أين اختفت أغاثا كريستي؟

سيرة جديدة متعاطفة مع «ملكة أدب الجريمة»

أغاثا كريستي في مكتبها
أغاثا كريستي في مكتبها
TT

أين اختفت أغاثا كريستي؟

أغاثا كريستي في مكتبها
أغاثا كريستي في مكتبها

لا تزال أرقام مبيعات الرّوائيّة البريطانيّة أغاثا كريستي استثنائيّة بكل المقاييس، ليس فقط لأنّها وصلت لحدود قياسيّة تجاوزت في مجموعها الملياري نسخة، ولكن لأنّها مستمرة لفترة طويلة تربو على المائة عام مذ نشرت أوّل أعمالها (رواية «الأحداث الغامضة في ستايلز»، التي كتبت في 1916 ونشرت في 1920). وطبعت دار النشر البريطانيّة الشهيرة «بنغوين» مليون نسخة خلال يوم واحد من 10 روايات لها في ذكرى مرور ربع قرن على صدور أولى رواياتها. وكانت منظمة اليونيسكو قد أعلنت في 1961 أنّها «المؤلفة الأكثر مبيعاً عبر العالم»، بعدما سجّلت ترجمة أعمالها إلى 103 لغات حيّة (مقارنة بالكتاب المقدس الذي نقل إلى 171 لغة، وشكسبير إلى 90 لغة).
على أن هذه المؤلفة التي أصبحت ملكة متوجة لفن أدب الجريمة والمغامرات البوليسيّة في الفضاء الأنغلوسكسوني، وجزءاً أساسيّاً من القوّة الناعمة للثقافة البريطانيّة، عانت كثيراً سمعة سلبيّة اكتسبتها في وقت ما خلال عام 1926 عندما اختفت لمدة أحد عشر يوماً، وظنّ كثيرون أن مصيرها كان الموت؛ أقلّه وفق عناوين صحف تلك الأيّام التي عرضت مكافآت ماديّة لمن يجدها. كانت الشّرطة قد عثرت على سيارة الروائيّة الفاتنة مهجورة في منطقة سَرِي جنوب لندن، وأطلقت عمليّة واسعة للبحث عنها في المناطق الخضراء، متوقعة حدوث الأسوأ. لكن الصحافة ما لبثت أن انقلبت عليها وسلقتها بألسنة حداد، بعدما اكتُشفت مسجلّة باسم مستعار في فندق «هاروغيت هايدرو» الفاخر؛ حيث كانت تقضي نهاراتها في تسوّق الملابس الجديدة، والمساءات في الرّقص والثرثرة الفارغة مع الغرباء حول حزنها على وفاة ابنتها الصغيرة. وطرح عضو من حزب العمّال تساؤلات في مجلس العموم حول التكلفة التي تكبدتها المملكة التي لمّا يتعافى اقتصادها من آثار الحرب العالميّة الأولى للبحث عن تلك السيدة الثريّة الشريرة، فيما دعت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركيّة إلى تحميل تلك التّكلفة على حساب وكيل كريستي الأدبي، بحسبان أن «موكلته عديمة القلب تواطأت على الجمهور، وتلاعبت بعواطفه لأجل مزيد من الشهرة».
وبالطبع؛ فقد أشبع الصحافيّون والفضوليون والمخرجون السينمائيّون لغز اختفاء كريستي بحثاً، ووُضعت طوال العقود الماضية تفسيرات عديدة متفاوتة يوحدها ميلها إلى إدانتها بشكل أو بآخر، من اتهامها بالتخطيط لقتل عشيقة زوجها (الأوّل أرشيبالد كريستي وكان ضابطاً في سلاح الجو الملكيّ) أو محاولة ترويعه كي يعود إليها، إلى تنفيذ مؤامرة ساخرة لزيادة مبيعات أحدث رواياتها، ومروراً بنقد طبقيّ قاسٍ لسيّدة ثريّة فاسدة، لا بدّ من أنها اعتقدت أنها فوق القواعد العادية التي تحكم سلوك عامّة المواطنين.
واليوم، وبعد نحو مائة عام على حادثة الاختفاء تأتي لوسيلي ورسلي في سيرتها عن كريستي الصادرة حديثاً عن دار «هودر وستوتون» لتدعونا إلى منح الروائيّة الشهيرة شيئاً من العدالة، وتقبّل تصرفها خلال فترة اختفائها بوصفه أقرب ما يكون إلى ردّ فعل يائس ومرتبك في إطار أزمة صحّة نفسيّة كانت تمر بها الروائيّة حينذاك. فقد ترافق خبر فقدانها والدتها المقربّة إليها مع إبلاغها من قبل زوجها بأنّه سيتركها من أجل امرأة أصغر سنّاً. وبالفعل، فقد أحسّت كريستي وقتها بالضياع، وأرادت، وفق تصريحات لها، «أن تنتهي حياتها»، وقد توجهت إلى يوركشاير في حالة من الشرود بحثاً عن الراحة من فترة قصيرة ومكثّفة ومؤلمة أفقدتها توازنها العقلي، دفعتها لتفرَّ من واقعها إلى نقطة بعيدة جداً من أجواء المنزل المعتادة.


