الكاثوليك للمرة الأولى أكثر عدداً من البروتستانت في آيرلندا الشمالية

مطالبات باستفتاء على مصير «الحدود»

باقات زهور قرب صورة للملكة الراحلة إليزابيث الثانية في حي شانكيل بغرب بلفاست يوم 19 سبتمبر (أ.ب)
باقات زهور قرب صورة للملكة الراحلة إليزابيث الثانية في حي شانكيل بغرب بلفاست يوم 19 سبتمبر (أ.ب)
TT

الكاثوليك للمرة الأولى أكثر عدداً من البروتستانت في آيرلندا الشمالية

باقات زهور قرب صورة للملكة الراحلة إليزابيث الثانية في حي شانكيل بغرب بلفاست يوم 19 سبتمبر (أ.ب)
باقات زهور قرب صورة للملكة الراحلة إليزابيث الثانية في حي شانكيل بغرب بلفاست يوم 19 سبتمبر (أ.ب)

«يتوالدون كالأرانب ويتكاثرون كالحشرات الطفيلية» (They breed like rabbits and multiply like vermin).
هذه العبارة المسيئة ضد الكاثوليك في آيرلندا الشمالية هي واحد من أقوال كثيرة يُشتهر بها زعيم الوحدويين الآيرلنديين السابق، القس إيان بيسلي، خلال سنوات الصراع الدموي الذي شهده شمال آيرلندا بين الكاثوليك والبروتستانت في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي. بالطبع، ليّن بيسلي لاحقاً من موقفه المتشدد عقب اتفاق سلام «الجمعة العظيمة» عام 1998، وتولى منصب الوزير الأول في حكومة منتخبة في بلفاست تمثل الوحدويين البروتستانت المؤيدين للبقاء ضمن المملكة المتحدة تحت العرش البريطاني، والقوميين الكاثوليك الذين يريدون الانضمام إلى دولة موحدة مع جمهورية آيرلندا.
بعد 100 عام من إنشاء البريطانيين لإقليم آيرلندا الشمالية على أساس أنه سيضم غالبية بروتستانتية في ست دوائر بشمال شرقي البلاد يتم فصلها عن جمهورية آيرلندا الكاثوليكية المستقلة في الجنوب، يبدو أن كلام القس بيسلي عن الخوف من سرعة «تكاثر» الكاثوليك بات أمراً واقعاً. فقد كشفت أرقام التعداد السكاني للعام 2021 والذي يجري كل 10 سنوات، أن الكاثوليك باتوا اليوم أكثر عدداً من البروتستانت في آيرلندا الشمالية، للمرة الأولى في تاريخ هذا الإقليم البريطاني. وتأجل إعلان نتائج التعداد يومين بسبب انشغال بريطانيا بمراسم دفن الملكة الراحلة إليزابيث الثانية.
وستشكل نتائج التعداد هاجساً للعرش البريطاني، وللعاهل الجديد الملك تشارلز الثالث في مستهل حكمه، في ظل دعوات لتنظيم استفتاء شعبي على مصير «حدود» الإقليم، وهو أمر يمكن أن يؤدي إلى إزالة الحدود بين شطري الجزيرة الآيرلندية ما دام الكاثوليك اليوم باتوا الغالبية في الشطر الشمالي أيضاً، وليس فقط في الجنوب. كما أن الملك تشارلز يواجه دعوات متزايدة يطلقها القوميون في اسكوتلندا لتنظيم استفتاء جديد على الاستقلال.
وبحسب نتائج التعداد السكاني المعلنة الخميس، يمثل الكاثوليك الآن 45.7 في المائة من سكان آيرلندا الشمالية، بينما يمثل البروتستانت 43.5 في المائة من السكان. ويظهر التعداد أيضاً أن عدد غير المسيحيين بات يمثل 1.5 في المائة من السكان، بينما نسبة الذين يقولون إنهم بلا دين تبلغ 4.3 في المائة.
ووصف النائب جون فينوكين، عن حزب «شين فين» (الكاثوليكي المؤيد لوحدة آيرلندا)، الأرقام التي كشفها التعداد السكاني بأنها «إشارة واضحة لأن تغييراً تاريخياً يحصل في هذه الجزيرة»، مضيفاً أن هذا التغيير مسار «لا يمكن إعادته إلى الوراء». وطالب بإنشاء جمعية لمواطني آيرلندا الشمالية تتولى التخطيط لتنظيم اقتراع محتمل على مصير «الحدود». وحزب «شين فين» كان يعتبر الجناح السياسي لـ«الحزب الجمهوري الآيرلندي» الذي قاد حرب عصابات على مدى عقود ضد الحكم البريطاني للجزيرة. وعقب اتفاق سلام «الجمعة العظيمة» انخرط الحزب في المنافسات الانتخابية في آيرلندا الشمالية، وبات اليوم الحزب الأكبر في البرلمان المحلي في بلفاست.
