إطلالة على الزمن المفقود

إطلالة على الزمن المفقود
TT

إطلالة على الزمن المفقود

إطلالة على الزمن المفقود

حين أُنشِئَت قائمة الخمسين الأفضل في الأعمال الأدبية على مدار التاريخ الحديث والمعاصر، التي شملت أعمالاً للرواد والعمالقة من وليم شكسبير إلى ميغيل دي سيربانتيس إلى تشالز ديكنز... من أنطون تشيخوف إلى فيدور دوستويوفسكي إلى كافكا إلى نجيب محفوظ... جاءت رواية «في البحث عن الزمن المفقود» للكاتب الفرنسي مارسيل بروست - الرواية ذات الأجزاء السبعة، التي تأتي مئوية إتمامها هذا العام 2022 - على رأس القائمة.
المفارقة أننا ونحن نحتفي أدبياً بـ«الزمن المفقود»... أننا نحياه واقعاً بمفهوم أكثر ثقلاً مما أراده الفن والأدب...!
وقفت السيدة كريستين لاغارد، رئيسة صندوق النقد الدولي، قبل عدة سنوات لتستعرض إرهاصات أزمة اقتصادية لاح أفقها... استشرفت ملامح الريبة التي تكتنف حركة الاقتصاد حينها وما قد تفضي إليه من انهيار هيكلي ووظيفي في البنية الاقتصادية العالمية... حذرت بأن العالم بصدد أن يفقد من قدراته عشر سنوات... أرادت أن تضخم لاغارد من وقع الخطر، فحذرت مجازاً من أن العالم بصدد عشرية مترنحة... عشر عجاف... حذرت من أن العالم يخطو نحو «عِقد مفقود».
لا أظن أن السيدة لاغارد ومستمعيها من أساطين السياسة والاقتصاد كانوا يعرفون أنه - وبعد سنوات قليلة - سيكون الواقع أكثر مبالغة من المجاز... وستتجاوز الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية خيالاً لم يداعب أكثر المبدعين تطرفاً شططاً... وأننا سنكون - وبحق - نطل على «الزمن المفقود».
على أعتاب عقدنا الفريد (٢٠٢٠ - ٢٠٣٠) - مع الاعتذار لابن عبد ربه الأندلسي - وإن تبدت جائحة «الكورونا» هي العنوان الأكثر صخباً وإلحاحاً، فليست هي الحقيقة الأعمق أثراً... وإن بدت هي الدافع والمحرك لتغييرات جذرية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً... ستبقى ومن دون أن تزيد هامشاً على متن...!
نحن بصدد عقد وكأنه مدرج للتسليم والتسلم بين إنسانيتين... وكأن الإنسانية تخلع عن كاهلها معانيَ وأفهاماً ومصطلحات وأدوات - شكلت واقعها لثلاثمائة سنة - لتبدأ سطوراً أولى في فصل جديد به مفردات اقتصاد جديد وسياسة جديدة، وعي جديد ومجتمع جديد... بِسنة الحياة، جديد أفضل من سابقه ليس على إطلاقه ولكن بنسبية حياتنا.
عالم ستحدد قسماته ثنائية سيكون لها القول الفصل في ولاية عقل أو في تسيد جهل... في عموم عدل أو في تفشي ظلم... في رشادة تعاون أو في شطط صراع... في تأجيج مخاطر أو في ترسيخ سلم وأمن... في انطلاق اقتصاد أو تعثره... في نجاعة سياسة أو إخفاقها... في بقاء سلطة أو زوالها... تلك هي ثنائية «الوباء والذكاء»...!
الوباء... كيف وصلنا إلى هنا... وإلى أين من هنا؟
في عام ٢٠١٥، عشية انحسار وباء «الإيبولا» الفتاك، وقف بيل غيتس - الملياردير ومؤسس شركة «مايكروسوفت» - ليحاضر عن الخطر الداهم الذي سيواجه البشرية في العقود المقبلة.
في مقارنة بين خطر إفناء العالم جراء الحرب النووية، الذي نشأ عليه في صباه... إذ بغيتس يحذر من أن ما سيفني عشرات الملايين من البشر في العقود التي نحياها الآن هو الفيروسات أو الخطر البيولوجي.
تحدث الرجل من موقع خبرته كأحد أهم قادة العمل الخيري في دنيانا، وبعد أن لامس - عن قرب - هول الكارثة الإنسانية التي أحدثها «إيبولا» حين ضرب غرب أفريقيا عام 2014 قبل أن يندثر في 2016.
قال قاطعاً إن ما يلزم أن تتحسب له البشرية خشية فنائها ليس قنبلة نووية بقدر ما هو تفشي وباء قاتل.
ما تعلمه غيتس من تلك المأساة هو أن الوباء لن يصرع البشرية فقط لقوة فتكه، ولكن لحقيقة كون البشرية ليست مستعدة لمجابهته... فبقدر ما نتحسب للحروب وبقدر ما نبني أنظمتنا الدفاعية عسكرياً... تهاونا وتقاعسنا في بناء أنظمة دفاعاتنا الصحية... ولذلك نُصرع أمام انتشار أي وباء.
تأتي الأيام لتصدق كلام غيتس بعد أقل من خمس سنوات... ليواجه العالم أحد أعتى تحديات تاريخنا المعاصر، الذي جاء كاشفاً فاضحاً مدى قصور القدرات الإنسانية - برغم كل الفتح التكنولوجي - عن محاصرة كائن أوهن من أن يصمد أمام قليل من الماء... ولكن له قدرات مذهلة على الانتشار والتراكم والاختراق والفتك...!
