مثقفون أعادوا بناء آسيا

كتاب يلقي الضوء على أهم كتابها ومفكريها

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

مثقفون أعادوا بناء آسيا

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

سياحة أدبية شيقة تكشف الكثير من المهمش والمسكوت عنه في الثقافة الآسيوية، وما وصلت إليه من تقدم، يوضح فصولا مهمة منها الدكتور السيد أمين شلبي، في كتابه «المثقفون الذين أعادوا بناء آسيا» الصادر حديثا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر.
يركز مؤلف الكتاب على دور المثقفين والمفكرين في صناعة هذا التقدم، ووضع القارة الآسيوية في مركز الجاذبية والنظام الدولي الجديد، مستفيدا من خبرته الطويلة في العمل الدبلوماسي في العديد من دول القارة، وأيضا في عدد من الدول في أوروبا وأفريقيا وفي أميركا، مما أتاح له معايشة هذه الثقافة عن قرب.
وفي إطار يتسم بالعمق، يناقش الكتاب القضايا الثقافية، في تجاورها وتقاطعها مع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويعرج على التحولات المفصلية التي طرأت على الكثير من بلدان العالم، وعلى رأسها «ثورات الربيع العربي»، وكيف ينظر لها كوكبة من أبرز المفكرين والباحثين في العالم.
ففي سياحته حول «المثقفين الذين أعادوا بناء آسيا» يتوقف المؤلف عند الكاتب الهندي بانكاش ميشارا، مستعرضا أهم مؤلفاته، ومنها «نهاية المعاناة» 2004، الذي يستعرض فيه سيرة الرجال الأول لآسيا، وكيف سافروا وكتبوا بشكل غير مسبوق، وقيموا بلا كلل مجتمعاتهم والمجتمعات الأخرى، وأمعنوا التفكير في فساد القوة، وتحلل المجتمع، وفقدان الشرعية السياسية وإغواءات الغرب، ليمتلكوا من خلال هذه الخبرات، بصيرة ثاقبة بوضعهم الإنساني الأوسع في بلدانهم الآسيوية، وفي ضوء تحول الفضاء الثقافي والسياسي العالمي، وتشكل الوعي الضروري والجماعي.
ويصف المؤلف هؤلاء المثقفين والمفكرين بأنهم راوحوا بين الأمل واليأس، لأنهم تقليديون، وثائرون راديكاليون، على العادات الموروثة، لافتا إلى أنهم كانوا يناضلون لكي يصيغوا إجابة وافية لسؤال: «كيف يصالحون أنفسهم والآخرين مع تضاؤل حضاراتهم من خلال التحليل والتغريب، وفي الوقت الذي يستفيدون فيه من المساواة والكرامة في أعين الحكام البيض والعالم».
ويخلص المؤلف بحسب ميشارا إلى أنه لم يكن من الممكن أن يكون الأمر سهلا لتجمعات ذات تنوع داخلي، مثل الهند وإندونيسيا، أن تجد هوية اجتماعية وسياسية وثقافية دون عنف وعدم نظام، ويستشهد هنا بالحالة الأوروبية، التي احتاجت مئات السنين، لكي تطبق مفهوم الدولة ذات السيادة بعد حربين عالميين، استهلكت بخسارة فظيعة الأقليات العرقية والدينية.
وحول كتاب «واقع الثورات التي لم تكتمل في الشرق الأوسط»، يستعرض الكتاب أفكار مؤلفه مارك لين أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن، وأيضا يعمل مديرا لمعهد دراسات الشرق الأوسط. ويرى لنش أن هذه الثورات أو الانتفاضات تتحرك بشكل مختلف عبر المنطقة، ومن المحتمل أن تنتج سياسات إقليمية مختلطة، وبعض الديمقراطيات الجديدة، بعض الديكتاتوريات المتحكمة، بعض الملكيات الإصلاحية وبعض الدول المنهارة وبعض الحروب الأهلية، ومن المحتمل أن يكثفوا المنافسة الإقليمية، ويدفعوا تحالفات وخصومات ويغيروا طبيعة سياسات القوى. كما يرى لنش أن هذه التغيرات سوف تكون مدفوعة في جزء منها بتغير أجيال، وسوف يواجه فيها الشباب المحبط والاقتصادات الفاشلة بفساد منتشر وسياسات مغلقة ومؤسسات دولة لا مبالية وعنيفة.
ويلفت المؤلف إلى أن لنش يركز كثيرا على تأثير البيئة الإعلامية الجديدة في هذه التغيرات، بما تقدمه من تدفق المعلومات وفكر الخطاب العام والجدل المفتوح الذي صدع أعمدة النظم السلطوية العربية. كما يرى لنش أن هذه الانتفاضات، تشكل نوعا من التحدي للولايات المتحدة، مشيرا إلى أن الاقتراب البرجماتي من هذا التغير الطارئ للأعوام القادمة، وأن أميركا أصبحت تحتاج إلى نظرية لوضعها في الشرق الأوسط، بعيدا عن سياسة حقبتي الواقعية والمحافظة الجديدة؛ فكلتاهما فهمت الرأي العام العربي بشكل سيئ، ولم تقدر ما ينطوي عليه من قوى ممزقة، أصبحت متمكنة.