في المقابل، سارع الوحدويون المؤيدون للبقاء في إطار المملكة المتحدة، وهم عادة البروتستانت المؤيدون للعرش البريطاني، إلى التحذير من استنتاج خلاصات «مبسطة وكسولة» اعتماداً على مجرد تعداد يظهر عدد أتباع الأديان في آيرلندا الشمالية، مشددين على أن الآراء السياسية لا يمكن حسمها بمجرد الاعتماد على عدد الذين يدينون بالولاء لهذه الطائفة أو تلك.
وأشارت صحيفة «آيريش تايمز» إلى أن التعداد السكاني أظهر تغييراً «دراماتيكياً»، مرتبطاً بمرحلة ما بعد «بريكست» (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، إذ بات عدد حملة جواز السفر الآيرلندي (جمهورية آيرلندا) يمثلون ثلث سكان آيرلندا الشمالية. وتسمح جمهورية آيرلندا لسكان الشطر الشمالي بالحصول على جنسيتها، علماً أنها ما زالت عضواً في الاتحاد الأوروبي. وإحدى الإشكاليات الحالية بين الحكومة البريطانية والاتحاد الأوروبي مرتبطة بمصير الحدود في آيرلندا الشمالية، إذ نص اتفاق «بريكست» على أن يبقى الشطر الشمالي من الجزيرة خاضعاً لقيود الاتحاد الأوروبي لضمان بقاء الحدود مفتوحة مع الشطر الجنوبي. وتريد بريطانيا الآن تعديل الاتفاق لتسهيل التجارة مع آيرلندا الشمالية ومنع قيام «حدود» في البحر بين بريطانيا وآيرلندا الشمالية. وفي الإطار ذاته، قال كولوم إيسوود، زعيم «الحزب الديمقراطي الاجتماعي والعمالي» الذي كان يمثل على مدى سنوات الكاثوليك «المعتدلين» في آيرلندا الشمالية (بعكس متشددي «الجيش الجمهوري الآيرلندي» الذين يحملون السلاح) إن التعداد السكاني «لحظة فاصلة في تاريخ آيرلندا الشمالية»، مضيفاً أن النتائج تظهر أن شمال آيرلندا «تغير تماماً بعد 100 سنة من التقسيم». ودعا إلى «لحظة تفكير جدية وحقيقية» في مستوى التغيير الذي أظهره التعداد السكاني. وتأسس هذا الحزب عام 1970 كحركة سياسية غير طائفية تهدف إلى «مصالحة» سكان جزيرة آيرلندا مع بعضهم البعض في إطار «آيرلندا جديدة موحدة، عادلة ومزدهرة»، أي أنه من الأحزاب المنادية بوحدة آيرلندا.
في المقابل، حذر عضو مجلس النواب فيليب بريت عن «الحزب الوحدوي الديمقراطي» الذي كان يقوده القس الراحل بيسلي، من الوصول إلى خلاصات مبنية على «تحليل كسول» لنتائج التعداد السكاني للقول إن هناك ضرورة الآن لتنظيم استفتاء على وحدة آيرلندا، مضيفاً أن الذين يطالبون الآن بالاستفتاء عليهم أن يراجعوا نتائج الانتخابات التي جرت في آيرلندا الشمالية على مدى العقدين الماضيين، في إشارة إلى أن الأحزاب البروتستانتية كانت دائماً قادرة على قيادة الحكومة بناء على توزيع الأحزاب في البرلمان المحلي المنتخب في بلفاست (باستثناء الانتخابات الأخيرة التي أعطت «شين فين» الفوز بمنصب الوزير الأول).
في كل حال، تعيد الدعوات إلى تنظيم استفتاء على مصير الحدود بين آيرلندا الشمالية والجنوبية إلى الأذهان من جديد تصريحات القس الراحل بيسلي عندما كان يحذر من «الامتداد الإرهابي» لـ«الجيش الجمهوري» داخل جنوب آيرلندا. ففي واحد من خطاباته الشهيرة في بلفاست في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1985، وقف بيسلي قائلاً: «من أين يعمل الإرهابيون؟ من جمهورية آيرلندا، هذا هو المكان الذين يأتون منه. وإلى أين يعود الإرهابيون للحصول على الملاذ الآمن؟ إلى جمهورية آيرلندا. ورغم ذلك تخبرنا السيدة ثاتشر (مارغريت ثاتشر رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك) أن جمهورية (آيرلندا) يجب أن يكون لها كلمة في إقليمنا!».
توفي بيسلي عام 2014. غيّر كثيراً من آرائه قبل رحيله عن هذه الدنيا، لكن كثيراً مما حذّر منه، أيام تشدده الديني ضد الكاثوليك، يبدو في طريقه لأن يصبح حقيقة واقعة.


