كيف وجدت الفلسفة دروبها في عوالم السينما والصورة؟

أصبح للمفهوم تجليات أخرى لأنه بدأ يرتبط بحقول معرفية جديدة عليه

كيف وجدت الفلسفة دروبها في عوالم السينما والصورة؟
TT

كيف وجدت الفلسفة دروبها في عوالم السينما والصورة؟

كيف وجدت الفلسفة دروبها في عوالم السينما والصورة؟

تحتل الصورة منزلة ملغزة وملتبسة في المتون الفلسفية، ولا يمكن الإقرار بأن هناك إجماعا سلبيا أو إيجابيا قد تحقق حولها. لكن نجد تفاوتات في طرق استثمارها وفي الغايات المتوخاة منها. إلا أن العودة إلى بعض لحظات الفلسفة يكشف حضورا مكثفا للصورة. ويكفي أن نقدم أمثلة للتدليل على ذلك: فالمحاورات الأفلاطونية غنية بالصور الفنية كأدوات تعبيرية، وظفها أفلاطون من أجل بناء أفكاره الفلسفية وتوضيحها. كما يثمن أرسطو الصورة الشعرية حين يعتبر أن «الشعر أصدق من التاريخ». أما دافينشي فاعتبر الصورة حاملة للحقيقة عندما قارن بين الصورة في مجال التشكيل وفنون القول الأخرى. إذ لاحظ أن «الرسم» يستحضر مآثر الطبيعة بأكثر صدق ودقة مما تستحضره الكلمات والحروف. فلا يتعلق الأمر هنا باستنساخ الطبيعية وتقليدها، بل الرسام في نظره «ينازل الإله في عملية الخلق والإبداع»، إلى درجة أنه يعتقد أن الرسم ليس تقليدا، بل إبداع وأكثر جمالا من الطبيعة ذاتها. ويعتقد جازما أن «العين تخطئ أقل مما يخطئ العقل».