ورسلي وكتابها عن أغاثا كريستي (حساب المؤلفة على «تويتر»)
ويبدو أن كريستي شعرت بالارتباك الشديد، إزاء فضيحة الاختفاء، لبقية حياتها الطويلة وهي التي لطالما عدّت فكرة السعي لجذب اهتمام الجمهور لتحقيق مكاسب شخصية مسألةً لا أخلاقية للغاية.
وتنقل ورسلي في الكتاب، عن حفيدها، تجنّب الجميع في العائلة طرح الموضوع للمناقشة أمامها كي لا يستعاد شعورها بالعار. لقد ظُلمت كريستي على الأرجح واتهمها كثيرون بالازدواجية والكذب، وقد احتاجت لمائة عام كي تتطور نظرتنا لمسائل الصحة العقليّة والنفسيّة؛ كي تأتي كاتبة سيرة جديدة لتضع حدث الاختفاء في نطاق سياق مختلف متنزه عن النيّات السيئة والأحكام المسبقة القاسية.
ومع ذلك، فإن هذي الضجة الهائلة التي ما زالت أصداؤها تتردد حتى بعد مائة عام مؤشر على مدى شعبية وأهمية كريستي؛ الأديبة التي تكرّست بعد خمس سنوات فقط من ظهورها لأول مرة روائيةً في أدب الجريمة. وللحقيقة فإنّها كوّنت سريعاً، ومنذ باكورة أعمالها، مناخاً خاصاً أحبّه الناس: منزل ريفيّ لطبقة ثريّة تعاني التفكك والضغوط الاجتماعيّة، وجريمة يشتبه في اقترافها من قبل عدد من الشخصيات التي لديها جميعاً سبب لكراهية الضحية، ومحقق خاص يدعى بوارو (رُسِمَ بوصفه لاجئاً بلجيكياً نزح إلى المملكة المتحدة بسبب الحرب) يجمع المعنيين في غرفة الرّسم للكشف عن المجرم في الصفحة الأخيرة. ويبدو أن تجربة كريستي في التطوّع للخدمة الميدانيّة داخل صيدليّة مستشفى حربيّ مؤقت خلال الحرب العالميّة الأولى كانت وراء اختيارها سمّ «السيانيد» أداة قتل مفضّلة؛ إذ قضى ما لا يقلّ عن 18 من شخصيات رواياتها بجرعة منه في فضاء 10 روايات و4 قصص قصيرة.
وُلدت أغاثا فريدريك ميلر عام 1890 لأب أميركيّ في أجواء السلالات الأرستقراطيّة في منطقة ديفونشاير (شمال غربي لندن).
تقول ورسلي إن رحيل والد كريستي المبكر وهي في الحادية عشرة من العمر ترك على حافة مزاجها شعوراً دائماً من الإحساس بفقدان الأمن المادي والعاطفي، الذي أصبح تالياً من السمات المميزة لطريقة نسجها المشهد الأدبيّ. وقد تزامن ذلك مع فترة عاشتها بريطانيا خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، تخلخلت فيها العلاقات العائليّة وتضررت الهيكليات البطريركيّة، بما فيها قبضة القوى المحليّة لسلطات إنفاذ القانون والنّظام، الأمر الذي قد يفسّر ذلك القبول العريض والسريع لروايات كريستي البوليسية الأولى بين جمهور القرّاء البريطاني.
وتعدّ ورسلي كريستي رائدة حداثة أعادت صياغة كثير من اهتمامات الرّواية الفيكتورية الكلاسيكيّة حول الميراث والجنون والعلاقات الجنسيّة المضطربة، وقدّمت نماذج لشخصيات كسرت النّماذج التقليدية للرجال والنساء على حد سواء.