ويعتقد لنش أن العالم العربي يتغير، وأن الولايات المتحدة لا تستطيع إيقافه، ويرى أن هذه التغيرات الكثيرة ستكون معالم كبيرة لسياسات دول الشرق الأوسط، وأنها سوف تتحدى الكثير منها، مما يهز الوضع الراهن الذي حافظت عليه أميركا طويلا.
ويشير مارك لنش في تحليله لفضاء الديناميكيات العربية الجديدة إلى نقطة مهمة، وهي الوهم المشترك في واشنطن بأن هذه الثورات كانت حول قضايا داخلية، ولا علاقة لها بقضية فلسطين، ولا بالسياسة الخارجية الأميركية، وهي نظرة غير واقعية، مؤكدا في هذا السياق أن إحدى أفضل تحركات الرئيس الأميركي أوباما، هي الاعتراف بأن الثورات العربية لا تعتمد أو تريد القيادة الأميركية.
وفي فصل بعنوان «إلى أين يذهب العرب؟» يرصد المؤلف رؤى ثلاثين مفكرا وباحثا حول إخفاق ونجاح الانتفاضات العربية، وهو كتاب أصدرته مؤسسة الفكر العربي بالعنوان نفسه. ورغم تباين الآراء بين هؤلاء الباحثين، فإن ثمة اتفاقا مشتركا بينهم، على أنه من المبكر الحكم على هذا الثورات العربية بالنجاح أو الإخفاق، فهي لا تزال في حالة جدل وصراع، وفي حالة صيرورة ومرحلة انتقالية متغيرة، كما أنه رغم ما يعتريها من حالة شد وجذب، وعدم يقين لن تعود إلى العهود والنظم الديكتاتورية التي ثارت عليها وأسقطتها.
ويتوقف الكتاب عند شخصيتين آسيويتين، لعبتا دورا مهما في وضع بلديهما بقوة تنافسية على خريطة العالم الجديدة، وجعلاها محور جذب واهتمام على عالمي على شتى المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية والسياحية على نحو خاص؛ الأول دنج تشاوبنج القائد الصيني الذي عالج أخطاء تجربة الزعيم ماو تسي تونغ، ورسم صورة الصين المعاصرة، التي تنعكس فيها مسيرته الذاتية وشخصيته القوية.
يتناول مؤلف الكتب منجز دنج من خلال أبحاث لأزرا فوجل، أستاذ بجامعة هارفارد الأميركية متخصص في الشؤون الآسيوية. ويلاحظ فوجل أن دنج انتقد سيرة الحياة التي أسرف كتابها في الثناء على أنفسهم، وأصر على أن كتابته عن سيرة حياته يجب ألا يكون مبالغا فيها. ففي الواقع كان دنج لا يتحدث كثيرا عن حياته بشكل علني، وعن خبراته وتجاربه السابقة، وكان معروفا عنه أنه لا يحب أن يتكلم كثيرا، وكان حذرا حول ما يقوله.
ويذكر الكتاب أن فكر دنج للصين، كان نتاج مشروع متكامل يرتكز على مبدأ صحيح، وإطار واضح للتفكير فيه، وهو: «كيف تحقق ثروة للشعب الصيني والقوة للصين»، كما آمن دنج بأن ما يمكن تطبيقه في الداخل هو ما يمهد الطريق لتطوير علاقات جديدة مع الدول الأخرى، لكي تستجيب للعمل مع الصين. لكن يظل من أهم دعائم نجاح سياسة دنج كما يرى فوجل، إدخاله النظام الحاكم (الحزب الشيوعي الصيني) في عملية إعادة البناء في الداخل، وفي الوقت نفسه إصراره على أن يتدرب الشباب في الخارج ليجلبوا أفضل الأفكار وأفضل العلوم والتكنولوجيا، وهي المهمة التي تركها له ماو، بعد انفتاحه الضيق على الغرب، وتولي الصين مقعدها في مجلس الأمن في عام 1971.
وبجوار دنج، يتوقف الكتاب عند الزعيم لي كوان، أهم شخصية على المسرح الآسيوي والعالمي، الذي استطاع خلال أكثر من نصف قرن، بما فيها ثلاثون عاما من رئاسة الوزراء أن يحول سنغافورة من مجرد بلد صغير يتاجر في السلع، إلى واحدة من أهم المراكز العالمية في المال والتكنولوجيا، حين أطلق عليه «الأسطورة الآسيوية» في القرنين العشرين والحادي والعشرين.
ويحلق الكتاب في موضوعات أخرى لها تأثيرها على المسرح العالمي، مثل القوة الناعمة، والقوة الذكية، وانهيار الاتحاد السوفياتي، كما يتحدث عن غربة الكاتب العربي، ويناقش الأفكار المشتركة بين هنتغتون وفوكوياما، ولقاء مع الأديب ألبرتو مانويل في مكتبه، ويسلط الضوء على قضية التنوير عبر ثلاث رؤى مختلفة.. وغيرها من الموضوعات الثقافية الشيقة.



أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية
TT

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

يُعد الروائي الجزائري أمين الزاوي من أبرز الأصوات الأدبية في المشهد المغاربي الراهن؛ يكتب باللغتين العربية والفرنسية، وحصل على عدة جوائز دولية، منها جائزة «الحوار الثقافي» عام 2007 التي يمنحها رئيس الجمهورية الإيطالية، وتُرجمت أعماله إلى أكثر من 13 لغة، كما وصل عدد منها إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، آخرها رواية «الأصنام» (2024)، ومن رواياته بالفرنسية «الخنوع»، و«طفل البيضة». يعمل أستاذاً للأدب المقارن بجامعة الجزائر المركزية، وتولى منصب المدير العام للمكتبة الوطنية الجزائرية حتى عام 2008. صدرت له أخيراً رواية «منام القيلولة» عن دار «العين للنشر» بالقاهرة... هنا حوار معه حولها والمحطات المهمة في تجربته الأدبية.

* في روايتك الأحدث «منام القيلولة» تتفرع من الواقع مسارات للغرابة من خلال حكاية «أم» جزائرية... حدِّثنا عن ملامح هذا العالم الروائي الجديد؟

- كتبت هذه الرواية بقلبي، بحس خاص جداً، كانت أحداثها تسكنني منذ سنوات، وهي مرتبطة، ليس بشكل مباشر، بأشخاص شكلوا جزءاً مهماً في حياتي منذ الطفولة. كل شخصية روائية في «منام القيلولة» لها معادلها الاجتماعي لكنها كُتبت بشكل أدبي بكل ما في الأدب من نزعة التخييل والمسخ والتحوير والاختراق.

تتشكل الرواية إلى قسمين متداخلين في تناوُب وتناغُم؛ قسمٌ سمعتُ جلَّ وقائعه أو رُوي لي، وهو القسم الخاص بزمن الثورة المسلحة، حيث الحديث عن الخيانة الوطنية وخيانة الصداقة، وفيها أردت أن أقول إن التاريخ هو من صناعة البشر، والبشر مُعرضون للضعف ولارتكاب الأخطاء الصغيرة والكبرى، والثورة لها منطقها المتميز بالعنف والخوف والشجاعة، كل هذه القيم تتقدم معاً مختلطةً ومتنافرةً ومتقاطعةً، وهذا هو الجو الذي يتشكل فيه شقاء وعي المناضل.

أما القسم الثاني من الرواية فقد عايشته وعشته، وفيه أعرض بعض شخوص تشبه بعض الذين قاطعتهم في حياتي، ولكنهم سردياً خرجوا وتحرروا من الحالة الواقعية ولبسوا لبوس الشخوص الروائية، وهم من يمثلون الجيل الجديد في ظل الاستقلال وشكل الدولة الوطنية وما عاشته من تقلبات سياسية وحروب أهلية.

* يُحيل عنوان روايتك «الأصنام» إلى ميراث مجازي من التطرف والتحجّر، ثم سرعان ما يحملنا إلى فضاء الرواية المكاني وهو مدينة «الأصنام». حدِّثنا عن هذا التراوح بين المجاز والمكان.

- أحياناً يكون العنوان هو النقطة التي تتشكل منها الرواية ككرة الثلج، تُحيل كلمة «الأصنام» إلى بُعدين مركزيين؛ الأول يرمز إلى هذه الأصنام السياسية والدينية الجديدة التي نُصبت في المؤسسات وأصبحت بديلاً عن الله وتتكلم باسمه وبديلاً عن الوطن وتتكلم باسمه، والبعد الآخَر هو الإحالة إلى مدينة «الأصنام» التي توجد في الغرب الجزائري، التي أصبحت تسمى اليوم «شلف»، وتغيير اسمها جاء جراء تخريجات شعبوية دينية وسياسية أفتت بها «أصنام» السياسة والدين في ثمانينات القرن الماضي، حيث تعرضت المدينة لزلزال مدمر، ففسرته «الأصنام» الدينية والسياسية الشعبوية على أن الله ضرب المدينة بهذا الزلزال بسبب اسمها الذي تحمل والذي يُحيل إلى الشرك والكفر ويضرب وحدانية الله.

بهذا المعنى فالمكان في الرواية ليس حيادياً بل هو جزء من إشكالية الرواية، وهو يحيل إلى مستوى زيف الوعي التاريخي الجمعي، اختياره له دلالاته السياسية والحضارية والعقلية.

* تحاورت عبر التخييل الأدبي مع القصة التاريخية الأولى للقتل «قابيل وهابيل» ووضعتها في سردية مضادة في روايتك. ما الذي ألهمك لتطوير تلك المعارضة الأدبية؟

- سبق لي أن نشرت رواية بعنوان «حر بن يقظان»، وفيها أقمت معارضة فلسفية لقصة «حي بن يقظان» لابن طفيل، وهي أيضاً قريبة من معارضة رواية «روبنسون كريزوي» الفرنسية، حاولت بها أن أقول إن «الحرية أسبق من الحياة والوجود»، لذا استبدلت بـكلمة «حي» كلمة «حر».

وفي رواية «الأصنام» حاولت مقاربة فلسفة الأخوة التي لم يُكتب عنها إلا القليل جداً، عدت للحكاية التي وردت في الكتب السماوية الثلاثة عن قابيل وهابيل، وكيف كانت أول عملية إجرامية في التاريخ، لكني عكست الحكاية وبنيت علاقة عشق بين الأخوين مهدي وحميميد، وكيف أن الأخ الأصغر يعطي حياته للمخاطر والأسفار والحروب بحثاً عن قاتل أخيه والانتقام منه.

* الحِس الساخر بارز كأداة نقدية في أعمالك، كالقبض، مثلاً على والد البطل في رواية «الأصنام» بسبب اسم ابنه...

- السخرية سلاح مُقاوم، في رواية «الأصنام» اشتغلت على السخرية التي تكشف مستوى الرقابة والقمع الممارَس على المواطن، فحتى الأسماء يمكنها أن تكون سبباً في توقيف وسجن مواطن بسيط، ومن ذلك أن الأب يتم سجنه لسبب بسيط هو أنه سمى ابنه الذي وُلد يوم الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد هواري بومدين ضد الرئيس أحمد بن بلة، سمَّاه باسم حميميد، وهو الاسم الذي كان يُطلق على الرئيس أحمد بن بلة. وفي السجن يتعرف على «الصرصور» الذي يرافقه في زنزانته ويكسر عنه وحدته ويصبح صديقاً حميماً له، ويظل قلبه مشدوداً له حتى بعد خروجه من السجن.

* في أعمالِك انشغال بصوت العائلات وتتبع أصواتها ومآلاتها، ما أكثر ما يؤرقك في سيرة الأجيال الجزائرية المتلاطمة بين تيارات الاستعمار والتحرر والثورات؟

- العائلة مؤسسة بقدر ما هي قامعة هي في الوقت نفسه مورِّثة لمجموعة من التقاليد تتناولها الأجيال. إنَّ الحرية لا يمكنها أن تُفهَم وتُدرَك إلا داخل الأسرة؛ فالعلاقة بين الأب والزوجة، بين الأب وابنته، بين الأخ وأخته هي مقياس أساسي لفهم الوعي الجمعي لحرية المرأة، والخطابات بين أفراد العائلة تعكس في مفرداتها كثيراً من اللامسكوت عنه واللامفكَّر فيه، لذا جاءت رواياتي، وبالأساس روايتا «الأصنام» و«منام القيلولة»، تكتب التاريخ والمجتمع من خلال تفكيك سلّم العلاقات ما بين أفراد العائلة، وفيما بينهم وبين المحيط الذي يعيشون فيه. فالأسرة تشبه في بنيتها هرم بنية السلطة السياسية بشكل واضح.

