اتفقت عليه الآلهة وأقرته. وفي ذلك إشارة من فورغيليوس إلى أن الأمة الإيطالية أمة متآلفة من اليونان أهل الحضارة المكرَّمين بالإرادة الإلهية، ومن أهل البلاد اللاتينيين الذين شاءت لهم الآلهة أن يساهموا في نشأة الإمبراطورية العظيمة.
وعليه، فيمكن النظر إلى الإينيادة على أنها عمل أدبي ذو غايات، جاوز بعضها المقولات العامة ليتخذ شكلاً مباشرًا، مثلما هو الحال عندما جعل فورغيليوس من يوليوس قيصر حفيدًا من أحفاد إينياس الطروادي مؤسس الدولة الرومانية. بل إن تأليف الإينيادة نظمًا بالشعر اللاتيني يندرج هو نفسه في مقدمة الحركة التي سعت إلى النهوض بالأدب الروماني إزاء الأدب اليوناني الذي ظل حتى ذلك الوقت يعد الأنموذج الأعلى للأدب حتى عند الرومان أنفسهم، فجاءت الإينيادة لتكون دليلاً على قدرة الأدب اللاتيني هو الآخر على الإتيان بالأعمال الأدبية الرفيعة المستوى.
غير أن الأثر البعيد للإينيادة بوصفها عملاً إبداعيًا رائعًا عاد فطغى على هذه الأهداف القريبة، فقد غدت الإينيادة في القرون التالية ذروة الأدب اللاتيني، وأصبحت من أهم النصوص المستخدمة في تدريس اللاتينية وفي الدرس الأدبي، كما كان لها تأثير كبير في الآداب الأوروبية التي نشأت لاحقًا، وأصبحت مصدر إلهام للفنون الأوروبية المختلفة، من رسم، ونحت، وموسيقى.
ولد بوبليوس فورغيليوس مارو، في مانتوا بشمال إيطاليا عام 70 قبل الميلاد، وكان مقربًا من رجال الدولة الرومانية، وخصوصا يوليوس قيصر، ويعد من مؤسسي الأدب اللاتيني الذين ساهموا من خلال نزعاتهم التجديدية في استقلاله عن الأدب اليوناني، وتوفي عام 19 قبل الميلاد دون أن ينشر الإينيادة، فأعدها للنشر أصدقاؤه من بعده، ومن مؤلفاته الأخرى «أناشيد الرعاة» و«أناشيد الزراعة»، والتي تناولت موضوعات رعوية وزراعية.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.