وفي نصوص ميرلوبونتي (فيلسوف فرنسي معاصر)، تأكيد على أولوية العين على حساب العقل. فمهمتا كل من الصورة والمفهوم تكمنان في إظهار العالم وكشفه، بل وتقديم فكرة العالم ذاته. لقد اشتغل ميرلوبونتي أيضا، على الصورة السينمائية والفوتوغرافية، من خلال توظيفها في إثارة قضايا فلسفية أساسية تتعلق بالوعي والإدراك والمعنى. ربما العكس مع دولوز، فمعه يجب أن نفهم الصورة السينمائية من داخلها، وأن يكون فكرنا هو فكرها، أي «لا نسقط مفاهيمنا عليها بل إن نفهم مفاهيم السينما ذاتها». معنى ذلك أن نتطهر من كل أحكامنا حينما نقبل على السينما. إن دولوز لا يفاضل السينما على الفلسفة أو العكس، بل يماهي بينهما. فإذا كانت الفلسفة تقيم الحركة في الفكر، فإن السينما تقيم الحركة في الصورة. فدولوز يرفض كل تناول خارجي للصورة، سواء من طرف اللسانيات أو التحليل النفسي. لأن ما يهم في نظره ليس الصورة في مفردها وتفردها، بل في علاقاتها وتركيبها مع باقي الصور، وكيفيات اشتغالها على مستوى الألوان والأضواء والأصوات. «فالسينما منتجة للواقع»، وبالتالي فهي ليست وهما ولا حلما ولا تخيلا. إنها واقعية مبدعة وخلاقة بوسائلها التي تختلف عن باقي أشكال الخلق والإبداع الآخر، بما فيها الفلسفة. ورغم كونهما يشكلان عالمين مختلفين، فإنهما يتقاسمان لغة مشتركة، تتمثل في تعويض الفكرة التي يصعب إدراكها بصورة قائمة الذات، أي ككتل من الحركات الدائمة والمتلائمة داخل تشكل الأمكنة والأزمنة. إن العلاقة بين السينما والفلسفة هي علاقة الصورة بالمفهوم. بهذا المعنى، فالسينمائي يصنع صورا وأصواتا حية عبر ممارسة معينة للعلامات والتقنيات. أما الفيلسوف فيبدع مفاهيم مجردة وغير مرئية عبر تأسيس رؤية خاصة. إلا أن ما يميز موقف دولوز، هو أن الممارسة الفلسفية عنده لا ترتبط بما هو متعال وكلي ومطلق. فلا وجود لمفهوم لذاته ومن أجل ذاته. فكل مفهوم يشكل إمكانا جديدا للحياة عبر صيرورته، وعبر العلاقات التي يحددها ويتحدد بها، حيث يصبح محايثا لكل تجربة إنسانية ومخترقا لكل المجالات.
هكذا أصبح للمفهوم الفلسفي تجليات أخرى بعيدة عما كان عليه الأمر في الممارسات الفلسفية التقليدية، لأنه بدأ يرتبط بحقول معرفية جديدة عليه. وبهذا المعنى تحول إلى لوحة فنية أو صورة سينمائية. إذن، لم تعد الفلسفة خطابا مستغلقا على ذاته، من خلال البحث في الكليات والماهيات والعلل الأولى للوجود. بل وجدت لنفسها دروبا أخرى من إلا بداع الإنساني. وهكذا بدأت تتشكل العلاقة مع قطاعات فنية أخرى وخاصة السينما. ويعتبر دولوز رائد هذه الحركة الفلسفية الجديدة، إذ يتناول في مؤلفيه: «الصورة - الحركة» (1983)، و«الصورة - الزمن» (1985)، مختلف قضايا السينما منذ ظهورها. فليست هذه الدراسة تاريخا للسينما، وإنما محاولة لتصنيف الصور والدلالات. وذلك من أجل إنجاز قراءة لتاريخ الفلسفة، لكن بمنظور جديد ينهل من مجال الفن السابع. بهذا المعنى، تحتل السينما منزلة خاصة ضمن فلسفة دولوز، حيث يعتبر أن السينمائيين لا يمكن عزلهم عن صنف المفكرين، لأن التفكير لا ينحصر في الانشغال بالماهيات والعلل الأولى، بل يكون بواسطة نمط جديد من المفهوم هو «الصورة - الحركة» و«الصورة - الزمن». فالصورة في السينما ليست مستقلة بذاتها بقدر ما هي مرتبطة بالفهم والرؤية التي تشكلها. بهذا المعنى فالصورة ليست فعلا تقنيا محضا. هكذا فإن تشخيص العلاقة بين الفلسفة السينما، كشف أن التحول الذي شهدته السينما هو تحول جمالي ومفاهيمي في الوقت نفسه، من «الصورة - الحركة» إلى «الصورة - الزمن»، مما أفضى إلى تغير مفهوم الصورة ذاته في إلا بداع السينمائي.
إن دولوز يفكر بالسينما ومن خلالها، ويعود إلى بداياتها، وإلى مدارسها المختلفة. ويقف عند التحولات التي عرفتها التقنيات السينمائية، من خلال شواهد من تاريخ السينما لأفلام كبار المخرجين، أمثال إيزنشتاين، وبازوليني، وغودار، وفلليني. ويعتبر دولوز أن السينما تبعث على التفكير من خلال الصدمات التي تحدثها على مستوى الفكر، بحيث لا نكتفي فقط بالمشاهدة أو السمع عن طريق العلاقات التي نؤسسها مع هذا الكل الذي ننعته بالصورة السينمائية. بل بالأحرى، يربطنا بها الإحساس. ولا أقول «أنا أرى»، أو «أنا أسمع»، بل أقول «أنا أحس». بهذا المعنى يتولد في نظر دولوز، كوجيوتو جديد «أنا سينمائي». أي إنها تؤسس لفكر يدعو إلى كينونة أفضل، تتشارك في تشييدها كل من الفلسفة والسينما. وقد أوضح ذلك من خلال نماذج من السينما. فمثلا السينمائي الإيطالي فلليني، ساهمت أعماله السينمائية في تغذية الكثير من التأملات النظرية حول السينما، مكونة عالما خاصا من الصيرورة والتحول لشخوص وأحداث مميزة، تسمح بإقرار أن السينما، على حد تعبير دولوز: «لا تعرض صورا فقط، بل تحيطها بعالم محدد»، عالم من الألوان والمشاعر والرغبات والحياة، أو لنقل، عالم تتداخل فيه كل أشكال الوعي واللاوعي والفكر والواقع. ففي فيلمه «روما» (1972)، تمكنت «رحلة الميترو، ليس فقط من سبر أغوار الأرض، بل وعلى الخصوص، من اختراق الزمن، حيث سيلتقي في إطار الزلزال، كل من الماضي المتمثل في الرسوم الجدارية لفيلا رومانية، والحاضر المتمثل في ورش البناء». إذن فكل فيلم في نظر فليني، يعبر عن الواقع المنبثق من الذاكرة، حيث يوفر إمكانية التفكير بطريقة مغايرة في ذواتنا وفي العالم، من خلال خلق صور مبتكرة للحياة في تقاطعها مع الخيال. وفي فيلم «المصير» (1997) للسينمائي المصري يوسف شاهين، يتداخل التاريخ بالخيال والأسطورة بالواقع، حيث يتناول سيرة فيلسوف قرطبة ابن رشد. ففي المشهد الأخير، يمسك ابن رشد بأحد كتبه ولا ينظر إليها، وبعد ذلك يلقيها وراءه في النار. فحضور الكتاب والنار والنظرات، دليل على تجاوز الفكر لكل الإشراطات، واختراقه للواقع وانفتاحه على الزمن. إن هذه الصورة تعبر عن أن الكتاب وكل ما هو حسي، يمكن حرقه والتخلص منه. لكن الفكر ممتد في الزمن بكل قوته وفعاليته. وهذا ما يفسر استمرارية فكر ابن رشد في التواريخ المختلفة. فيوسف شاهين جعل من هذه الصورة منطلقا لتمجيد الفكر وقدرته على الصمود، واستثماره لفكرة الزمن كرهان أساسي لمعالجة قضايانا الفكرية والحضارية.
بشكل عام، نلاحظ أن عمل الفيلسوف منشد إلى أبعد الحدود إلى عمل السينمائي، والصورة هي الجهاز الذي يمثل منطلقا للتفكير، رغم التباعد الظاهري فقط بين المجالين، أي الفلسفة والسينما.



مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
TT

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)

تحت عنوان «النقد الفلسفي» انطلقت صباح اليوم، فعاليات مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة بدورته الرابعة، الذي يقام بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وذلك بمقر بيت الفلسفة بالإمارة، برعاية الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة.

ومؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة، هو أول مؤتمر من نوعه في العالم العربي ويشارك فيه سنوياً نخبة من الفلاسفة البارزين من مختلف أنحاء العالم، ويحمل المؤتمر هذا العام عنوان «النقد الفلسفي».

وتهدف دورة هذا العام إلى دراسة مفهوم «النقد الفلسفي»، من خلال طرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات حوله، بدءاً من تعريف هذا النوع من النقد، وسبل تطبيقه في مجالات متنوعة مثل الفلسفة والأدب والعلوم.

ويتناول المؤتمر العلاقة بين النقد الفلسفي وواقعنا المعيش في عصر الثورة «التكنوإلكترونية»، وأثر هذا النقد في تطور الفكر المعاصر.

الدكتور عبد الله الغذامي (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويسعى المتحدثون من خلال هذا الحدث إلى تقديم رؤى نقدية بناءة جديدة حول دور الفلسفة في العصر الحديث ومناقشة مجموعة من الموضوعات المتنوعة، تشمل علاقة النقد الفلسفي بالتاريخ الفلسفي وتأثيره في النقد الأدبي والمعرفي والعلمي والتاريخي ومفاهيم مثل «نقد النقد» وتعليم التفكير النقدي، إلى جانب استكشاف جذور هذا النقد وربطه ببدايات التفلسف.

وتسعى دورة المؤتمر لهذا العام لأن تصبح منصة غنية للمفكرين والفلاسفة لتبادل الأفكار، وتوسيع آفاق النقاش، حول دور الفلسفة في تشكيل المستقبل.

