يُمكن للتجارب المريرة أن تصنع النجاحات في نهاية المطاف، كما يمكن أن تأتي هذه النجاحات من طريقٍ يجهله الإنسان، قبل أن يلقاه في وسط عتمة شعر بها لوحده؛ بينما كان الناس منشغلين في ذواتهم.
بعدما مثّلت بلادها السعودية في فرقة الأوركسترا الرئيسية لقمة دول مجموعة العشرين، قالت أروى العبيد إن تمارين التأمل قادتها إلى رؤية الخيارات المتاحة في حياتها عبر أسئلة عميقة واجهتها مع نفسها لأول مرّة.
وبالعودة إلى اللحظات الأخيرة قبل أن تُنقذ تمارين التأمّل مسيرة الفتاة اليافعة، تقول أروى العبيد لـ«الشرق الأوسط» إنها اكتشفت اهتمامها بالموسيقى في آخر سنوات الدراسة الجامعيّة لتخصص «نظم المعلومات الإدارية»، عندما مرّت بمرحلة عدم رضا عن مستقبلها المهني بعد التخرّج، «وشعرت حينها بالحاجة إلى التعبير عن نفسي بشكل إبداعي؛ حتى وجدت كتاباً قرّبني إلى نفسي أكثر من خلال تمارين التأمل».
ونتيجة لذلك، فقد اختارت أروى العبيد أن تصبح موسيقيّة «في أقرب وأصدق ما أكون مع نفسي» حسب وصفها، مع أنها اعتبرت في الوقت ذاته بأن التوقيت كان «متأخّراً»، مقارنة بالعمر المناسب الذي يبدأ فيه التعليم الموسيقي وهو سن الطفولة، نظراً إلى أن تعلّم المهارات الموسيقية كالعزف أو الغناء، يتطلّب بحسب أروى العبيد «سنوات طويلة، ولا يمكن ببساطة اختصارها لأنها مرتبطة ببناء جسدي وعضلي كبناء جسد رياضي، وعقلي كتعلم قراءة لغة جديدة، بالإضافة إلى أهمية صقل هذه المهارات وممارستها عبر خوض تجارب موسيقية عديدة ومختلفة».
مرّت العبيد بالعديد من التحديات خلال مسيرة تعلّمها للموسيقى، خصوصاً أنها امتلكت منذ وقت مبكر من هذه المسيرة طموحاً بالوصول إلى مستوى احترافي، وتطلّب منها ذلك الكثير من التضحيات على غرار جمع مدخولها الجامعي لمدة سنة من أجل شراء «آلة بيانو» فقط، والبحث عن وظيفة مؤقّتة لمساعدتها في دفع تكاليف الدروس الخصوصية في الموسيقى عبر تقنية «سكايب»، وقضاء أوقات متقطّعة خلال إجازة نهاية الأسبوع أو بعد نهاية يوم عمل شاق لصالح تعلّم نظريات الموسيقى وتاريخها وتحليلها، والتدريب على آلة الكمان التي سافرت العبيد من أجل اقتنائها من مدينة فيينا؛ وفي هذا الإطار تنسب العبيد فضلاً للأستاذ ديفيد شكري الذي درس الموسيقى في جامعة أكسفورد، وساعدها لتكون جاهزة خلال سنة فقط لاجتياز المستوى الثامن، وهو بحسب أروى العبيد «أعلى مستوى لاختبار شهادة ABRSM في نظريات الموسيقى».
ولحسن حظ عازفة الأوركسترا أروى العبيد، فقد صادفت بداية بحثها عن فرص لدراسة الموسيقى، تدشين برنامج «الابتعاث الثقافي» التابع لوزارة الثقافة، حيث حصلت على بعثة من البرنامج، وعن هذه الصدفة تقول: «كأنني كنت طوال السنوات السابقة، أَبني سفينة نوح على اليابسة»، حيث منحتها هذه البعثة فرصة الغناء لأول مرة مع فرقة كورال والمشاركة في فرق الأوركسترا، وتأليف أول عمل موسيقي متكامل.