وتضم أعمالها، التي تكاد تستعصي على الإحصاء، منجزات من مختلف الأنواع الأدبيّة: روايات وقصص قصيرة ونصوص مسرحيّة إضافة إلى مذكراتها الشخصيّة، ومعظمها ما زال قيد التداول في طبعات شعبيّة وعاديّة وفاخرة يعاد إصدارها بين الحين والآخر، لا سيّما عند إطلاق أفلام سينمائيّة ومسلسلات جديدة تستلهم شخصياتها، وما أكثرها.
ولم تقتصر كتاباتها على أدب الجريمة حصراً، بل كتبت أيضاً روايات جاسوسيّة، وألحقت المحقق «بوارو» بعد 1966 بشخصيّة أخرى أثبتت رواجاً، وهي المحققة «مدام ماربل» التي أصبحت عند كثيرين - من خلال مارغريت رذرفورد، الممثلة البريطانية المخضرمة التي لعبت دور «الآنسة ماربل» في الستينات - صنو كريستي نفسها، رغم أنّها لم تكن تشبهها مطلقاً من ناحية الشكل.
كسبت كريستي ملايين الجنيهات من كتبها وحقوق مسرحياتها، لكنّها كانت دائماً قريبة من الإفلاس بسبب بذخها اللامحدود وهوسها بالملابس والحفلات. وقد تزوجت للمرّة الثانية من عالم الآثار ماكس مالوان عام 1930 رغم استهجان الجميع من حولها، الذين عدّوا اقترانها به، وهو الأصغر عمراً منها، «زواج مصلحة»، سعياً منه للحصول على تمويل لرحلاته الميدانية إلى المواقع الأثرية في منطقة الشرق الأوسط. لكن ورسلي ترى مع ذلك أن تلك العلاقة كانت أكثر من مجرّد مصدر لتمويل الرحلات، وصمدت عبر الأيّام حتى عندما كانا يتباعدان بين الفينة والأخرى، لكن مالوان كان يستغل فترات التباعد تلك لنسج علاقات مع عشيقات تزوج إحداهن بعد فترة وجيزة من وفاة كريستي في عام 1976.
لقد أُثير كثير من اللّغط حول كريستي، ولم تساعد حادثة اختفائها الشهيرة في منحها ما تستحقه على المستوى الشخصيّ من التفهّم والتقدير والمحبّة، ولذلك فإن السيرة التي وضعتها ورسلي تبدو نوعاً من تصويب، ولو متأخراً، لميزان العدالة. لكن عبقريّة أغاثا كريستي الأدبيّة ليست أبداً موضعاً للخلاف، ولا يعتقد أن أحداً ما سيكون قادراً على إزاحتها يوماً عن عرشها ملكة متوجة لأدب الجريمة في الثقافة البريطانية.


مقالات ذات صلة

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق أجمل ما يحدُث هو غير المُتوقَّع (مواقع التواصل)

من «لم أَبِع كتاباً» إلى «الأكثر مبيعاً»

أكّدت كاتبة بريطانية طموحة أنّ رؤية روايتها تُصبح من أكثر الكتب مبيعاً بعدما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي كان ذلك أمراً «مثيراً جداً».

«الشرق الأوسط» (لندن)

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».