«حوارات القرن»... سيرة رواد الأدب العربي ومهارة الإعلام الثقافي

الإعلامي السعودي محمد رضا نصر الله يُصدر حواراته مع 150 شخصية عربية وعالمية

محمد رضا نصر الله مع توفيق الحكيم
محمد رضا نصر الله مع توفيق الحكيم
TT

«حوارات القرن»... سيرة رواد الأدب العربي ومهارة الإعلام الثقافي

محمد رضا نصر الله مع توفيق الحكيم
محمد رضا نصر الله مع توفيق الحكيم

في كتابه الضخم «حوارات القرن»، المكوّن من 3 أجزاء، بعدد 816 صفحة لكل جزء، يضع الإعلامي السعودي محمد رضا نصر الله، سجلاً ثقافياً زاخراً بالمعاني والأفكار والمواقف والآراء لـ150 شخصيَة عربية، معظمها من جيل الرواد في الأدب والنقد والفلسفة.
الكتاب في أجزائه الثلاثة، الصادر عن «المركز الأكاديمي للأبحاث»، يتعدى الحوارات الإعلامية التقليدية، ليقدم سجالاً فكرياً عميقاً، مع شخصيات مؤثرة في الثقافة والفكر والسياسة، كثير من القضايا التي أثيرت في تلك الحقبة ما زالت حية حتى اليوم.
وقيمة تلك الحوارات على الصعيد المعرفي أنها ما زالت نابضة بالمعنى والدلالة وكاشفة عن خفايا سيرة عدد من الرواد، وعلى الصعيد الإعلامي فإن تلك الحوارات قدمّت تجربة فريدة في العمل الإعلامي عبر الحفر عميقاً في سيرة الشخصيات التي تناولتها الحوارات، وشمولية القراءة العميقة لتجربتها، والبحث المضني عن أفكارها ومواقفها، في وقت كان الصحافي يمارس التنقيب والبحث بنفسه دون الاعتماد على وسائل الاتصال كما هي عليه اليوم.
وعلى الصعيد المهني، خاض الإعلامي محمد رضا نصر الله، القادم من الرياض في السعودية، وهي في ذلك الوقت لم تكن معروفة بوسائلها الإعلامية، ولم تكن صحافتها مداراً لسجالات التيارات الفكرية في العالم العربي. لكن محمد رضا نصر الله تمكن بثقافته الواسعة، وعزيمته الصلبة، وطريقته السلسة من إقناع رواد أمثال نجيب محفوظ وطه حسين بإجراء حوارات مطولة معه، سواء لصحيفة «الرياض» أو للتلفزيون السعودي. وفيما بعد بزغت قناة «إم بي سي» وكان لها وهج جاذبا سهّل مهمة نصر الله، وأعطاه دفعة إضافية لتقديم حوارات ذات صبغة ثقافية بعمق ورصانة.
فكرة الكتاب، جاءت بعد اإلحاح الإعلامي الراحل الدكتور عبد الرحمن الشبيلي، الذي شغل منصب مدير عام التلفزيون في السعودية، وكان إعلامياً ومذيعاً قدّم برنامج «شريط الذكريات» وهو برنامج أسبوعي يوثّق لتاريخ السعودية (1976)، وقبله برنامج «مؤتمر صحافي» حيث أجرى حوارات مع عدد من الوزراء والمسؤولين (1972)، وكان شديد الإلحاح على نصر الله في تفريغ ما سجله من مقابلات وإخراجها في كتاب... وسبق أن قام الشبيلي بتفريغ حواراته وإصدارها كذلك.


... ومع الجواهري

أجرى محمد رضا نصر الله أكثر من 1000 ساعة من الحوارات المتلفزة، من خلال برامجه: «الساعة تدق كلمة» و«هكذا تحدثوا» و«وجهاً لوجه» و«حدث وحوار» و«شؤون الساعة» و«مع المشاهير» و«هذا هو» و«ما بين أيديهم» و«ستون دقيقة سياسة» و«خارج الأقواس».
ومن أبرز الشخصيات الذين حاورهم نصر الله في هذا الكتاب: نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وحمد الجاسر، ومحمد مهدي الجواهري، وعائشة إبراهيم (بنت الشاطئ)، والطاهر وطار، ومحمد حسن عواد، وأدونيس، وعبد السلام المسدي، وعلي جواد الطاهر، وعبد الله البردوني، وفدوى طوقان، ومحمد الفيتوري، وغازي القصيبي، وسعدي يوسف، وسعيد عقل، وعبد الرحمن بدوي، وعبد الله العروي، وطيب تيزيني، وزكي نجيب محمود، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، ود. سعد البازعي، ومحمد عابد الجابري، وفهمي جدعان، ومحمد أركون، ود. عبد الله الغذامي، وهشام جعيط، وغيرهم.
المثير في هذه اللقاءات هي القصة التي تقف خلف كل لقاء، الصحافي السعودي الشاب بذل جهداً مضنياً في إقناع ضيوفه لخوض حوارات طويلة ومسجلة معه. يكشف نصر الله أن بعضهم كان يتمنع مسكوناً بنظرية المركز والأطراف، وآخرون لم يترددوا في طلب «بديل نقدي» ثمناً لإجراء تلك المقابلات... من بينهم توفيق الحكيم. لكن أغلب الضيوف وقعوا في «هوى» الصحافي الثقافي الذي أثبت حضوره وقدرته على الحوار وثقافته الموسوعية وسعة اطّلاعه وشخصيته الهجومية... حيث نسج شبكة علاقات شخصية مع الضيوف امتدت اللقاءات خلالها لأسابيع كما هو الحال توفيق الحكيم... كما نجح نصر الله في إقناع الفيلسوف عبد الرحمن بدوي بإجراء أول حوار صحافي معه... وربما كان الحوار النادر الوحيد الذي أُجري معه حتى رحيله. وقد نجح في إقناع فدوى طوقان بالحوار معه، وهي المعروف عنها التمنع عن مثل تلك الحوارات. وخلال لقائه الأول مع شاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري تمكن من تمديد الوقت الممنوح له من عشر دقائق إلى خمسين دقيقة، تلته لقاءات مطولة أخرى، تكللت باستضافة الجواهري في مهرجان الجنادرية في الرياض.
كذلك فإن أغلب الحوارات كانت تتناول مشاريع ثقافية وفكرية من قبيل الآراء التي احتوتها مؤلفات الرواد ومواقفهم المتعددة، وفيما بعد ساجل رواد المشروعات الفكرية مقدِّماً قراءات تفكيكية ونقدية وأدبية، أمثال: محمد عابد الجابري، وفهمي جدعان، ومحمد أركون، وعبد الله الغذامي، وسهيل زكّار، ورضوان السّيّد، وعلي حرب، ومن غير العرب: بول فندلي وصموئيل هنتنغتون (صاحب نظرية «صراع الحضارات») وفيتالي نعومكين وغيرهم.
مع توفيق الحكيم
عن بعض لقاءاته قال نصر الله: «سافرت إلى القاهرة صيف سنة 1974م وأنا على عتبة الدراسة الجامعية، لمقابلة توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور و... أمل دنقل».
بدايةً كان أمل دنقل، حيث التقاه في مقهى «ريش» الشهير، المتفرع من ميدان طلعت حرب، يقول: «اتفقت وأمل دنقل على إجراء حديث صحافي لجريدة (الرياض)... غير أنه اشترط أن أتكفل بعد الانتهاء من هذه المهمة العسيرة! بعشائه بطبق كباب! وأن يبيت في شقتي بشارع عماد الدين... وبين هذه الليلة وتلك، كان أمل يستجيب لطلباتي في إلقاء قصائده، عندما يكون مزاجه صفواً سلسبيلاً». أما اللقاء مع توفيق الحكيم فكان في شهر أغسطس (آب) عام 1974م، حين التقاه بعد مشوار بحث طويل في كازينو ومطعم بترو اليوناني في محطة سيدي بشر. يقول: «عند آخر درجات السلم وجدت أكثر من نادل، فلم أسأل أحداً منهم عنه... أخذت اتجاه اليمين، وفي الركن المقابل من آخر المقهى والمطعم وجدته هناك، وبنظرة خاطفة اتضحت لي هيئته وهو يخطو نحو الثمانين، إنه كما في الصور، البيريه الذي اعتمره على رأسه منذ كان في باريس، وعصاه المعكوفة منذ أصبح نائباً في طنطا، ومع اقترابي منه رأيت توفيق الحكيم». يضيف: «نسيت الرجل وهالته. سألته: هل أنت توفيق الحكيم؟، وهل هذه بيريه الحكيم؟ وهل هذه عصا الحكيم؟.
لم يتمالك عباس الأسواني الأديب والصحافي -تلميذ العقاد ووالد الروائي علاء الأسواني- نفسه وقد وجدني أتخايل بدشداشتي السعودية الحريرية الناعمة -كما عبّر بعد هذا بأسبوع في مقاله الطويل بمجلة (صباح الخير)- قائلاً: أيها السعودي... هوّن عليك... ألهذا الحد أنت معجب بتوفيق الحكيم؟ أجبته: إنني معجب بـ(فن) توفيق الحكيم».
يضيف: «أخذني الحكيم بيده الحانية وأجلسني إلى قربه، حيّاني بحرارة وبادرني: لعلّك لست من الغاضبين على كتابي (عودة الوعي) حال من وصلني تبرمهم في المملكة ودول الخليج؟ قلت له أتيتك لأسألك عن (حمار الحكيم) وبما أن الحمار الذي تورطت بشرائه بثلاثين قرشاً، وأسكنته غرفتك الفندقية قد مات، فإن العصا ما زالت باقية، فهل لي بحديث عنها؟ واستدركت من فوري متسائلاً: أين نجيب محفوظ؟ فقال: أصلك جيت متأخر. بكرة تعال بدري في العاشرة صباحاً، وسوف ترى نجيب محفوظ وحسين فوزي ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وإحسان عبد القدوس.
قلت له: وهل إذا جئت غداً سوف تقدم لي فنجان قهوة على حسابك؟ أجابني كاسراً صورة البخيل الزجاجية عنه: وحافطّرك! وفي صبيحة اليوم التالي استقبلني بحفاوة، وكان محفوفاً بأبرز كتّاب مصر وأدبائها، مع بقايا من أعضاء حزب الوفد المطربشين، أجلسني إلى جنبه الأيسر، منادياً ثروت أباظة القاصّ المصري من أصل تركي، بأن يطلب لي إفطاراً، مؤكداً أن أباظة مَن سوف يدفع فاتورته بوصفه سكرتيراً لاتحاد الأدباء المصريين! وهكذا ظللت مواظباً على حضور ندوة توفيق الحكيم يومياً لمدة شهرين، منذ العاشرة صباحاً حتى الثالثة عصراً، مسجلاً حواراتي الصحافية مع أعضائها، لنشرها في جريدة (الرياض)... وكان الحوار في الندوة سجالاً بين الحكيم وعناصر من اليسار الناصري حول كتابه الصاعق (عودة الوعي) ليردّ عليه الكاتب الناصري محمد عودة بكتابه (الوعي المفقود)».
نزار قباني
يقول نصر الله: «تعود معرفتي الشخصية بنزار قباني إلى أواخر شهر فبراير (شباط) سنة 1975، إذ كنت من المترددين الأوائل على مكتبة الحاج محمد مدبولي بالقاهرة (...) وذات مساء وأنا بين رفوفها أقلّب جديد الإصدارات المصرية واللبنانية، دخل علينا رجل منهك القسمات بادي الضعف في بنيته الجسمية، فما كان من الحاج مدبولي إلا أن يترك زبائنه، محتفياً به بالغ الحفاوة... وبعدها قدمني إليه: أديب شاب من السعودية. سلمتُ عليه معرفاً باسمي، وكانت دهشتي كبيرة حين ضغط على يدي محيياً، شاكراً مقالتي التي نشرتُها في جريدة (الرياض) عن أحد دواوينه الصادرة وقتذاك... كان ذلك الرجل هو نزار قباني».
شناشيل ابنة الچلبي
لا يكتفي نصر الله بالحوارات، ولكنه ضليع في البحث عن الأسرار وطرح القضايا. حدث أن وجد بين أرفف مكتبته وهو يتناول ديوان «إقبال وشناشيل ابنة الچلبي» إهداءً، من غيلان بدر شاكر السيّاب، موقعاً بعواطف غامرة بتاريخ 23 سبتمبر (أيلول) 1979... قاده إلى التنقيب عن سيرة بدر شاكر السياب.
يقول: «كنت ليلتها في دار السيّاب في البصرة، بعد زيارة إلى (منزل الأقنان) في قريته جيكور مسقط رأسه، وقد التقيت فلاحين من أهله وجيرانه، وصهره فؤاد عبد الجليل، وبنتيه غيداء وآلاء من زوجته إقبال. قبلها كنت قد اكتشفت من خلال قراءتي في كتاب (تاريخ الأقطار العربية الحديث) للمستعرب الروسي الضخم (لوتسكي) أن أسرة السيّاب كانت ذات ماضٍ إقطاعي، إن لم تكن بالمصطلح الماركسي، فكأنها على أي حال، أسرة امتلكت الأراضي الزراعية.
تساءلتُ: هل لهذا يستعيد السيّاب لا وعيه التاريخي هذا في ديوانه (منزل الأقنان)؟ فقد وجدتُ بيت أسرة السيّاب في جيكور فسيح الباحة كبير المساحة، بدا متهاوياً بأطلال مجدٍ غابر، وأصبح الشعراء العرب من زوار مهرجانات بغداد يقفون عليه، كما كان شعراء الجاهلية يقفون على أطلالهم، ويتأملون في (شباك وفيقة) إحدى ملهمات الشاعر، ويا لهنّ من ملهمات».
يضيف: «لم تتردد الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة، حين التقيتها في أبوظبي سنة 1996 في الحديث معي عن افْتِتَان السيّاب بجمالها الفاتن، وهما على مقاعد الدرس الجامعي في معهد دار المعلمين العالية ببغداد منتصف الأربعينات الميلادية من القرن المنصرم».
غازي القصيبي
الكتاب يحفل بلقاءات متعددة مع الأديب والوزير السعودي الراحل الدكتور غازي القصيبي، وبمقدار ما ربطت بين القصيبي والإعلامي نصر الله من صلات شخصية، فإن أي إطلالة للشاعر والأديب الراحل كانت تغذّي الفضاء العام بالكاريزما التي كان يتمتع بها القصيبي إنْ على مستوى العمل الحكومي كوزير أو كأديب وشاعر ما برح يمزج بين الصفتين في كل إطلالاته الإعلامية... لم يعتد نصر الله إجراء حوارات كثيرة مع السياسيين والمسؤولين، كان مفتوناً أكثر بالجانب الثقافي والأدبي، وحتى حواراته القليلة مع بعض المسؤولين العرب سرعان ما تتخذ في جانب منها منحى ثقافياً، لكنه مع القصيبي كان يحلّق في حوارية تمزج بين المسؤول الإداري والأديب الشاعر.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.