الحقل الديني وديناميكيته من منظور علم الاجتماع المعاصر

تسود فيه العلاقات التفاعلية والمصالح والفرص المادية ويخضع لصراع أطراف متعددة

الحقل الديني وديناميكيته من منظور علم الاجتماع المعاصر
TT

الحقل الديني وديناميكيته من منظور علم الاجتماع المعاصر

الحقل الديني وديناميكيته من منظور علم الاجتماع المعاصر

تمثل «المسألة الدينية» في المجتمعات المعاصرة أحد أهم فواعل التحديث السياسي المرتبط بتطور المجتمع والدولة. إذ ارتبطت قضية الإصلاح تاريخيا بمكانة الدين ودور النخب الدينية وعلاقة الحقل الديني عامة بالحقل السياسي، وحدود كل منهما وسلطاته؛ ويتجدد بروز الاهتمام بالمسألة الدينية عموما وعلاقتها بواقع المجتمع والدولة بظروف داخلية تارة، وبظروف خارجية كما هو الشأن اليوم مع تنامي تأثير المنظمات الإرهابية على الساحة العربية، تارة أخرى. وسأحاول هنا فتح النقاش حول ماهية الحقل الديني وطبيعته بشكل يحاول تفسير تعقد الظاهرة الدينية في المجتمعات المعاصرة المفتوحة، من منظور سوسيولوجي.
يعود الفضل في صناعة مصطلح الحقل الديني، في المجال السوسيولوجي، إلى عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو. ويعرفه بورديو باعتباره «سوق تنافسية تسود فيها العلاقات التفاعلية والمصالح والفرص المادية والاجتماعية والرمزية، وتخضع لصراع أطراف متعددة عن مصالحها وشرعيتها». ويستند هذا التعريف إلى دراسة الباحث للديانتين المسيحية واليهودية، كما أن هذا التعريف يستدعي النظرة الاقتصادية والصراعية المادية لتحديد ماهية الحقل الديني. وهذا يعتبر عاملا كافيا للتساؤل حول محدودية هذا المصطلح لتفسير تفاعلات الإسلام الداخلية، أي علاقة الإسلام بالمتدينين المسلمين، وكذلك علاقته بالأديان السماوية الأخرى. فبورديو يتحدث عن فاعلين متعددين في الحقل الديني المسيحي واليهودي، وفي مقدمتهم النبي ورجال الدين الممثلون للبيروقراطية الدينية، و«اللائكون» والسحرة. وينتهي إلى القول بوجود صراع حول امتلاك واحتكار «الإنتاج الرمزي»، مما ينتج لا مركزية في هذا الأخير. كما أنه يرى أن فعالية الدين تستمد شرعيتها من البناء الاجتماعي، ومن وظيفة الدين عند جماعة أو طبقة معينة، داخل الجماعات والطبقات المشتغلة في المجال الديني. من جهة أخرى يعتبر بورديو أن دينامية الحقل الديني تنتج عن تلك الصفقات بين «المتخصصين» الدينيين و«اللائكين»، والعلاقات التلاحمية القائمة بين «المتخصصين الدينيين» داخل الحقل الديني.
وهذه السمات الخاصة تمنح للحقل الديني قدرة ذاتية للاستقلال عن السلطة السياسية، ومنازعتها سوسيولوجيا عن النفوذ المادي والمعنوي، وهو ما يحاول عالم الاجتماع الفرنسي تجاهله. غير أنه من المفيد الإشارة إلى أن ما يقدمه بورديو من تحديد للحقل الديني يحجم من رؤية علم الاجتماع للحقل الديني، خاصة إذا استحضرنا كون مسألة احتكار الإنتاج الرمزي تغيب في بعض المجتمعات الزراعية، وغير المركبة، بسبب ظهور المهن المتخصّصة في العمل الرمزي.
يلاحظ كذلك أن بورديو اقتصر على الأديان التاريخية الغربية المتمثلة في اليهودية والكاثوليكية، في دراسته للحقل الديني، ولم يستعمل المفاهيم الدينية المرتبطة بالدين والحقائق الدينية، مما أضعف من القدرة التفسيرية للسوسيولوجية الدينية عند الباحث. ويمكن القول إن هذا المنهج أوقعه في خطأ تعميم منطق التجزئة التي يقوم بها الدين للمجتمعات، وهو شيء لم يقع مع «الأنبياء في أوروبا والشرق الأوسط». بل على العكس من ذلك تماما صنع الإسلام من العرب أمة جامعة، ونقلها من الطور القبلي الاقتتالي، للطور المجتمعي التضامني، الدولتي.
ثم، إن تمكن الدين من الناحية الاجتماعية من فرض نفسه لا يعني تمتعه بالاستقلال التام عن السلطة السياسية الزمنية. فالاستقلال النسبي للمجال الديني يجد تفسيره في البنية الاجتماعية وطرق اشتغالها وتوظيفها للقيم الدينية ومرجعتها. والحقل الديني لا يختلف عن باقي الحقول، باعتباره يتأسس على قاعدة اجتماعية تمنحه قوة مهيكلة ومكانة وحيزا يخلق لكل لحقل «استقلاليته» وتميزه عن غيره، دون أن يعني ذلك غياب التمايز والتراتبية بين الحقول؛ خاصة مع نظام الدولة الحديثة، الذي يعتمد على الإكراه الناعم، ويسخر القانون لتنظيم السيطرة على المجتمع باسم الإرادة العامة.