ما بين محاضرة غيتس في 2015 ويومنا هذا، خفت صوت العلم أمام أنواء السياسة وصراعات الهيمنة في الدول الأكثر عقلاً وعلماً وانفتاحاً... ولم يؤبه بالعلم بالأساس في الدول الأكثر جهلاً واستبداداً وانغلاقاً...! بقيت البشرية منشغلة أكثر في أثرتها... ولتجد نفسها تائهة ضائعة أمام هجوم من فيروس أثره الاقتصادي والاجتماعي قد يفوق ما خلفته حروب عالمية من دمار.
ولنعرف كيف وصلنا إلى تلك المحنة المظلمة وإلى أين نحن ذاهبون... وبتفصيل وكأنه تحذير جديد أكثر وضوحاً من تحذير غيتس... منذ قرابة العام وقفت خبيرة الأوبئة آلانا شايك لتؤكد أن جائحة فيروس «الكورونا» التي تكاد تعصف بالبشرية الآن... لن تكون الأخيرة...!
قالت آلانا ما قالته ليس من باب التخمين، لكن من باب سرد حقيقة علمية مؤكَدة... إنها اختياراتنا وممارساتنا البشرية هي ما يقذف بنا إلى مسار الهاوية.
إصرار الإنسان على مزاحمة الحياة البرية وهتك عذريتها واقتحام فضاءاتها البيولوجية - كالإجهاز على غابات الأمازون، أو استباحة الكائنات البرية في النظام الغذائي في الصين، والأهم مخالطة البشر في كل هذه الممارسات لسلالات برية لم تُخاَلط من قبل، بكل ما تحمله تلك الكائنات من بكتيريا وفيروسات وميكروبات جديدة بالكلية على العلم الإنساني - هو ما يوردنا المهالك.
إذن... ها نحن هنا... دهمتنا الجائحة... وهكذا وصلنا...!
لم يتوقف غيتس ولا آلانا شايك عند مجرد التحذير الأجوف، ولكن قدم كل منهم رؤاه من واقع خبرة معايشة جوائح سابقة... ومن المستغرب - أو غير المستغرب علماً - أن ما نلدى به العالمان أتى وكأنه متطابق في شأن مواجهة جائحة الوباء في حالٍ وفي تالٍ.
أكدا أن المواجهة الحالية لحصر الوباء أو تقليل من أثر انتشاره هي من باب تقليص خسائر المنهزم وليس من باب الانتصار عليه... أما إذا أردنا النصر على تلك الكوارث البيولوجية - وبمثل أي حرب عرفتها البشرية - يكون الاستعداد للحرب هو جوهر النصر.
مهما بدا فرق القوة المادية لصالح أحد الخصمين... فالمسار الاستراتيجي قبل التكتيكي للحرب هو عنوان النصر أو الهزيمة... حتى وإن كان الخصم هملاً لا يرى بالعين.
أو كما تقول العرب «الرأي والتدبير نصف الظَفَرِ أو جُلُهُ»...!
تحدث العالمان عن مسار استراتيجي للمواجهة أكثر منه لإدارة الأزمة وتجاوزها وكفى... كان عنوان هذا المسار وجوهره هو «العدل»... نعم العدل...!
فحين يكون عصب المواجهة - في حال وفي تال - هو بناء قاعدة نظام صحي عالمي متزن مستطرق بين دول العالم متقدمها ومتخلفها... فقيرها قبل غنيها... ابتداءً بالدول الفقيرة المورد والفقيرة الفكر... فهذا هو «العدل الرعائي والصحي».
وحين يكون قلب المواجهة هو تقليل الفجوات بين النظم التعليمية في العالم لدرء الحد الأدنى من الجهل، ضماناً لجدوى التواصل والتعاون والشراكة بين مجتمعات العالم في مواجهة الأخطار المشتركة... فهذا هو «العدل التعليمي».
وحين تكون الدعوة هي لأولوية جهود البحث والتطوير في مجالي اللقاحات والكشف المبكر عن الفيروسات حتى وإن بقي لتطوير أسلحة الدمار مجالها وبحوثها... فذاك استعادة لحق سُلِبَه البشر حين وجهت جُل مواردهم لخدمة أحلام الهيمنة وجنون السطوة لنفر قليل.
إن الاستثمار في تلك المسارات الاستراتيجية سيجعل العالم بالضرورة أأمن... فقط لأنه بات أعدل.
إذن في تلك الزاوية من الزمن المفقود نحن نطل على عالم منتظر مشدوه... بين رجاء في زوال وترقب لحلول... يتطلع متوجساً لبزوغ الواقع الجديد... ويأمل بحذر لزوال محنة وباء.
أن يتعافى البشر من الداء - بحول الله وحده - لا جديد في ذلك، ولكن الجديد هو شكل الأوطان والعالم بعد الزوال، الذي نستطيع أن نجزم بأن ما بعده لن يكون كما قبله...!
سَمهِ «بعد الزوال» أو «شمس اليوم التالي» أو «عالم ما بعد الوباء»... أياً ما كان الإطار الزمني الذي تشي به تلك العناوين من مستقبل قريب أو بعيد أو أبعد... سيظل هو الأولى بوعينا وحركتنا.
وفي ذلك يأتي سرد واجب في مقالنا القادم عن ثانية الثنائية، وهي عالم الذكاء الاصطناعي... وإرهاصاته الحالة وأثره العميق الذي سيرمي بسهامه الأولى في قلب البشرية - التي عهدناها - في نهايات هذا العقد المفقود...
فَكرُوا تَصحُوا...
- كاتب ومفكر مصري



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.