ويأتي المؤتمر في ظل الاحتفال بـ«اليوم العالمي للفلسفة» الذي يصادف الخميس 21 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، والذي أعلن من قبل «اليونيسكو»، ويحتفل به كل ثالث يوم خميس من شهر نوفمبر، وتم الاحتفال به لأول مرة في 21 نوفمبر 2002.

أجندة المؤتمر

وعلى مدى ثلاثة أيام، تضم أجندة مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة؛ عدداً من الندوات والمحاضرات وجلسات الحوار؛ حيث افتتح اليوم بكلمة للدكتور أحمد البرقاوي، عميد بيت الفلسفة، وكلمة لأمين عام الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية.

وتتضمن أجندة اليوم الأول 4 جلسات: ضمت «الجلسة الأولى» محاضرة للدكتور أحمد البرقاوي، بعنوان: «ماهيّة النّقد الفلسفيّ»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الغذامي، بعنوان: «النقد الثقافي»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الهتلان.

كما ضمت الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور فتحي التريكي، بعنوان: «النقد في الفلسفة الشريدة»، ومحاضرة للدكتور محمد محجوب، بعنوان: «ماذا يُمكنني أن أنقد؟»، ومحاضرة ثالثة للدكتور أحمد ماضي، بعنوان: «الفلسفة العربية المعاصرة: قراءة نقدية»، وترأس الجلسة الدكتور حسن حماد.

أمّا الجلسة الثالثة، فضمت محاضرة للدكتور مشهد العلّاف، بعنوان: «الإبستيمولوجيا ونقد المعرفة العلميّة»، ومحاضرة للدكتورة كريستينا بوساكوفا، بعنوان: «الخطاب النقدي لهاريس - نقد النقد»، ومحاضرة للدكتورة ستيلا فيلارميا، بعنوان: «فلسفة الولادة - محاولة نقدية»، وترأس الجلسة: الدكتور فيليب دورستيويتز.

كما تضم الجلسة الرابعة، محاضرة للدكتور علي الحسن، بعنوان: «نقد البنيوية للتاريخانيّة»، ومحاضرة للدكتور علي الكعبي، بعنوان: «تعليم الوعي النقدي»، ويرأس الجلسة: الدكتور أنور مغيث.

كما تضم أجندة اليوم الأول جلسات للنقاش وتوقيع كتاب «تجليات الفلسفة الكانطية في فكر نيتشه» للدكتور باسل الزين، وتوقيع كتاب «الفلسفة كما تتصورها اليونيسكو» للدكتور المهدي مستقيم.

الدكتور أحمد البرقاوي عميد بيت الفلسفة (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويتكون برنامج اليوم الثاني للمؤتمر (الجمعة 22 نوفمبر 2024) من ثلاث جلسات، تضم الجلسة الأولى محاضرة للدكتورة مريم الهاشمي، بعنوان: «الأساس الفلسفي للنقد الأدبيّ»، ومحاضرة للدكتور سليمان الضاهر، بعنوان: «النقد وبداية التفلسف»، ويرأس الجلسة: الدكتورة دعاء خليل.

وتضم الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور عبد الله المطيري، بعنوان: «الإنصات بوصفه شرطاً أوّلياً للنّقد»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الجسمي، بعنوان: «النقد والسؤال»، ويرأس الجلسة الدكتور سليمان الضاهر.

وتضم الجلسة الثالثة، محاضرة الدكتور إدوين إيتييبو، بعنوان: «الخطاب الفلسفي العربي والأفريقي ودوره في تجاوز المركزية الأوروبية»، ومحاضرة الدكتور جيم إي أوناه، بعنوان: «الوعي الغربي بفلسفة ابن رشد - مدخل فيمونولوجي»، ويرأس الجلسة: الدكتور مشهد العلاف.

ويتكون برنامج اليوم الثالث والأخير للمؤتمر (السبت 23 نوفمبر 2024) من جلستين: تتناول الجلسة الأولى عرض نتائج دراسة حالة «أثر تعليم التفكير الفلسفي على طلاب الصف الخامس» تشارك فيها شيخة الشرقي، وداليا التونسي، والدكتور عماد الزهراني.

وتشهد الجلسة الثانية، اجتماع حلقة الفجيرة الفلسفية ورؤساء الجمعيات الفلسفية العربية.