وإذا رجعنا لأطروحة بورديو فإننا نستنتج أن «سير» المنافسة الداخلية القائمة داخل الحقل الديني وبين هيئاته؛ أي الكنيسة والأنبياء، راجع بالأساس إلى قوة البنية الاجتماعية الدينية. كما أن النظر للمؤسسات الدينية المحتكرة للحقل الديني، في المجتمعات المتباينة دينيا، يطرح قضية فقدان الكنيسة الكاثوليكية للقوة السياسية والاقتصادية، مما أثر على الممارسات الدينية نفسها ومكانتها داخل نسق الدولة والمجتمع. فهل هذا الضعف أدى إلى اختفاء الممارسة الدينية في المجتمعات الحديثة؟
إن النظرة السوسيولوجية الصحيحة تدعونا إلى القول بضرورة التركيز على الدين خارج المؤسسة المحتكرة له، وكذلك دراسة معتقدات «المرتبطين بالحداثة»، خاصة أنه يمكن ممارسة الدين واستيعاب حقائقه خارج أي مؤسسة بيروقراطية كالكنيسة. فإذا كانت السوسيولوجية التقليدية تزعم أن الدين تتحكم فيه الأطر البيروقراطية المنظمة له ولنشاطه المجتمعي؛ فإن هذا لم يعد يتماشى وتطور مفهوم الدين زمن الحداثة، ويساير تكاثر الممثلين الدينيين، والتعددية الدينية في عالم اكتسحته العلمنة، ويعرف اليوم صحوة دينية عالمية متنوعة.
هذا التحول الجوهري دفع بعالم اجتماع كبير مثل خوسيه كازانوفا للتأكيد على دور الأديان في المجتمعات المعاصرة، إذ يقول في كتابه القيم «الأديان العامة في العالم الحديث» (2005 ص319): «كان لا بد من إعادة التفكير بشكل منهجي في العلاقة بين الدين والحداثة، وفي الأدوار المحتملة التي يمكن للأديان أن تضطلع بها في النطاق العام للمجتمعات الحديثة».
لقد أصبحت للأديان في بعض المجتمعات المعاصرة مكانة الفاعل الأساسي، رغم موجة العولمة السائدة، والتأميم المصاحب لها، وارتفاع المشاركة العلمانية، في الدولة المعاصرة، وسحب الاعتراف الإرادي. كل هذا دفع بأستاذ علم الاجتماع بجامعة شيكاغو (خوسيه كازانوفا، ص 319)، لتأكيد أن هذا الوضع الجديد أدى إلى «تبدّل في التوجيه من الدولة إلى المجتمع، وسمح للكنيسة بالاضطلاع بدور أساسي في سيرورات التحول الديمقراطي. وكفّت الكنائس الوطنية عن النظر إلى ذواتها كعبادات جماعية تكاملية ضمن الدولة الوطنية وتبنّت هُويّة عالمية متعدية الجنسية، الأمر الذي سمح لها بأن تواجه كلا من الدولة الوطنية والنظام الاجتماعي المعطى تنبُّؤيًا».
وفي إطار هذه التحولات، ينبهنا أنتوني غيدينز، أحد أبرز علماء الاجتماع المعاصر، إلى أن «الأصولية ليست نزعة خاصة بالمجتمعات التقليدية، بل هي ظاهرة شائعة في المجتمعات والدولة الغربية المعاصرة بدرجات وتأثيرات متباينة». ولذلك أصبحت المنظمات الدينية الأصولية المسيحية واحدا من أكثر التيارات التي استأثرت باهتمام الباحثين في علم الاجتماع المعاصر؛ ولا يأتي ذلك فقط لكونها تنتظم ضمن «اليمين المسيحي الجديد»، ولكن لكونها كذلك غيرت من تموقعها وطريقة بناء النفوذ من الحقل الديني لتتموقع بشكل جد مؤثر في الحقل السياسي، ومراكز صناعة السياسات العمومية، مستفيدة من وسائل الاتصال المعاصرة، بحيث خلقت جسورا «تسويقية» للممارسة الدينية، وطقوسها، متجاوزة بذلك الانحسار والمشاركة الفعلية المكانية للتعبد عند المؤمنين.
غير أن مثل هذا التطور يخفي من الناحية السوسيولوجية ظاهرة دينية معقدة، يمكن أن نطلق عليها «الاغتراب في الدين». ذلك أن قيادة الحقل الديني في تعاطيها مع المنافسين - أي غير الدينين - تحاصر المتدين وتحدد سلوكياته وأنماط المعرفة الدينية، مما يحول النخبة الدينية إلى المفسر الوحيد للمبادئ الدينية، مع نزوع واضح لتفسير الواقع الاجتماعي لتجاوز تحدياته. ومن هنا يجب فهم صراعات الحقل الديني مع منافسيه، لا باعتبارها دينامية «سوقية فقط»، خاضعة للمعطى الاقتصادي، وإنما هي حركية وفعالة متوالية داخل سياقها الاجتماعي، يظهر فيها الدين والمتدين مدافعا عن موقعه داخل البنية العامة للنظام الاقتصادي، والسياسي، والتكيف مع تعقيدات وتداخلات هذه الأنظمة وما يسود فيها من تفاعلات بينة واتصالات عضوية، تنتج المساومات والمتوافقات بعيدا عن مثالية النص الديني المجرد.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.