مقالات ذات صلة

بايدن يزور «بلدة أجداده» في ختام جولته الآيرلندية

العالم بايدن يزور «بلدة أجداده» في ختام جولته الآيرلندية

بايدن يزور «بلدة أجداده» في ختام جولته الآيرلندية

بعد أيام من إعلانه عزمه الترشح لولاية ثانية، اختار الرئيس الأميركي جو بايدن تسليط الضوء على جذوره الآيرلندية في زيارة استمرت أربعة أيام إلى آيرلندا الشمالية وجمهورية آيرلندا. واختتم بايدن، أمس، رحلته التي وصفها الآيرلنديون بـ«التاريخية» بزيارة موقع كاثوليكي في نوك، قبل التوجه إلى البلدة التي يتحدر منها أجداده. وتحمل هاتان الزيارتان معاني عائلية ودينية كثيرة بالنسبة لبايدن.

الولايات المتحدة​ بايدن في بلفاست آملاً المساهمة في حفظ سلام المقاطعة البريطانية

بايدن في بلفاست آملاً المساهمة في حفظ سلام المقاطعة البريطانية

وصل الرئيس الاميركي جو بايدن إلى بلفاست، الثلاثاء، آملا المساهمة في حفظ السلام في الذكرى الخامسة والعشرين لاتفاق وضع حدا لثلاثة عقود من الصراع الدامي في آيرلندا الشمالية. وقبيل صعوده إلى الطائرة الرئاسية قال بايدن (80 عاما) إن الأولوية بالنسبة إليه «حفظ السلام» ووضع حد لمأزق سياسي ناجم عم معارضة أحزاب موالية للمملكة المتحدة القواعد التجارية لمرحلة ما بعد «بريكست». واستقبل رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك الرئيس الأميركي على مدرج المطار في عاصمآإيرلندا الشمالية بلفاست. ويتم احياء الذكرى في أجواء عودة التوتر السياسي ومخاوف أمنية.

«الشرق الأوسط» (بلفاست)
العالم بريطانيا ترفع مستوى التهديد الإرهابي في آيرلندا الشمالية إلى «شديد»

بريطانيا ترفع مستوى التهديد الإرهابي في آيرلندا الشمالية إلى «شديد»

رفع جهاز الاستخبارات الداخلية البريطاني (MI5) مستوى التهديد بآيرلندا الشمالية، من «كبير» إلى «شديد»، ما يعني احتمالية وقوع هجوم. يأتي ذلك قبيل زيارة متوقعة للرئيس الأميركي جو بايدن إلى آيرلندا الشمالية للاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين لاتفاق السلام. وقال كريستوفر هيتون - هاريس وزير شؤون آيرلندا الشمالية، في بيان، وفقاً لما نشرته وكالة «رويترز»: «في الأشهر الأخيرة، شاهدنا ارتفاعاً في الأنشطة المتعلقة بالإرهاب في آيرلندا الشمالية».

«الشرق الأوسط» (لندن)
ريتشارد ويليامز يقف خارج استوديوهات تيتانيك (أ.ف.ب)

بلفاست تفضل إنتاج الأفلام على بناء السفن

باتت أحواض بناء السفن التي اشتهرت بها بلفاست في الماضي تضع مساحاتها الواسعة في تصرف مخرجي الأفلام الواسعة الشعبية. وتضم هذه الأحواض استوديوهات: «تيتانيك» التي تُعَّد من بين الأكبر في أوروبا، واستوديوهات «هاربور»، حسب وكالة الصحافة الفرنسية. وكانت قد ساهمت سلسلة من المشاريع الكبرى في الآونة الأخيرة في تمكين المقاطعة البريطانية من ترسيخ سمعتها العالمية في مجالي السينما والتلفزيون.