وتوّجت أروى العبيد هذه التجربة بحصولها على جائزة أفضل أداء أكاديمي في جامعتها لعامها الدراسي الأوّل.
هيئة الموسيقى التابعة لوزارة الثقافة السعودية، رشّحت أروى العبيد لتكون ممثلة للبلاد في أوركسترا دول مجموعة العشرين، وتجمع فرقة أوركسترا دول مجموعة العشرين نخبة من العازفين من هذه الدول، بالإضافة إلى عازفِين على أعلى مستوى من إندونيسيا، الدولة المستضيفة للنسخة الحالية من قمة مجموعة العشرين.
https://twitter.com/Arwa_AlObaid/status/1568653286223544323?s=20&t=UoTEuPtl97hAAWUlPwQCXw
وتعلّل أروى العبيد على الصعوبات التي واجهتها منذ مرحلة مبكّرة، باختيارها من قِبل الأوركسترا لتنضم إلى قسم «الكمانات الثانية»، حيث ستخوض فيما بعد تحدّياً بأن تكون جاهزة خلال 3 أسابيع فقط لعزف 7 أعمال ضخمة، بما يعادل أكثر من 30 صفحة، فيما كان نظراؤها في الأوركسترا كانوا قد بدأوا التحضير منذ ما يزيد على الشهرين.
وطبقاً لأروى العبيد، فإن «الموسيقى» كانت هي لغة الحوار بين أعضاء فرقة أوركسترا قمة دول مجموعة العشرين في الأوقات التي كانت اللغات تحد من التواصل بينهم.
وصولاً إلى الإطلالة الأولى لفرقة أوركسترا مجموعة العشرين، في 12 من سبتمبر (أيلول) الحالي، وبحضور وزراء الثقافة لدول مجموعة العشرين، بجانب أكبر معبد تراثي في العالم سجلته اليونيسكو، كانت العبيد على أتمّ الاستعداد، وساهمت الظروف المحيطة في الموقع والتحضيرات إلى أن تؤدّي أروى العبيد دورها بالشكل الذي طمحت أن تظهر به، كعازفة كمان تمثّل البلد العربي الوحيد في مجموعة العشرين.
تروي أروى العبيد أنها امتلكت منذ وقت مبكّر رسالة أرادت بشدّة التعبير عنها، ومن خلال «الشرق الأوسط» أفادت: «الموسيقى الكلاسيكية ليست حكراً على طبقة اجتماعية بعينها، وتعليمها لا ينبغي أن يكون مكلفاً أو حصراً للأغنياء، فهي تساعدنا على فهم أنفسنا أولاً وتساعدنا على التعبير عمّا لا يمكن التعبير عنه إلا بالفن».
وتجسّد مسيرة العازفة أروى العبيد من التعليم إلى المشاركة ضمن فرقة أوركسترا دول مجموعة العشرين، الاهتمام الكبير الذي باتت تتلقّاه القطاعات الثقافية والفنيّة السعودية على عدة صُعُد في السنوات الأخيرة، ومنها التعليم والتأسيس الأكاديمي الذي قدّمت من أجله تسهيلات، مثل إنشاء هيئة الموسيقى الوليدة من وزارة الثقافة، وتدريس المناهج الموسيقيّة في التعليم العام، وتأسيس أقسام الموسيقى والفنون وابتعاث طلبة الجامعات إلى خارج البلاد ضمن برامج مدعومة بالكامل من الحكومة، ساهمت في جعل طالبة «نظم المعلومات الإدارية» تطوّر موهبتها وشغفها الفني، حتى مثّلت بلدها موسيقيّاً ضمن المجموعة التي تضم أهم 20 دولة في اقتصاديات العالم.
تمارين التأمل والمكافأة الجامعية تحوّل خرّيجة «نظم المعلومات» إلى عازفة عالمية
ممثلة السعودية في «أوركسترا مجموعة العشرين»: الموسيقى الكلاسيكيَّة ليست حكراً على طبقة بعينها
تمارين التأمل والمكافأة الجامعية تحوّل خرّيجة «نظم المعلومات» إلى عازفة عالمية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة