يلفت نظر الباحث في تاريخ الملك عبد العزيز مدى اهتمامه بالجوانب النظامية والدستورية، بدءاً من استعانته بمجموعة من المستشارين القانونيين، سواء من أبناء البلاد كمحمد المغيربي الذي درس القانون ويحمل ماجستير الحقوق من جامعة لوزان، وعبد الوهاب نائب الحرم الذي درس القانون في تركيا، أو ممن التحقوا بخدمته من أبناء الأقطار العربية التي كانت تحت الاحتلال الأجنبي، كيوسف ياسين الذي درس الحقوق في دمشق، وفؤاد حمزة الذي درس القانون في بيروت، والحقوقي العراقي موفق الألوسي المستشار القانوني في الخارجية السعودية الذي عُيّن مستشاراً لجلالة الملك، إضافة إلى من يمكن أن يطلق عليهم «الفقهاء الدستوريين»، كالشريف شرف باشا عدنان مستشار نائب الملك في الحجاز ورئيس مجلس الشورى وعضو الهيئة التأسيسية أو ما يمكن تسميتها بـ«لجنة صياغة الدستور»، وعبد الله بن محمد الفضل النائب الأول لرئيس مجلس الشورى ونائب رئيس مجلس الوكلاء ومعاون نائب الملك في الحجاز، وغيرهم من المتخصصين في العلوم الشرعية، والإدارة، والقانون، والتجارة، والأنظمة والدساتير، والمالية، والاقتصاد، والتعليم، والأمن، والسياسة والعلاقات الدولية، والصحافة والإعلام وغيرها من العلوم.
أسهم هؤلاء من خلال عضويتهم في مجلس الشورى أو اللجان المتخصصة في إعداد وصياغة عشرات الأنظمة والقوانين التي صدرت بين عامي 1925 و1932 وشملت معظم الجوانب في حياة السعوديين، وشكّلت ثورة قانونية وطفرة تنظيمية وثروة تاريخية في تأسيس وبناء الأنظمة السعودية، خلافاً لما يظنه كثيرون ويسير عليه الأكثر من دارسي ومدرّسي القانون وتاريخه، بأن التأسيس القانوني والنظامي السعودي، سواء في شِقه الدستوري أو التنظيمي لم يبدأ إلا مع صدور الأنظمة الأساسية عام 1992!
وهنا يبرز تساؤل عن ماهية تلك الأنظمة وكيفية صياغتها؟ وقبل الإجابة، لا بد من الإشارة إلى أن ما صدر من أنظمة وقوانين خلال تلك الأعوام كان بتأنٍ ووعي ويراعي مقتضى الحال والحاجة، كما أن التدرج في سَنّ الأنظمة تزامن مع تطور في الهياكل المؤسسية والإدارية للدولة الوليدة؛ مما مكّن من الاستقرار السياسي وأسهم في تثبيت السلطات الدستورية وترسيخ الوحدة السياسية للأقاليم التي انضمت تحت حكم الملك عبد العزيز، وأذابت الفوارق الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتباين في الخلفيات وأنماط الحياة وصهرها في نسيج سعودي واحد. ولفهم الفكر التنظيمي السعودي وقتذاك، أورد الدكتور إبراهيم العتيبي في كتابه «تنظيمات الدولة في عهد الملك عبد العزيز» مذكرة مشروع نظام لتنظيم معاني «الإرادات الملكية والأوامر العالية والمراسيم والأنظمة والقرارات الوزارية والتعليمات والمنشورات»، أعدّ في وزارة الخارجية، وهذا المشروع يماثل «الأدوات النظامية في القانون الدستوري»، وهذا نصه:
«نظراً للضرورة الملحة في تنظيم معاني الإرادات الملكية والأوامر العالية والمراسيم والأنظمة والقرارات الوزارية والتعليمات والمنشورات التي تصدر في الدولة، فإن هذه الوزارة تتشرف بأن تقدم التعاريف الآتية لتحديد معاني الإرادات الملكية وصيغها وأشكالها النظامية. إن كل الأوامر التي تصدر من لدن جلالة الملك المعظم باعتباره رئيس الدولة الأعلى، تكيف بما تحمله تلك الأوامر بين طياتها من حقوق وواجبات الأمة وتوصف بأنها: إرادة ملكية، إرادة سنية، أوامر عالية (أمر عالٍ)، مراسيم ملكية (مرسوم ملكي).
أما الأوامر التي تصدر من أجزاء الدولة بصفتها هذه، بعد المصادقة الملكية عليها، فإنها تقسم إلى الأقسام الآتية: تعليمات، لوائح، قرارات وزارية، أوامر إدارية، منشورات.
الإرادة الملكية: عبارة الإرادة الملكية تصدر مباشرة من قِبل جلالة الملك في أي شأن من الشؤون العامة أو الخاصة التي تتعلق بتنظيم الإدارة الحكومية للدولة. فهي إما أنها تنشئ حقاً أو تقرر واجباً نظامياً، أو تلزم الأفراد بتكاليف إدارية، أو مالية، أو سياسية. كالأمر الصادر بانتخاب أعضاء المجالس البلدية، أو تعيين أعضاء مجلس الشورى، أو التصديق على معاهدة عقدت بين الدولة السعودية وخلافها من الدول.
الإرادة السنية: هي الإرادة التي تصدر على رقيم موقّع عليه من لدن جلالة الملك أو نائبه رأساً ومن دون أن تمر بأي هيئة عليا في الدولة، بل يجري تنفيذها مباشرة حسب الأمر، وتختص بتبليغ أقسام الدولة المختصة بالسير بموجبها من دون لزوم لنشرها. كأن تصدر الإرادة السنية بتعيين شخص من الناس، أو إقالة شخص موظف أو السير على ميزانية سنة كذا.
الأمر العالي: هي الإرادة التي تصدر من لدن جلالة الملك أو نائبه بإنشاء أو وضع نظام أو تنفيذه. أو أمر بوضع نظام في شأن من الشؤون الإدارية أو بإنشاء حق أو إزالة حق أو تقرير واجب من الواجبات على الجهات المختصة في الدولة. كأمر عالٍ يصدر على أمانة العاصمة برش الشوارع وإنارتها وأمر عالٍ بإنشاء سلخانة أو أوامر عالية بإلزام المطوفين بالقيام بواجب وضع المناشف في الدور التي يسكنها الحجاج ويصير التبليغ عن طريق مديرية الصحة العامة في الدولة.
المرسوم الملكي: هي الإرادة الملكية التي تصدر بالموافقة على تنفيذ نظام وضع بمعرفة الجهة المختصة وحاز التصديق الملكي عليه بإصداره وتنفيذه ونشره بالجريدة الرسمية. فهذه الموافقة الملكية تسمى مرسوماً ملكياً، أو مرسوماً بتعيين وزير أو أمير أو مدير أو إعطاء جنسية لأجنبي أو سلخ الجنسية من أجنبي، إلخ.
أوامر رئيس مجلس الوكلاء: توصف أوامر رئيس مجلس الوكلاء بأنها أوامر عالية. وهي تكون مقصورة على أنها تنص على إجراءات تفصيلية يقصد بها تنفيذ النظام السنوي في الدولة والمصدق عليه من قِبل جلالة الملك، وطبيعة هذه الأوامر أنها تقرر إجراءات يقصد بها تدارك النقص الذي يطرأ على النظام حين تنفيذه. فيكمل بالأوامر التي يصدرها رئيس مجلس الوكلاء. وقد يصدر من مجلس الوكلاء مجتمعاً أمر بعد موافقة جلالة الملك في أي شأن من الشؤون العامة أو الخاصة. إذا جاز هذا القرار الموافقة الملكية يشار إليه بأنه أمر عالٍ صدر به قرار مجلس الوكلاء.
القرارات الوزارية: تكيف الأوامر الصادرة من الوزراء بأنها قرارات وزارية لأنها تصدر في الشؤون الخاصة التي تتعلق بوزاراتها، كنقل موظف من جهة إلى أخرى أو تعيين موظف في الإدارة بمرتب بسيط. أو إحالة موظف إلى مجلس تأديب. وتكون الإشارة إليها في الكتاب بهذه الصفة (أي قرارات وزارية).
الأوامر الإدارية: هي التي تصدر من الوزراء للأقسام التابعة لهم للسير بموجبها في إدارة شؤون الوزارة. فإن هذه الأوامر الإدارية لا تقيد الوزارات الأخرى لعدم تبعيتها لها، كالحضور في الوزارة في الوقت المعين.
المنشورات: هي الأوامر التي يصدرها الوزراء والأمراء والمديرون للجمهور للسير بموجبها بعد أخذ موافقة السلطات العليا في الدولة عليها.
النظام: هو التشريع الذي تقوم بوضعه هيئة مجلس الشورى بناءً على أمر عالٍ في مسألة ذات صفة عامة أو خاصة، ليكون هذا التشريع نظاماً عاماً تسير عليه الحكومة. والنظام في حد ذاته عبارة عن الأحكام والقواعد الأساسية التي توضع لترتيب وتنظيم أعمال الحكومة العادية وتحوز الموافقة، وتصدر الإرادة الملكية بتنفيذه، كنظام للدولة. فالأمر الصادر بالموافقة عليه يسمى إرادة ملكية ويشار إليها بهذه الصفة عند الاستناد عليها.
التعليمات: هي الأوامر التي تصدر من قبل السلطة التنفيذية من دون أخذ رأي جهة مقننة وتسري على الناس بقيود مخصوصة. وتقوم هذه التعليمات مقام النظم العادية. كالأوامر الصادرة من الشرطة أو البلدية للجمهور. فمن البلدية كالتعليمات التي تصدر للجمهور بعمل دواليب زجاج لحفظ اللحم وعدم إلقاء الزبالة في الشوارع وتحديد الأسعار. ومن مديرية الأمن العام كتعليمات تنظيم سير حركة المرور في مواسم الحج. وعدم إقلاق راحة الناس ليلاً والدعوة للقيام بأداء الفريضة في وقت وجوبها.
اللوائح: هي النظم التي توضع بمعرفة الجهات المختصة داخلياً لسير الجمهور بموجبها عند اتصالهم بالدوائر الرسمية كلائحة المرافعات – ولائحة الرسوم القضائية - فاللوائح عادة يقصد منها تنفيذ إجراءات نظام مسنون من قِبل الدولة ومصدّق عليه من لدن جلالة الملك المعظم».
أما فيما يتعلق بنصوص الأنظمة، فمن المهم الإشارة أولاً إلى أن بعض تلك الأنظمة صدرت بأكثر من صيغة نظراً إلى تعديلها مرات عدة، وأحياناً يعدل اسم النظام نفسه. وتفاوتت تلك الأنظمة من حيث شموليتها وعدد موادها، فبينما صدرت بعضها من بضع مواد مثل نظام تعليم المطوفين الصادر عام 1929 من 4 مواد فقط، نجد أن نظام المدارس الصادر في العام نفسه تكوّن من 88 مادة. وكنماذج للأنظمة الصادرة حينئذ، فقد نشرت جريدة «أم القرى» في عددها رقم 216 الصادر بتاريخ 15 فبراير (شباط) 1929 «نظام سير الدراجات» بالنص الآتي: «صدر الأمر السامي بالموافقة على نظام سير الدرجات التالي:
المادة الأولى: على كل صاحب دراجة أن يقدم إلى أمانة العاصمة والبلديات في الملحقات طلباً بالتصريح له بتسييرها سواء كانت واحدة أو أكثر، خاصة به أو معدّة للتأجير.
المادة الثانية: يعطى التصريح لصاحب الطلب من قِبل أمانة العاصمة بمكة، والبلديات في الملحقات ويجب تجديده في كل عام.
المادة الثالثة: يكون إعطاء التصريح مقابل عشرة قروش أميرية تدفع للبلدية لكل دراجة، على أن هذا الرسم لا يُدفع إلا مرة واحدة في السنة وإن تبدل مالكوها.
المادة الرابعة: إذا لم يأخذ صاحب الدراجة تصريحاً أو كان تصريحه ناقصاً أو غير صحيح، فإن الرسم يؤخذ منه مضاعفاً.
المادة الخامسة: يجب أن يكون على كل دراجة صفيحة يكتب عليها رقم التسجيل المعطى لها من قِبل البلدية، ويجب أن يكون مع هذا الرقم الحرف الدال على البلدية، وهذه الصفائح تعطى لأصحاب الدراجات من قِبل البلدية، ويجب أن يكون مع هذا الرقم الحرف الدال على البلدة. وهذه الصفائح تعطى لأصحاب الدرجات من قِبل البلديات عند تقديم الطلب الأول وتأخذ البلدية مقابل ذلك.
المادة السادسة: يجب أن يوضع في كل دراجة منبه يسمع صوته من بعد خمسين متراً على الأقل وأن يستعمل هذا المنبه أثناء السير مراراً حسب مقتضى الحال.
المادة السابعة: يجب أن يوضع مصباح منار في كل من العجلة الأمامية والخلفية للدراجة أثناء سيرها ليلاً.
المادة الثامنة: يجب على كل دراجة أن تسير دائماً من الجهة اليمنى، وأن تجعل سيرها كسير رجل يمشي وسطاً حينما تصل إلى الأماكن المزدحمة وفي ملتقى الطرق والمنعطفات وبالإجمال كل مكان ضيق.
المادة التاسعة: يعاقَب من يخالف أحكام هذا النظام بدفع جزاء نقدي من خمسة قروش إلى عشرين قرشاً أميرياً، والجزاء النقدي الذي يترتب على القاصرين من ركاب الدراجات يدفعه أولياؤهم أو أوصياؤهم.
المادة العاشرة: إذا حصل ضرر من راكب دراجة فيحال إلى المحكمة المستعجلة لإجراء الموجب الشرعي.
المادة الحادية عشرة: على مدير الشرطة والبلدية تطبيق أحكام هذا النظام، كل فيما يختص به.
وصدر الأمر السامي بالموافقة على قرار مجلس الشورى القاضي بأنه لا بأس من الاكتفاء بالنور الأمامي في الدراجات التي تسير من دون بنزين، أما التي تسير بالبنزين فلا بد من وجود الخلفي فيها مع الأمامي».
كما نشرت «أم القرى» في عددها رقم (346) الصادر بتاريخ 13 يونيو (حزيران) 1931 «نظام سير المحاكمات الشرعية» والمكون من 36 مادة، ولفت نظري أن ذلك النظام الذي صدر قبل أكثر من 90 عاماً، قد نص على وجوب حصول المحامي على شهادة تؤهله لممارسة مهنة المحاماة والترافع أمام القضاء، حيث إن المادة 24 من ذلك النظام تنص على أنه «لا تقبل وكالة في الخصومة إلا لمن يحمل شهادة تثبت أهليته لتعاطي مهنة المحاماة، هذا إذا كان الوكيل من غير الأقارب. أما وكالة القريب مطلقاً فلا يشترط فيه حمل الشهادة المذكورة»، وهو ما نص عليه نظام المحاماة الصادر عام 2001. ويلاحظ الفاحص لتلك الأنظمة أنها عالجت تفاصيل دقيقة وارتبطت بمصالح الدولة والمجتمع، وصيغت بطريقة مفهومة للعموم، وشمل التقنين مجالات عدة وكان سمة بارزة لتلك المرحلة. وكمثال نص نظام تصديق الإعلامات والصكوك «التبليغات والأحكام القضائية» الصادر عام 1927 والمكون من 13 مادة على:
«المادة الأولى: يسمى الإعلام أجنبياً متى كان صادراً من محكمة كائنة في بلاد أجنبية.
المادة الثانية: لا يمكن لدوائر الحكومة في المملكة الحجازية والنجدية وملحقاتها ولا المحاكم أن تقبل إعلاماً أجنبياً لم يجر عليه التصديق طبقاً لهذه التعليمات.
المادة الثالثة: كل الإعلامات الأجنبية والصكوك التي يراد استعمالها في المملكة الحجازية والنجدية وملحقاتها يجب أن تكون مصدّقة من قِبل مديرية الشؤون الخارجية.
المادة الرابعة: تصدق مديرية الشؤون الخارجية على الإعلامات والصكوك الأجنبية متى كانت حائزة أحد الشرطين: إذا كانت مصدقة من قِبل قنصل الدولة التي صدر الإعلام أو الصك من محاكمها إذا كان لتلك الدولة قنصل في بلاد صاحب الجلالة الملك، أو إذا كانت مصدّقة من قِبل معتمد المملكة الحجازية والنجدية وملحقاتها في البلاد التي فيها معتمدون لها.
المادة الخامسة: لا يصدق معتمدو المملكة الحجازية والنجدية وملحقاتها على الإعلامات والصكوك الصادرة من محاكم البلاد التي هم معتمدون فيها إلا متى كانت مصدّقة من وزارة خارجية تلك البلاد أو من أكبر سلطة حكومية مشرفة على الشؤون الخارجية في تلك البلاد.
المادة السادسة: إن تصديق معتمدي المملكة الحجازية والنجدية وملحقاتها تكون على صحة الأمهار والتواقيع للسلطة الحكومية كما جاء في المادة الخامسة وليس على مضمون الصك لأن هذا من خصائص المحاكم».
أما المسار الآخر في البناء الدستوري والنظامي للدولة والذي أولاه الملك المؤسس عنايته، فهو بناء المؤسسات وفصل السلطات، سواء بالنظر إلى المراحل التي مرت بها «السلطة التشريعية» منذ تشكيل المجلس الأهلي عام 1924 مروراً بتطورات تنظيمات وتشكيلات مجلس الشورى حتى صدور نظامه وإعادة تشكيله برئاسة نائب الملك في الحجاز عام 1927، أو إلى طريقة عمل «السلطة التنفيذية» بدءاً من تعيين الأمير (الملك) فيصل نائباً للملك في الحجاز عام 1926 وحتى تشكيل مجلس الوكلاء عام 1931، إضافة إلى تطورات عمل «السلطة القضائية» وصدور أنظمتها وتشكيلاتها عام 1927 مروراً بإنشاء عدد من المديريات والهيئات التنفيذية والرقابية واللجان المتخصصة التي أوكل لها إعداد بعض الأنظمة والقوانين.
لكن اللافت هو تشكيل لجنة عام 1927 من عدد من موظفي الحكومة القانونيين، من بينهم فؤاد حمزة بمسمى «لجنة سن النظامات»؛ وذلك لمساندة مجلس الشورى في إعداد الأنظمة التي تحتاج لها الحكومة، وأحسب أن تلك اللجنة تماثل هيئة الخبراء بمجلس الوزراء الآن.
وإذا كان الملك عبد العزيز قد وحّد أقاليم متفرقة ومختلفة في خلفياتها الثقافية والتنظيمية، فإن كل هذه التطورات التنظيمية والبناء القانوني للدولة في تلك الفترة المبكرة أدى إلى تحقيق رؤيته في بناء الدولة الموحدة المستقرة. وهنا يجب إعادة التأكيد على رؤية الملك المؤسس في بناء الدولة الموحدة ليس في أراضيها وشعبها فحسب؛ بل وفي قوانينها وأنظمتها ومؤسساتها التي مهدت لإعلان توحيد البلاد. لقد كانت الأعوام السبعة التي تلت مبايعة الملك عبد العزيز ملكاً على الحجاز عام 1925 وسبقت إعلان توحيد مملكتي نجد والحجاز وملحقاتهما وتسميتها المملكة العربية السعودية عام 1932، هي سنوات المخاض لبناء أنظمة ومؤسسات الدولة.
بيد أن هناك جانباً مهماً لم ينل حظه من البحث والتوثيق، ألا وهو تأهيل القادة؛ إذ أمر الملك عبد العزيز في شهر فبراير عام 1949 بإعداد برنامج لتأهيل الأمراء الشباب على أعمال الدولة والمهام الدبلوماسية الخارجية. وأعد مستشار الملك فؤاد حمزة برنامجاً يتضمن الأهداف وطريقة العمل وأماكن التدريب والأمراء المستهدفين وبرنامج المحاضرات والمحاضرين والمواد العلمية من كتب ومطبوعات وغيرها. إلا أن المستشار الآخر رشيد عالي الكيلاني لم يوافق عليه؛ لأنه كان يرى أن تؤسس مدارس ابتدائية ثم ثانوية ثم كلية حقوق ليتم الأمراء تعليمهم فيها. فؤاد حمزة عرض الرأيين على كبير مستشاري الملك الأمير عبد الله بن عبد الرحمن الذي أيّد رأي حمزة، وفقاً لروايته.
في شهر ديسمبر (كانون الأول) 1922، رأس الملك عبد العزيز وفد بلاده إلى مؤتمر العقير مع بريطانيا والعراق والكويت، وضم الوفد المرافق للملك المؤسس إلى المؤتمر مستشاره الدكتور عبد الله الدملوجي ومعتمده في العراق عبد اللطيف باشا المنديل.
الملك عبد العزيز خلال مؤتمر العقير عام 1922 (دارة الملك عبد العزيز)
وقتذاك لم تكن البلاد قد اكتمل توحيدها ولم يكن أحد من أبناء عبد العزيز أو أحفاده قد حصل على شهادة جامعية سواء في القانون أو في غيره من التخصصات. وبعد مائة عام وفي شهر يوليو (تموز) 2022، رأس الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز وفد بلاده إلى قمة جدة للأمن والتنمية، وضم الوفد السعودي 7 من أحفاد وأبناء أحفاد عبد العزيز ممن تلقوا تعليماً عالياً في أرقى الجامعات، بينهم أول مسؤولة تشارك في عضوية وفد سعودي إلى مؤتمر قمة، فإلى جانب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان هناك الأمراء عبد العزيز بن سلمان، وزير الطاقة، والأمير تركي بن محمد بن فهد، وزير الدولة عضو مجلس الوزراء، والأمير عبد العزيز بن تركي الفيصل، وزير الرياضة، والأمير عبد العزيز بن سعود بن نايف، وزير الداخلية، والأمير عبد الله بن بندر، وزير الحرس الوطني، والأميرة ريما بنت بندر بن سلطان، سفيرة خادم الحرمين الشريفين في واشنطن، إضافة إلى وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان، ووزير الدولة مستشار الأمن الوطني الدكتور مساعد العيبان. المفارقة أن نصف أعضاء الوفد تقريباً هم من المتخصصين في القانون!
الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز يقود وفد بلاده في قمة جدة للأمن والتنمية (أ.ف.ب)
لقد اختزلت صورة الوفد السعودي إلى قمة جدة للأمن والتنمية قصة بناء الدولة والإنسان السعودي، الذي كان وما زال هو الاستثمار الأكبر للمملكة العربية السعودية، منذ عهد المؤسس وحتى اليوم. هذه الصفحات المطوية والزوايا والجوانب، والإضاءات المشرقة من تاريخنا الوطني الحديث هي ما تستحق أن تبرز ويلقى عليها الضوء ويبذل فيها الجهد وتصرف لها العناية، ليس من قِبل الباحثين والمؤرخين فحسب؛ بل من قِبل الجامعات والمؤسسات العلمية والتعليمية المشتغلة بالتاريخ.
* كاتب وباحث سعودي