«الشرق الأوسط» (بلفاست)
يوميات الشرق شعار تطبيق «واتساب» (أ.ب)

أيرلندا تغرِّم «واتساب» 6 ملايين دولار لانتهاكه قوانين الخصوصية

فرضت المفوضية الآيرلندية لحماية البيانات، اليوم الخميس، غرامة 5.5 مليون يورو (5.95 مليون دولار) على تطبيق «واتساب» التابع لشركة «ميتا بلاتفورمز»، بسبب انتهاك آخر لقوانين الخصوصية في الاتحاد الأوروبي. وقالت المفوضية، وهي هيئة رائدة معنية بالخصوصية في الاتحاد الأوروبي، إنه ينبغي على واتساب إعادة تقييم كيفية استخدامه للبيانات الشخصية لتحسين الخدمة. ويأتي القرار في أعقاب أمر مماثل أصدرته المفوضية هذا الشهر لمنصتي «فيسبوك» و«إنستغرام» التابعتين لـ«ميتا» أيضاً نص على أن الشركة الأم يجب أن تعيد تقييم الأساس القانوني الذي تستند إليه في استهداف الإعلانات من خلال استخدام البيانات الشخصية. وغرمت المفوضية

«الشرق الأوسط» (دبلن)

لماذا يثير الحلف النووي الروسي - الصيني المحتمل مخاوف أميركا وحلفائها؟

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
TT

لماذا يثير الحلف النووي الروسي - الصيني المحتمل مخاوف أميركا وحلفائها؟

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)

يمثل الصعود العسكري للصين، وبخاصة برنامج تحديث ترسانتها النووية، هاجساً قوياً لدى دوائر صناعة القرار والتحليل السياسي والاستراتيجي في الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل التقارب المزداد بين بكين، وموسكو التي تلوح بمواجهة عسكرية مباشرة مع الغرب على خلفية الحرب التي تخوضها حالياً في أوكرانيا.

وفي تحليل نشرته مجلة «ناشونال إنتريست» الأميركية، يتناول ستيفن سيمبالا أستاذ العلوم السياسية في جامعة براندواين العامة بولاية بنسلفانيا الأميركية، ولورانس كورب ضابط البحرية السابق والباحث في شؤون الأمن القومي في كثير من مراكز الأبحاث والجامعات الأميركية، مخاطر التحالف المحتمل للصين وروسيا على الولايات المتحدة وحلفائها.

ويرى الخبراء أن تنفيذ الصين لبرنامجها الطموح لتحديث الأسلحة النووية من شأنه أن يؤدي إلى ظهور عالم يضم 3 قوى نووية عظمى بحلول منتصف ثلاثينات القرن الحالي؛ وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين. في الوقت نفسه، تعزز القوة النووية الصينية المحتملة حجج المعسكر الداعي إلى تحديث الترسانة النووية الأميركية بأكملها.

وأشار أحدث تقرير للجنة الكونغرس المعنية بتقييم الوضع الاستراتيجي للولايات المتحدة والصادر في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إلى ضرورة تغيير استراتيجية الردع الأميركية للتعامل مع بيئة التهديدات النووية خلال الفترة من 2027 إلى 2035. وبحسب اللجنة، فإن النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة والقيم التي يستند إليها يواجه خطر نظام الحكم المستبد في الصين وروسيا. كما أن خطر نشوب صراع عسكري بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا يزداد، وينطوي على احتمال نشوب حرب نووية.

ولمواجهة هذه التحديات الأمنية، أوصت اللجنة الأميركية ببرنامج طموح لتحديث الترسانة النووية والتقليدية الأميركية، مع قدرات فضائية أكثر مرونة للقيام بعمليات عسكرية دفاعية وهجومية، وتوسيع قاعدة الصناعات العسكرية الأميركية وتحسين البنية التحتية النووية. علاوة على ذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى تأمين تفوقها التكنولوجي، وبخاصة في التقنيات العسكرية والأمنية الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية وتحليل البيانات الكبيرة، وفقاً لما ذكرته وكالة الأنباء الألمانية.