* يبدو التراث جلياً في تفاصيل أعمالك، كتلك المقاربة في عنوان «الساق فوق الساق في ثبوت رؤية هلال العشاق»، وتُصدِر إحدى رواياتك برثاء المهلهل بن ربيعة لشقيقه كُليّب... حدِّثنا عن علاقتك بالتراث العربي؟

- أعدّ نفسي قارئاً نهماً للتراث العربي والإسلامي ومهتماً به، التراث المكتوب والشفوي على حد سواء، ولكن يجب أن ننظر إلى تراثنا، ونتعامل معه، في علاقته مع التراثات الإنسانية الأخرى حتى تتجلى لنا الصورة الناصعة فيه والمتردية أيضاً، لأن التقوقع حول تراثٍ وطنيٍّ والزهو به كثيراً قد يُسقطنا في مرض الاكتفاء بالذات. حين اكتشفتْ الإنسانية قيمة كتاب «ألف ليلة وليلة» تبناه الجميع، لا لأنها من هذه الهوية أو تلك، ولكن لأنها تعكس إبداعاً خالداً يمس البشرية جمعاء.

في تراثنا الجزائري أسعدُ دائماً بقراءة «الحمار الذهبي» لأبوليوس، وأيضاً «مدينة الله» للقديس أو أوغسطين وغيرهما، ويثيرني أيضاً التراث الأمازيغي الذي هو وعاء حقيقي لذاكرة البلاد، كما أقرأ الجاحظ وأعدّه معلم الحكاية، وأقرأ المعرّي «رسالة الغفران» وأعدّه مُعلم الجرأة.

* تحمل أعمالك رؤية آيديولوجية ونقدية، هل يصعب على الروائي صاحب الموقف أن يُحيّد نفسه وموقفه وهو يكتب الأدب، أم أن الحياد هنا نزعٌ لصوته الخاص؟

- الكاتب له قناعة فلسفية وسياسية واجتماعية، وبالتالي لا كتابة خارج هذه القناعة، لكن يجب النظر إلى هذه العلاقة بشكل مُعقد وليس ميكانيكياً، فالفن ومنه الأدب لا يعكس قناعة الكاتب بشكل آلي ولكن الكتابة الإبداعية تقول تلك القناعة بقناع جمالي مُعقد ومركّب إنْ على مستوى اللغة أو من خلال تحليل نفسيات الشخوص الروائية أو من خلال البناء السردي نفسه، الرواية تحتاج إلى قول الآيديولوجيا جمالياً وتلك هي مغامرة الكتابة والتحدي الذي عليها مجابهته.

* كيف تتأمل المسافة بين اللغتين العربية والفرنسية؟ ما الذي يجعلك تختار الفرنسية لكتابة رواية؟

- أكتب باللغتين العربية والفرنسية في انسجام منذ ثلاثين سنة. نشرت 15 رواية باللغة الفرنسية، بعضها يدرَّس في كثير من الجامعات الأوروبية المختلفة، ونشرت 15 رواية باللغة العربية. تربطني باللغة علاقة شخصية-ذاتية أكثر منها موضوعية، لكل كاتب لغته، وما أُصر عليه هو أنني لا أخون قارئي في اللغتين. ما يشغلني بالعربية هو ذاته ما يشغلني بالفرنسية، والإشكالات التي أكتبها لا تفرِّق بين هذه اللغة وتلك.

حين أبدأ كتابة العمل الروائي تسكنني حالة سيكولوجية لغوية غير مفسَّرة، فأجدني أكتب من اليسار إلى اليمين أو من اليمين إلى اليسار، ثم أغرق في شهوة الكتابة بهذه اللغة أو بتلك. ما يُفرق بين الكتابة باللغتين هو القارئ، فالقارئ بالفرنسية له تقاليد قبول كل الموضوعات والإشكاليات، لا تابوه في رأسه، وهذا ناتج عن علاقته بنصوص روائية فرنسية أو مترجمة إلى الفرنسية كُتبت في ظل حرية كبيرة وسقف قبول عالٍ، أما القارئ بالعربية، وإن كنا نلاحظ تغيرات كثيرة طرأت عليه أخيراً فإنه لم يتخلص من نصب المحاكَم للروائيين في كثير من المرات، هي في غالبيتها محاكم أخلاقية أو دينية لا علاقة لها بالأدب، وهذا العطب في الفهم وفي المفاهيم قادم من مناهج المدرسة والجامعة التي تحتاج إلى مراجعة جوهرية.