ولم يقترح تقرير اللجنة أرقاماً دقيقة للأسلحة التي تحتاجها الولايات المتحدة ولا أنواعها، لمواجهة صعود الصين قوة نووية منافسة وتحديث الترسانة النووية الروسية. ورغم ذلك، فإن التكلفة المرتبطة بتحديث القوة النووية الأميركية وبنيتها التحتية، بما في ذلك القيادة النووية وأنظمة الاتصالات والسيطرة والدعم السيبراني والفضائي وأنظمة إطلاق الأسلحة النووية وتحسين الدفاع الجوي والصاروخي للولايات المتحدة، يمكن أن تسبب مشكلات كبيرة في الميزانية العامة للولايات المتحدة.

في الوقت نفسه، فالأمر الأكثر أهمية هو قضية الاستراتيجية الأميركية والفهم الأميركي للاستراتيجية العسكرية الصينية والروسية والعكس أيضاً، بما في ذلك الردع النووي أو احتمالات استخدامه الذي يظهر في الخلفية بصورة مثيرة للقلق.

في الوقت نفسه، يرى كل من سيمبالا صاحب كثير من الكتب والمقالات حول قضايا الأمن الدولي، وكورب الذي عمل مساعداً لوزير الدفاع في عهد الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، أنه من المهم تحديد مدى تنسيق التخطيط العسكري الاستراتيجي الروسي والصيني فيما يتعلق بالردع النووي والبدء باستخدام الأسلحة النووية أو القيام بالضربة الأولى. وقد أظهر الرئيسان الصيني شي جينبينغ والروسي فلاديمير بوتين، تقارباً واضحاً خلال السنوات الأخيرة، في حين تجري الدولتان تدريبات عسكرية مشتركة بصورة منتظمة. ومع ذلك فهذا لا يعني بالضرورة أن هناك شفافية كاملة بين موسكو وبكين بشأن قواتهما النووية أو خططهما الحربية. فالقيادة الروسية والصينية تتفقان على رفض ما تعدّانه هيمنة أميركية، لكن تأثير هذا الرفض المشترك على مستقبل التخطيط العسكري لهما ما زال غامضاً.

ويمكن أن يوفر الحد من التسلح منتدى لزيادة التشاور بين الصين وروسيا، بالإضافة إلى توقعاتهما بشأن الولايات المتحدة. على سبيل المثال، حتى لو زادت الصين ترسانتها النووية الاستراتيجية إلى 1500 رأس حربي موجودة على 700 أو أقل من منصات الإطلاق العابرة للقارات، سيظل الجيش الصيني ضمن حدود معاهدة «ستارت» الدولية للتسلح النووي التي تلتزم بها الولايات المتحدة وروسيا حالياً. في الوقت نفسه، يتشكك البعض في مدى استعداد الصين للمشاركة في محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، حيث كانت هذه المحادثات تجري في الماضي بين الولايات المتحدة وروسيا فقط. ولكي تنضم الصين إلى هذه المحادثات عليها القبول بدرجة معينة من الشفافية التي لم تسمح بها من قبل بشأن ترسانتها النووية.

وحاول الخبيران الاستراتيجيان سيمبالا وكورب في تحليلهما وضع معايير تشكيل نظام عالمي ذي 3 قوى عظمى نووية، من خلال وضع تصور مستقبلي لنشر القوات النووية الاستراتيجية الأميركية والروسية والصينية، مع نشر كل منها أسلحتها النووية عبر مجموعة متنوعة من منصات الإطلاق البرية والبحرية والجوية. ويظهر التباين الحتمي بين الدول الثلاث بسبب الاختلاف الشديد بين الإعدادات الجيوستراتيجية والأجندات السياسة للقوى الثلاث. كما أن خطط تحديث القوة النووية للدول الثلاث ما زالت رهن الإعداد. لكن من المؤكد أن الولايات المتحدة وروسيا ستواصلان خططهما لتحديث صواريخهما الباليستية العابرة للقارات والصواريخ الباليستية التي تطلق من الغواصات والقاذفات الثقيلة بأجيال أحدث من منصات الإطلاق في كل فئة، في حين يظل الغموض يحيط بخطط الصين للتحديث.

ورغم أن الولايات المتحدة تمتلك ترسانة نووية تتفوق بشدة على ترسانتي روسيا والصين، فإن هذا التفوق يتآكل بشدة عند جمع الترسانتين الروسية والصينية معاً. فالولايات المتحدة تمتلك حالياً 3708 رؤوس نووية استراتيجية، في حين تمتلك روسيا 2822 رأساً، والصين 440 رأساً. علاوة على ذلك، فالدول الثلاث تقوم بتحديث ترساناتها النووية، في حين يمكن أن يصل حجم ترسانة الأسلحة النووية الاستراتيجية الصينية إلى 1000 سلاح بحلول 2030.

ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً هو: إلى أي مدى ستفقد الولايات المتحدة تفوقها إذا واجهت هجوماً مشتركاً محتملاً من جانب روسيا والصين مقارنة بتفوقها في حال التعامل مع كل دولة منهما على حدة؟ ولا توجد إجابة فورية واضحة عن هذا السؤال، ولكنه يثير قضايا سياسية واستراتيجية مهمة.

على سبيل المثال، ما الذي يدفع الصين للانضمام إلى الضربة النووية الروسية الأولى ضد الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)؟ ولا بد أن نتخيل سيناريو متطرفاً، حيث تتحول الأزمات المتزامنة في أوروبا وآسيا إلى أزمات حادة، فتتحول الحرب الروسية - الأوكرانية إلى مواجهة بين روسيا وحلف «الناتو»، في الوقت الذي تتحرك فيه الصين للاستيلاء على تايوان، مع تصدي الولايات المتحدة لمثل هذه المحاولة.

وحتى في هذه الحالة المتطرفة، لا شك أن الصين تفضل تسوية الأمور مع تايوان بشروطها الخاصة وباستخدام القوات التقليدية. كما أنها لن تستفيد من الاشتراك في حرب بوتين النووية مع «الناتو». بل على العكس من ذلك، أشارت الصين حتى الآن بوضوح تام إلى روسيا بأن القيادة الصينية تعارض أي استخدام نووي أولاً في أوكرانيا أو ضد حلف شمال الأطلسي. والواقع أن العلاقات الاقتصادية الصينية مع الولايات المتحدة وأوروبا واسعة النطاق.

وليس لدى الصين أي خطة لتحويل الاقتصادات الغربية إلى أنقاض. فضلاً عن ذلك، فإن الرد النووي للولايات المتحدة و«الناتو» على الضربة الروسية الأولى يمكن أن يشكل مخاطر فورية على سلامة وأمن الصين.

وإذا كان مخططو الاستراتيجية الأميركية يستبعدون اشتراك روسيا والصين في توجيه ضربة نووية أولى إلى الولايات المتحدة، فإن حجم القوة المشتركة للدولتين قد يوفر قدراً من القوة التفاوضية في مواجهة حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة.

وربما تدعم الصين وروسيا صورة كل منهما للأخرى بوصفها دولة نووية آمنة في مواجهة الضغوط الأميركية أو حلفائها لصالح تايوان أو أوكرانيا. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فمن المرجح أن توفر «الفجوة» بين أعداد الأسلحة النووية غير الاستراتيجية أو التكتيكية التي تحتفظ بها روسيا والصين والموجودة في المسرح المباشر للعمليات العسكرية، مقارنة بتلك المتاحة للولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي، عنصر ردع ضد أي تصعيد تقليدي من جانب الولايات المتحدة ضد أي من الدولتين.

أخيراً، يضيف ظهور الصين قوة نووية عظمى تعقيداً إلى التحدي المتمثل في إدارة الاستقرار الاستراتيجي النووي. ومع ذلك، فإن هذا لا يمنع تطوير سياسات واستراتيجيات إبداعية لتحقيق استقرار الردع، والحد من الأسلحة النووية، ودعم نظام منع الانتشار، وتجنب الحرب النووية. ولا يمكن فهم الردع النووي للصين بمعزل عن تحديث قوتها التقليدية ورغبتها في التصدي للنظام الدولي القائم على القواعد التي تفضلها الولايات المتحدة وحلفاؤها في آسيا. في الوقت نفسه، فإن التحالف العسكري والأمني بين الصين وروسيا مؤقت، وليس وجودياً. فالتوافق بين الأهداف العالمية لكل من الصين وروسيا ليس كاملاً، لكن هذا التحالف يظل تهديداً خطيراً للهيمنة الأميركية والغربية على النظام العالمي.